من أسرار اللغة – الفتنة (1)

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه | مصر – أستاذ اللغويات التطبيقية – جامعة جنوب الوادي

المقدمة:

يعاني كل من له خبرة بالترجمة من صعوبات إيجاد المكافئ الدلالي والتركيبي والثقافي المناسب لألفاظ الأصل وتراكيبه. ويزداد الأمر صعوبة عند ترجمة النصوص التراثية التي تختلف دلالات الكثير من ألفاظها عن المعاني المتداولة حديثا، كما أن تركيب العبارات التراثية كذلك له إشكالات كثيرة فيما يخص التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، واستخدام المحسنات الجمالية، إلى غير ذلك. غير أن أصعب النصوص ترجمة هي النصوص الدينية؛ فالمترجم الآن لا ينقل أفكارا فقط، بل يضطلع بنقل روح رسالة دينية قد تؤدي إلى تلقي أصحاب الألسنة الأخرى للنص المترجم بالرضا والقبول والروحانية، وقد يؤدي إلى التنفير والالتباس والتشكك.

وترجمة معاني القرآن الكريم بالذات لها إشكالات عدة؛ فالترجمة ههنا ليس نقلا للنص – الذي هو نص مقدس لا يستطيع أهل اللغة أنفسهم الإتيان بشبيه له أو قريب منه – ، كما أنها ليست شروحا تفسيرية له، وإلا كان الأيسر على المترجم أن يترجم أحد كتب التفسير الموجودة بالفعل. لكنها ترجمة معاني، يعني نقل ما يُفهم من التعبير القرآني الحكيم بألفاظ في لسان أعجمي ليفهم عنها المتدينون من غير العرب المعاني البسيطة للآيات، وإن أرادوا الاستزادة، فعليهم الرجوع للتفاسير كما يفعل أهل العربية أنفسهم.

ورغم وجود عشرات الترجمات لمعاني القرآن الكريم بلغات متعددة، تبقى كل هذه الترجمات قاصرة عن توصيل جوانب من معاني الألفاظ القرآنية. وتعد اللغة الإنجليزية أكثر اللغات التي ترجمت إليها معاني القرآن الكريم – ولازالت محاولات جديدة تنشر كل عام. وفي هذه السلسلة من المقالات، أستعرض لفظا قرآنيا أو تركيبا معينا له دلالات مختلفة، وأرجع فيه إلى بعض المعاجم اللغوية والتفاسير الشائعة، ثم أنظر في ترجمات عشر مترجمين لمعاني القرآن باللغة الإنجليزية لأرى كيف تعامل المترجمون مع هذه الإشكالات. وفي ذلك نقد للترجمات المتاحة، وتأصيل وتفصيل للمعاني الثقافية واللغوية الملتبسة، وتوجيه للمحاولات الجديدة في الترجمة، وتوجيه كذلك للباحثين في هذه الحقل الخصب من حقول علم اللغة ألا وهو علم اللغة التقابلي.

وعلم اللغة التقابلي Contrastive Linguistics  هو من فروع علم اللغة والذي يعني بالتقابل بين اللغات وبحث التشابهات والاختلافات، وكان في أول ظهوره في أوائل القرن العشرين مساقا دراسيا في أساليب تعليم اللغات Language teaching methodology وكان الظن به أن ينتج لنا قوائم من التشابهات والاختلافات بين اللغات، وبالتالي يستطيع التربويون ومصممو المناهج التنبؤ بالأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المتعلمون بناء على التشابهات والاختلافات. لكن سرعان ما أتت نتائج الدراسات الميدانية تثبت أن أخطاء الطلاب لا تحدث نتيجة الاختلافات بين اللغات فقط وأن تمكنهم من اللغة المتعلمة لا يعتمد على التشابهات مع لغتهم الام فقط، بل هناك عوامل أخرى للأخطاء، بل ربما كانت التشابهات أدعى لارتكاب الأخطاء من الاختلافات. لذا ولد علم آخر هو علم تحليل الأخطاء Error Analysis  وبينما كان علم اللغة التقابلي يتنبأ بالأخطاء قبل حدوثها، جنح علم تحليل الأخطاء إلى تحليلها بعد وقوعها، وترتب على دراسات تحليل الأخطاء ظهور نظريات تربوية ولغوية في أساليب تصويب الأخطاء، وبقي علم اللغة التقابلي يستفاد به في الدراسة النظرية للتقابل بين أنظمة اللغات. غير ان هذا العلم فقد كثيرا من رونقه بعد انفصاله عن أساليب التعليم، ولم يعد يقبل عليه إلا القليل من الباحثين. وتأتي فائدته الكبيرة في مجال آخر من مجالات اللغويات التطبيقية، وهو مجال الترجمة التي لا يستغني فيها المترجم عن التبحر في اللغتين المعنيتين بما يحقق أفضل نتيجة ممكنة لنقل المعاني بين اللغات.

 

الحلقة الأولى: الفتنة

مصطلح الفتنة من المصطلحات الثقافية والدينية التي تستعصي على الترجمة للإنجليزية وغيرها من اللغات وذلك للخلفيات الثقافية والدينية التي تحملها. فهي تشير إلى محنة distress وابتلاء trial واختبار test ولكنه هذا الابتلاء خفي nontransparent لا يعرف الإنسان أنه ابتلي به الا بعد رسوبه في الاختبار failed the test وبهذا يكون قد فُتن، أما نجاحه في الاختبار فمرهون بمعرفته أنها فتنة من البداية. والأمر يزداد تعقيدا عندما تحمل المعاني كذلك الإغواء والميل القلبي نحو موضوع الفتنة temptation، سواء كان الميل لمباح كالمال والأولاد [إنما أموالكم وأولادكم فتنة] أو ما هو غير مباح seducing، وقد يتمثل في اعتداد كل شخص برأيه وظنه أنه الوحيد على صواب وأن من حوله على خطأ [المفتون sophomaniac / dogmatic].

كذلك تحمل الكلمة معنى الاقتتال agitation والتحريض على القتل sedition والصراع strife والتقلبات السياسية turmoil, disorder, unrest وربما تؤدي إلى تغييرات كبرى دينية وسياسية subversion ,putsch, coup وهذا كله طبعا بعيد عن معنى فتنة النساء , attractiveness, charm واغوائهن seduction.

 ولما كانت لا توجد كلمة واحدة في الانجليزية تعبر عن هذا الكم من الايحاءات الدلالية، فنهج المترجمين فيها طريقان: إما (بالنقحرة (أي النقل الحرفي transliteration فيبقون على صوتها بحروف أعجمية Fitnah, Fitna, Fetna. والطريق الثاني هو النظر في أحداث الفتنة أو مآلاتها. وهذا ما اختاره مترجم كتاب طه حسين “الفتنة الكبرى” “the Great Subversion  

وقد ذكر العلماء أحد عشر معنى للفتنة في القرآن:

  • الابتلاء والاختبار : كما في قوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) العنكبوت/2 أي وهم لا يبتلون كما في ابن جرير
  • الصد عن السبيل والرد : كما في قوله تعالى ( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك) المائدة/ من الآية49 قال القرطبي : معناه : يصدوك ويردوك .
  • العذاب : كما في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:110) فتنوا : أي عذبوا .
  • الشرك ،والكفر : كما في قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) البقرة/193 قال ابن كثير: أي شرك .
  • الوقوع في المعاصي والنفاق : كما في قوله تعالى في حق المنافقين ( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِي)الحديد/ من الآية14 قال البغوي :أي أوقعتموها في النفاق وأهلكتموها باستعمال المعاصي والشهوات .
  • اشتباه الحق بالباطل : كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) لأنفال/73 فالمعنى : ” إلا يوالى المؤمن من دون الكافر ، وإن كان ذا رحم به ( تكن فتنة في الأرض ) أي شبهة في الحق والباطل .” كذا في جامع البيان لابن جرير .
  • الإضلال : كما في قوله تعالى : ( ومن يرد الله فتنته ) المائدة / 41 ، فإن معنى الفتنة هنا الإضلال .البحر المحيط لأبي حيان ( 4 / 262 )
  • القتل والأسر : ومنه قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) النساء / 101 . والمراد : حمل الكفار على المؤمنين وهم في صلاتهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم . كما عند ابن جرير .
  • اختلاف الناس وعدم اجتماع قلوبهم : كما في قوله تعالى : ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) أي يوقعوا الخلاف بينكم كما في الكشاف ( 2 / 277 ) .
  • الجنون : كما في قوله تعالى (بأيِّكم المفتون) .فالمفتون بمعنى المجنون .
  • الإحراق بالنار : لقوله تعالى : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) (البروج :10 ) 

قال ابن حجر : ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن . 

وننظر الآن في ترجمة آيتين تتباين فيهما دلالة الفتنة تباينا كبيرا:

إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم (التغابن: 15).

 Sahih International: Your wealth and your children are but a trial, and Allah has with Him a great reward.

Yusuf Ali: Your riches and your children may be but a trial: but in the Presence of Allah, is the highest, Reward.

Shakir: Your possessions and your children are only a trial, and Allah it is with Whom is a great reward.

Muhammad Sarwar: Your property and children are a trial for you, but the reward (which one may receive from God) is great.

Mohsin Khan: Your wealth and your children are only a trial, whereas Allah! With Him is a great reward (Paradise).

Arberry: Your wealth and your children are only a trial; and with God is a mighty wage.

The Study Quran: Your property and your children are only a trial; and God—with Him is a great reward.

كلمة trial  هي التي استخدمها هؤلاء المترجمون الخمسة، وهي مناسبة لمعنى الابتلاء والامتحان، من فعل try somebody  بمعنى يختبر معدنه، واختلفوا في ترجمة الأموال ما بين  wealth, riches, property, possessions

Jusur: Indeed, your wealth and your children are but a means of trial, while with Allah is a great reward.

أضافت ترجمة جسور بعدا جديدا ب  a means of trail  بمعنى أن الابتلاء والاختبار ليس في الأموال والأولاد وإنما في ما يترتب على الارتباط القلبي بهم؛ فهما من سبل الابتلاء. 

Pickthall: Your wealth and your children are only a temptation, whereas Allah! with Him is an immense reward.

Ghali: Surely your riches and your children are only a temptation; (as for) Allah, in His Providence is a magnificent reward.

خالفهم بيكتول وغالي واستخدما كلمة temptation  التي تعني الإغواء والمحبة الطاغية، وفي رأي هي أقرب للمقصود من trail.

AbdulHaleem: Your wealth and your children are only a test for you. There is
great reward with God.

أما عبد الحليم فقد خالف الجميع واستخدم الكلمة العامة البسيطة  test ، وهي لا تحمل معنى الابتلاء أو الاختبار الإلهي كما تحمله trial لكن بها ميزة الإيحاء الإيجابي؛ لأن trail  ترتبط بإيحاء الصعوبة والثقل والمحنة (وهو ما يقابل الابتلاء المشتق من البلاء)، في حين  test قد توحي بسهولة الاختبار وخفته على المؤمنين، وأن السبيل إلى اجتياز الاختبار هو في الآية التالية (لذا وضع عبد الحليم بين الآيتين نقطتي التفسير [:])  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ.

لكن الملاحظ أن جميع المترجمين العشرة أحجموا عن استخدام النقحرة Fitnah، فلنرى ما فعلوا في آية ثانية:

وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا(الأحزاب: 14)

ينبغي أن يُعلم أولا أن الضمير في أقطارها عائد على المدينة المنورة، والمعنى: ولو دُخلت المدينة على هؤلاء القائلين (إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ)من أقطارها، يعني: من جوانبها ونواحيها، ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك (لآتَوْها)يعني لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا. و)ما تَلَبَّثُوا بها إلا يَسِيرًا( يعني: ولأسرعوا إلى ذلك.

Sahih International: And if they had been entered upon from all its [surrounding] regions and fitnah had been demanded of them, they would have done it and not hesitated over it except briefly.

Mohsin Khan: And if the enemy had entered from all sides (of the city), and they had been exhorted to Al­Fitnah (i.e. to renegade from Islam to polytheism) they would surely have committed it and would have hesitated thereupon but little.

استخدم محسن خان والصحيحة الدولية النقحرة  fitnah, AlFitnah وأوضح خان معناها بين القوسين (الرجوع عن الإسلام إلى الشرك).

Pickthall: If the enemy had entered from all sides and they had been exhorted to treachery, they would have committed it, and would have hesitated thereupon but little.

The Study Quran: Had they been entered upon from the sides of the city, then were exhorted to treachery, they would have committed it and would not have hesitated, save a little,

رأى بيكتول وسيد حسين نصر أن الفتنة هنا هي الخيانة الحربية treachery  وليست الردة.

Yusuf Ali: And if an entry had been effected to them from the sides of the (city), and they had been incited to sedition, they would certainly have brought it to pass, with none but a brief delay!

ومثله فعل يوسف علي الذي رأى الفتنة هي التحريض على القتال ضد المسلمين (العصيان) incited to sedition وليس الردة عن الدين..

AbdulHaleem: had the city been invaded from all sides, and the enemy invited them to rebel, they would have done so almost without hesitation.

وكذلك عبد الحليم رأى الفتنة هي العصيان وشق عصا الطاعة  invited to rebel

Shakir: And if an entry were made upon them from the outlying parts of it, then they were asked to wage war, they would certainly have done it, and they would not have stayed in it but a little while.

ومثله شاكير الذي رأى الفتنة تسعير الحرب to wage war

Muhammad Sarwar: Had the army of the enemies invaded their homes and asked them to give-up their religion, they would have yielded to them without delay.

خالفهم سرور ورأى الفتنة في الرد عن الدين give-up their religion

Arberry: And if entrance had been forced against them from those quarters, and then they had been asked to apostatise, they would have done so, and but tarried about it briefly.

وقريب منه ما فعله أربري الذي رأى الفتنة الارتداد عن الدين  asked to apostatize

Jusur: And had it been invaded from all its sides, then they were asked tribulation,
they would have brought it and tarried not but a little.

استخدمت ترجمة جسور تعبير tribulation  وهو يشير لمحنة عظيمة، لكن الكلمة تستثير في الذهن الغربي إشارة إلى آخر الزمان كما ورد في سفر الرؤيا في إنجيل متى، وهي محنة الحصار والكوارث والسحق التي تسبق عودة المسيح، وربما قصد المترجم إلى بيان أن هذه الفتنة التي كانت في غزوة الأحزاب كانت كفيلة بالقضاء على الإسلام وسحقه كما يقع في محنة آخر الزمان عند إنجيل متى.

Ghali: And if (the city) had been entered upon them from its (adjacent) regions, and thereafter they had been asked sedition, (Literally: temptation; i.e, if the hypocrites had been asked to apostatize from Islam) indeed they would have brought it forth and in no way would they have kept lingering in it except a little while. (Literally: an easy (while).

أما الدكتور غالي فأدرك إشكالية الفتنة في هذا السياق، فاستخدم العصيان  sedition  لكنه أضاف تفسيرا مطولا يقول فيه أن المعنى الحرفي هو الإغواء والمعنى السياقي هو دعوة المنافقين للردة عن الإسلام).

******

إذن بينما استخدم المترجمون العشرة 3 ألفاظ فقط في ترجمة الآية الأولى (trial, test, temptation)، استخدموا 9 ألفاظ وتعبيرات مختلفة لترجمة الفتنة في الآية الثانية، وهو يدل على تعقد المعنى وصعوبة إيجاد المقابل الكافي ولا أقول التام للكلمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى