هل تعيق المناهج الرقمية التعلم؟!
أ.د. أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم | جامعة سوهاج
هناك العديد من التجارب العالمية الرائدة التي نجحت في تطوير نظام تعليمي قاد عملية التحول في بلدانها. وفنلندا واحدة من أكثرهذه الدول نجاحًا في مجال التعليم. فمنذ فترة – وبفضل حفاظها على ترتيب متقدم على اختبار بيزا – وصفت فنلندا بأنها أفضل نظام تعليمي في العالم. وأصبح اسمها مرادفا للتميز في التعليم،إلا أن ترتيب فنلندا تراجع قليلا في السنوات الأخيرة، تاركة المراتب الأولى لدول شرق أسيا.
وقد أظهرت دراسة حديثة في جامعة هلسنكي بفنلندا أن أحد الأسباب وراء هذا التراجع الأخير في تصنيف فنلندا على قوائم التعليم في اختبار بيزاPISA هو الزيادة في استخدام الأدوات الرقمية التي طرأت على التعليم.
خلال السنوات الخمس الماضية، وللحفاظ على الترتيب العالمي المتقدم،اتخذ صانعوا السياسة التعليمية في فنلندا قرارًا بإدخال مزيد من الأدوات الرقمية إلى الفصول الدراسية. وفي عام 2016 أعلنت وزارة التعليم عن خطط لتقديم 50 مليون يورو لمساعدة المعلمين على تعلم استخدام الأجهزة الإلكترونية في عملهم.
لكن يبدو أن هذه الاستثمارات الأخيرةلم تؤتِ ثمارها. تقول الباحثةالتي قادت هذه الدراسة، أينو سارينن، إنها وجدت أنه كلما زاد استخدام الأدوات الرقمية في الفصول، كانت نتائج التعلم أسوأ. وقد ظهر ذلك في جميع مناطق قياسات بيزا، وأشارت الباحثة إلى أن ذلكلا يعود إلى عدم قدرة الطلاب على استخدام هذه الأجهزة، بل إن أجهزة الكمبيوتر المحمولة أو الأجهزة اللوحية نفسها يمكن تؤدي إلى تشتت انتباه الطلاب، وغالباً ما يتحول استخدامها داخل الفصل إلى أغراض أخرى غير تعليمية. وقالت سارينن إن النتائج لم تكن مفاجئة لها إلى حد بعيد، فهناك نتائج مماثلة لها من بحوث متنوعة في دول أخرى. وربما لاحظ الكثير من الآباء نفس الشيء في المنزل!
وإلى جانب زيادة استخدام الأدوات الرقمية، أدخلت فنلندا في عام 2016 استراتيجيات “التعلم القائمة على الظاهرة”. في التعليم والتعلم القائم على الظاهرة يتم دراسة الظواهر باعتبارها كيانات متكاملة، في سياقها الحقيقي، ويتم دراسة المعلومات والمهارات المتعلقة بها من خلال عبور الحدود بين الموضوعات. والظواهر عبارة عنموضوعات شاملة مثل الإنسان، الإعلام والتكنولوجيا، الماء أو الطاقة. وتختلف نقطة البداية عن ثقافة المدرسة التقليدية التي تقسم المناهج إلى موضوعات صغيرة ومنفصلة نسبياً.
تشجع هذه الطريقة في التعلم الطلاب على أن يصبحوا أكثر نشاطًا في دراستهم، وعلى التعاون في مجموعات الدراسة والبحث.تختلف العملية تمامًا عن طرق التدريس القائمة على الموضوع، حيث يتم منح الطلاب مزيدًا من المسؤولية الشخصية مقارنة بالطرق الأقدم والأكثر تقليدية. ووفقًا لـ “سارينن”،هذا النوع من التعلم ينجح مع الطلاب الذين يؤدون أداءً جيدًا في المدرسة ويتلقون الدعم من المنزل، لكن عادة ما يواجه الطلاب الأقل قدرةخطر التأخر في بيئة مثل هذه البيئات.
وقد ادعى أنصار هذه الطريقة أنهاستردم الفجوة بين الطلاب من خلفيات أكاديمية مختلفة. ولكن هذه الدراسة لم تؤيد هذا الافتراض،بل كان الأمر على عكس ذلك تماما.وذكرت الباحثة أنجنس الطالب يمثل أحد عوامل الخطر (خاصة الذكور)، فقد كان هناك انخفاضات في السنوات الأخيرة، وحصل الذكور بانتظام على درجات أسوأ بكثير من البنات.
قامت هذه الدراسة بشكل أساسي على بيانات اختبار بيزا الذي تنظمه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) كل ثلاث سنوات،ويشارك فيهالطلابفي سن الخامسة عشرة من 72 دولة،وهو اختبار يهدف إلى قياس المهارات اللغوية والرياضية والعلمية لأطفال المدارس في جميع أنحاء العالم.
وقد قامتالباحثة سارينن بفحص نتائج “بيزا” من عامي 2012 و 2015، من خلال درجات الاختبار لأكثر من 5000 تلميذ.وقالت إن عوامل الخطر الأخرى للطلاب تشمل الغياب في كثير من الأحيان من المدرسة، الذين يعيشون في أسرة واحدة، أو أسرة محرومة أو مهاجرة.وقالت إن التعليم المرتكز على الظاهرة له تأثير سلبي بشكل خاص على النتائج في موضوعات الرياضيات والعلوم. وعمومًا، تنتقد الدراسة طريقة إعطاء الطلاب مزيدًا من المسؤولية عن تعليمهم الخاص، وترى أن التعلم المستند إلى الظاهرة يستلزم انضباطًا ذاتيًا قويًا ومبادرة من الطلاب، كما تتطلب من الطلاب أن يكون لديهم درجة عالية من الاستقلالية والتركيز والمرونة.إلا أن امتلاك هذه الصفات لا يبدو سهلا أو في متناول جميع الأطفال في سن 15 عاماً.
على الرغم من أن هذه الدراسة قد قادت إلى استنتاج مفاده أن المناهج الدراسية الأقدم في فنلندا تعطي نتائج أفضل، إلا أنها لا تعتقد أنه من الممكن أن تعود الفصول الدراسية إلى ماضيها – أي ما قبل استخدام التقنية الرقمية. وأكدت الدراسة على أنه لا يزال يتعين على التربويين وصناع السياسة التعليمية التفكير في متى وكيف تستخدم هذه الأدوات. وأنه يجب ألا يكون استخدام الأدوات الرقمية هو الهدف الرئيسي.