قراءة لقصيدة ” هديل الغياب ” للشاعر عبد الحق بن سالم(٢)
طارق المأمون | أديب سوداني
هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ
و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ
و هل ينام شوق أو يخلد لراحة ، لولا أن الشاعر يصف لحظة ذات خصوصية زاد فيها الشوق وما كان ناقصا و حما و ما كان باردا و هب ما كان راقدا ، فاضطرب القلب بعد أن مضى مع من مضى ، ليعاود الشوقَ القلبُ مرارا و يسائله لعله أعلم عن هذه الحسرة و ما أجمل صورة الشوق المذهول الواقف المتحفز لسؤال لا يعرف جوابه و القلب العائد من وداع حبيب و الجمال يزداد حين يلح التسآل في ذهن المتلقي ما الذي فرق الشوق عن قلبه الذي يسكنه لعلها اللوعة و الحزن و الحسرة ، و الفكر يجذب الكلمات جذبا فعاد كلمة مختارة بعناية كما حرف الواو الذي يفيد تكرار العودة ، فالعودة ليست واحدة بل عودات فتزداد الصورة جمالا لقلب لا يكاد يصدق أن المحبوب قد فارق أرضه ودياره فيذهب ليتأكد ثم يعود ليسأل ثم يعاود الذهاب و الحضور بين مصدق ومكذب ، هكذا يقول حرف الواو كما قال حرف التاء في تلفت قلب الشريف الرضي :
و تلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب
و لعل الفكر هو من حدا بالشاعر الى هذا اللحن الفكري وليس اللغوي أو المعنوي، فالحزن ليس مستقرا للأحاسيس كالقلب و الفؤاد و النفس و الروح ، فالحزن حاسة معنوية بعينه ، و أخال الشاعر المفكر استثقل تكرار كلمة القلب أو أراد أن يزيد الحزن ضغطا و ألما وجدانيا بإضافة الحسرة إليه ، وهو ما لم يستسغه تذوقي بل فكري ، ترى لو تم تغيير هذه الكلمة الى الروح أو النفس أو ما يكون وعاء حسيا يحتمل إضافة الحسرة المعنوية إليه أيكون أحلى أم أن الحاضر حاضر الهادي آدم :
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً .. إنما الحاضر أحلى
و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ
ما أجمل يلتحد هنا و أبلغها ، و أجمل منها هيجان عيون النوى ففيضها كالسيل الجارف بالهجران بعد الوصال و بالبعد بعد القرب..
بكلٍ تداوينا فلم يشفِ ما بنا على أن قُربَ الدار خير من البعدِ
على أنّ قَرْبَ الدارِ ليس بنافعٍ إذا كان من تهواهُ ليس بذي عهدِ
(و قال يخبره) هي الحسرة إذن ، و هل الحسرة إلا سمر القلب و الشوق في غياب الحبيب
نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ مِن الهَوى ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ
أو هي الحسرة و العمر قد ولت أيامه لا كأيام صاحبة محمد سعيد العباسي المقبلة :
وقد سلا القلب عن سلمى و جارتها
وربما كنت أدعوه فيعصينى
ما عذر مثلي لاستسلامه لهوى
يا حالة النقص ما بى حاجة بينى
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني
فتانة اللحظ ذات الحاجب النون
يا بنت عشرين و الأيام مقبلة
ماذا تريدين من موعود خمسين؟
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوىلا
أطيعه ، وحديث ذو أفانين
و لا عزاء لنا ، فيا حالة النقص ما بي حاجة بيني أي فارقيني و البين و البينونة الفراق ،و حالة النقص إن لم تروض النفس على هجرها تملكتها
والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ
والنفسُ من شَرِّها في مرتع وخم
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فكن طالباً في الناس أعلى المراتب.
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام.
و لات حين سامع ، فالعمر لم يعد فيه متسع و ما أجمل كلمة يلتحد و الملتحد الملجأ تجدها في قول الله تعالى: (ولن أَجِدَ من دُونه مُلْتَحَداً إِلا بلاغاً من اللهِ ورِسالاتِه )أم ترى الشاعر أراد أنه لو أمضى العمر كله يبحث عن ملجأ يحتمي به من الحسرة و الحزن لما وجد ، و ما ذلك إلا من هول ما يجد ، و المعنيان جليلان جديران بالإعتبار.
يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ
جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ
و هنا يطل السبب الذي لم يكن خافيا إنه فراق الحبيب الذي ارتحل وما أشد وقع الفراق على القلوب المحبة ، و يحل ذكر الفراق والهجر و النوى و البين مرتبة مقدمة في شعر المحبين ، و هل الحب إلا لوعة فراق أو حرقة بين أو زفرة هجر … يقول المنفلوطي : ” وما تفجرتْ ينابيعُ الخيالاتِ الشعرية ، والتصوراتِ الفنية ، إلا من صدوعِ القلوب الكسيرة ، والأفئدة الحزينة ” . مما يجعل الإتيان بشعر ذي معنى جديد وسط هذا الكم الهائل من أبيات الفراق شيئا عسيرا:” قال أسامة بن منقذ:
“شكا ألمَ الفراقِ الناسُ قبلي
ورُوِّعَ بالنوى حيٌ وميتُ
وأمّا مِثْلُ ما ضَمَّتْ ضلوعي
فإِني ما سَمِعْتُ ولا رَأَيْتُ”
و قال طارق المأمون:
كلهم ذاق الهوى لكنهم
ما رأوا مثل الذي في أضلعي
نبأت عني أساطير الهوى
فادعى كل محب موقعي
و وصف نصيب ابن رباح المحبين:
“ومافي الأرضِ أشْقَىْ من مُحِبٍّ
وإِن وجدَ الهوى حلوَ المذاَقِ
فيبكي إِن نَأوا شوقاً إِليهم
ويبكي إِن دَنَوا خوفَ الفراقِ
فتسخُنُ عينهُ عندَ التنائيْ
وتسخنُ عينُه عند التلاقي”
و يكفي الشاعر أن يعبر تعبيرا جميلا صادقا يستجلب الصور و يحرك الكلمات و يثير المشاعر حتى و إن سبقته المعاني و فاتته الكلمات فإن تفنن و أتى بجديد يضاف الى القديم فذلك هو الشاعر الشاعر