جلال
يكتبها : محمد فيض خالد
ما أقسى تَصاريف الأيّام، ها أنا ذا انصرِف عن طريقي الذي سَلكتهُ خمسة أعوامٍ، تَتردّد في صدري مشاعرَ الكُره، اجدني بمفازةٍ من العذابِ في وجهةٍ اطويها، اُطالِع مطلع كُلّ صباحٍ طريقي؛ من عينينِ تجولُ بهما أطياف الدَّمع ، لا يَعرِفُ ما أُكَابِدُ غيرَ حقيبة كتبي، التي اُتخِمت بحملِ بعيرٍ، كتب وكراسات احملها طوعا وكرها، وصُحبة طريقٍ لا أجدُ في رفقتهم إلّا التَّشَاكس والتَّراشق بالمعَايبِ، ومعاركَ لا نهاية لها، وصياد مجهول انشقّت عنه الأرض، يَستوطنُ الطريق بياض النّهار وطرفا من الليلِ، يقف في شموخِ المارد المهيب، يَذرع الطّريقَ جِيئة وذهابا، لا يسلم منه سالِك، ” جلال ” هكذا ينادونه، ما أقسى مرآه في أسمالهِ البالية، وسحنتهِ المُكفَهرة ، وأقدامه الحافية الخَشنة ، يُلوِّحُ بعصاه الغليظة في طيشٍ مُريع؛ يملأ تَصايحه المُخيف زِمام الفَضاء، ليرتطم بقلوبِ المارة، فترى وجوههم مصفرة ، ترهقهم ذِلة، قد زَاغت الأبصار ، وبلغت القلوبُ الحَنَاجِر ، يَودّ أحدهم لو يفتدي من هَولِ سَاعتئذٍ ببنيهِ وصَاحِبتهِ وأخيه، وفصيلته التي تُؤويهِ، صغيرا شُغلِتُ بأمرِ قاطع الطَّريق هذا، تواردت القصص عن شَمسِ فتوته وشبابه المنصرم ، لازالت كلمات الريس ” مزارع ” الخشنة تستفز أذني:” خرجت عليه جنية وهو راجعٌ من العسكريةِ ، بعدما سَلكَ طريق المقابر وسط أكداس الظَّلام ، احتالت عليهِ حتّى مسّ يدها ، فسلبته عقله وطاش لبّه”، أصبحَ مجرد التَّفكير فيهِ يطردُ عني أيّ مظهرٍ من مَظاهرِ البَهجة ، اجدني وقد انفلتَ زِمام عقلي مُتنَقلا بين متاعب لا حدَّ لها ، انسلخ عن أماني الصَّبيان من حولي ، ممّن تبَاروا في تِعدادِ المَشاهي والمُتَع، فمن قائلٍ:” لا فِكَاك من شراءِ العسلية ، ومن متردّدٍ حائر بين لذةِ القصب وأقماع الجَلاّب “، أمّا أنا ففي يأسٍ مُقيم ، وزهدٍ مطبق ، حتّى إذا ما قطعنا نصف المسافةِ، وتلوثت أجسادنا بترابِ الجِسر الخانق ؛ إلّا وتشكلت أمامي هيئة ” جلال ” بلحيتهِ المغبرة ، وابتسامته الميتة التي تقطر شرا ، عندها تَتلجلج مفاصلي ، وتتوانى خطواتي ، يُخامرني شعور القهر والضّياع، في استحياءٍ تنَسابُ مدامعي حارة ، أعاجلها بكمي، مُتلهيا عنها قليلا بتفاهاتِ رِفَاقي، الذين استسلموا لوطأةِ ذَاكَ الكابوس، ولسان حالهم يقول في استماتةٍ:” العمر واحد والرَّب واحد “، في تلك الدقائق يَتبادر إلى ذهني كلام شيخ الغفر” محفوظ ” مُتناصِحا في فزلكةِ فطاحلة رجال القانون :” جلال لو ضرب العمدة ذات نفسه وموته مش هياخد فيه ساعة سجن ، دا مخبول رسمي ومعاه شهادة بكدا”، اسقط ساعتها مُتحَسِّرا على نفسي، اتذكّر ما تناثرَ حَولَ سورِ المدرسةِ من ملاهي، الترمس ، الجيلاتي، الحمصية، وطعمية الحاجة ” موزة” التي تفوق الكباب مذاقا ، كم تمنيتُ مِرارا ؛ لو كنتُ نسيا منسيا ، أو دابة من دواب الطّريق تجهل حقيقة ” جلال” فلا تخشاهُ، ارميه من طَرفٍ خفي مُقبلا في عُجالةٍ ، يُبرطمُ شاتما، يسبُّ ويلعن ، اقسِمُ بأغلظِ الأيمان بأن الدِّماء تهرب من عروقي ، لا املكَ غير الدّعاءِ ، يراودُ خاطري أمل عزيز؛ أن يرزقني الله تعالى منجاة تغشيه عني فلا يبصرني .
لا اُنكِرُ رحمة العناية الإلهية ولطفها بي، تنشق الأرض عمن يُبدِّد مخاوفي أمنا ، عابر سبيل يجرُّ بقرته، أو سائق عربة ” كارو” ألوذُ بهِ مُتحننا ، متناسيا لدغات ” كرباجه” ، لم يكن ” جلال ” شرّ كله ، بل كانَ في مراتٍ نجدة من السّماءِ، اهتاج ” ناظر ” المدرسة يوما ، مُستنكِرا أفعاله ، وكيفَ أصَبحَ ذاكَ المعتوه عقبةً كؤود ، في طريقِ التلاميذ ، وآن الأوان من تدخل الجهاتِ المعنية للحدّ من أفعالهِ، وتلك لعمرك فاتحة خير ، سهلت على أمثالي التعلّل، فالتأخر عن الطَّابورِ مباح ولا حرج .
جلستُ إلى عمي يقصُّ عليّ من سيرِ الغابرين ، وإذ بيدٍ ثقيلة تحطُّ فوق كتفي ، وصوتٌ قاسي النَّبرة يندلقُ قائلا:” معاك سجاير “، انفرجت أسارير عمي ، أشّرَ لهُ بالجلوسِ في ترحابٍ ينبيء عن سَابقةِ معرفةٍ ، كانت صدمتي مهولة ، ومصيبتي تفوق الوصف ، وأنا اجلس إلى جوارِ ” جلال ” ، نعم ! ، إنّه هو بشحمهِ ولحمهِ، اسودّت الدُّنيا واحمرت في عيني ، اخرجني الذّعر عن طوري ، فجعلت أحبو كالصّغارِ ، عاجزا عن القيام ، كَان عمي من الحكمةِ لأن يفطن لِما يدور ببالي ، انفلت في شدةٍ قائلا :” دا ابن اخويا بيروح المدرسة عندكم، خلي بالك منه”، هزَّ صاحبنا رأسهُ مُؤمِّنا على كلامهِ، وهو يسحبُ آخر أنفاس سيجارته، اخبرني عمي أن ” جلال” صديق عمره ، أمّا أمر جنونه فكذبةٍ أذاعها ،يتَكسَّب من وراءها، وتضفي عليه هيبة ووقارا ، عادت الحياة إلى جسدي المهمل، ودبّت الثقة رويدا في قلبي الكسير ، لأجدني وقد هانَ أمر ” جلال” ، حتّى آنست بهِ، فقادتني الثقة لأن ألقي إليهِ بتحياتي ، وإن لم يرد سلامي ..