لا للصعود على جماجمهم
سميح محسن | شاعر وكاتب فلسطيني
“لا تضعوني في الثلاجة، فأنا لا أحب البرد، وادفنونى مع أطفال حتى لا أكون وحيداً”.
بهذه الكلمات التي هزّت ضمائرنا، واستقرت في غُسان القلب، خاطبنا الطفل الشهيد غيث يامين، ابن السادسة عشرة من عمره في وصيته الأخيرة قبل صعوده إلى السماء بساعات قليلة. ففي فجر يوم الأربعاء الموافق الخامس والعشرين من أيار (مايو) عام ألفين واثنين وعشرين اخترقت رصاصة أطلقها أحد جنود الاحتلال رأس هذا الطفل، فأنهت حياته لا لسبب إلا لقوله :”لا للاحتلال البغيض والوحشي”.
أثناء كتابته وصيته يبدو أنّ صور الشهداء الفلسطينيين المحتجَزَة جثامينهم الطاهرة داخل ثلاجات الموتى لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي كوسيلة عقاب جماعيّ لأهاليهم وأحبتهم لم تفارق مخيلة غيث، فأوصى بدفنه بين أقرانه علّه يكسر وحدته القاتلة، ويشعر بشيء من الدفء.
تعجز كل شياطين الأرض والسماء عن خلق وسائل الوحشية التي يتفتّق ذهن عدونا لابتداعها لأجل إيقاع أقسى درجات الأذى والألم في أجسادنا وأرواحنا، حيث لم يترك وسيلة يؤذينا بها وإلا استخدمها، وهي لا تُعَدُّ ولا تحصى. ومن تلك الوسائل التي لا تمتُّ لأدنى درجات الإنسانية بصلة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، وحرمان أهاليهم من دفنها بالطريقة التي تليق بهم، وذلك كوسيلة من وسائل العقاب الجماعي.
يقول شاعرنا الكوني محمود درويش: “الموت لا يوجع الأموات، الموت يوجع الأحياء”. وعطفاً على استمراء سلطات الاحتلال في إيقاع أقصى درجات الأوجاع وأقساها بنا لجأت إلى تلك الوسيلة الدنيئة باحتجاز جثامين شهدائنا في مقابر أُطلِقَ عليها “مقابر الأرقام” قبل لجوئها إلى احتجازهم في ثلاجات الموتى بهدف خلق حالة وجع دائم ومستمر في أرواح وقلوب أهاليهم وأحبتهم طالما أنهم لا يدفنون جثامنيهم الطاهرة كما يليق بأصحابها.
شغلت هذه القضية ضمير العديد منا، فقبل قرابة خمسة عشر عاماً بادر مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان بتشكيل جسم شعبي وطني فلسطيني لمتابعة قضية الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، والعمل على تحريرها من الأسر. وخلال تلك الأعوام عملت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء دون كلل أو ملل على إثارة قضية هؤلاء الشهداء على الصعيدين الوطني والدولي، حيث نظّمت مظاهرات وندوات لا حصر لها، ووقفات دولية منها واحدة في نيويورك، ووجهت مذكرات للأمم المتحدة والصليب الأحمر والبرلمانات الدولية والمقررين الخواص، وأصدرت حتى الآن ثلاثة كتب تشكل المرجعية لكل الباحثين والمهتمين والسياسيين. وأفلحت جهود الحملة وحضورها بإصدار قرار من مجلس الوزراء الفلسطيني عام 2014 بتخصيص يوم وطني لإحياء ذكرى شهداء مقابر الأرقام في السابع والعشرين من آب كل عام، وهو يوم انطلاق الحملة الوطنية (حيث لم يكن الفاشست قد أضافوا الى جرائمهم حفظ الجثامين في الثلاجات).
فيما عمل مركز القدس، من خلال دائرة الدفاع القانوني عن ضحايا حقوق الإنسان، على تقديم عشرات الملفات القانونية لدى محاكم الاحتلال لانتزاع قرارات تقضي باسترداد جثامين الشهداء، وإعادتهم إلى أهاليهم، وإقامة جنازات الوداع الأخير التي تليق بهم. ورغم النجاح الذي تحقّق إلا أن أرواح (254) شهيداً، و(74) مفقوداً، و(103) شهداء آخرين محتجزة جثامينهم في الثلاجات تنظر تحرير أجسادهم من الأسر.
من خلال اطلاعي على جهود الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء (كوني أحد المتطوعين فيها) فإن الحملة اعتمدت في تغطية نفقاتها من طباعة “بروشورات” أو كتب، أو تغطية نفقات مؤتمراتها السنوية على تبرعات محلية خالصة. كما وأن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، والذي سبق وأن تعرض لحملات تشويه ظالمة، عمل بشكل طوعي على هذا الملف، و(كوني أحد المتطوعين في المركز) أفتخر بأنّ المركز لم يتلقَ فلساً واحداً من أيّ مصدر كان لقاء عمله على ملف استرداد جثامين الشهداء، وإنما عمل على هذا الملف من منطلق وطني وإنساني خالص دون البحث عن أمجاد شخصية. ولعل أبرز مفاخر الحملة أنها إطار شعبي غير مسيّس جنّدت نفسها لحمل هذا الملف والانتصار لقضية هؤلاء الشهداء، والسعي لتخفيف الآلام عن أهاليهم وأحبتهم، وأصبحت الحملة مصدراً موثوقاً في المعلومات التي تتعلق بهذه القضية، فضلاً عن نقلها من حالات فردية تشغل بال أهاليهم إلى قضية عامة يجب أن تشغل بالنا جميعاً.
والآن يمكن القول أن هذا الملف وصل إلى طريق مسدودة في مختلف دوائر الاحتلال ومنها محاكمه، وباتت سياسة اعتبار الشهداء رهائن سياسة رسمية حيث يريد الاحتلال أن يتاجر بأجساد الشهداء، في سلوك منحط وغير مسبوق، عدا عدم قانونيته حتى في أنظمة الطوارئ والأوامر العسكرية.
ما دفعني للكتابة حول هذا الموضوع الآن هو بيان إطلاق “الحملة الشعبية لاستعادة جثامين الشهداء” يوم السبت الموافق الرابع من حزيران (يونيو) الجاري، وتحويل الغضب الذي يجب أن يوجه ضد الاحتلال، وما ورد به من (لوم) على تقصير (الكل الفلسطيني) بما في ذلك مؤسسات حقوق الإنسان على عدم الاشتغال على هذه القضية، وأن تلك الحملة جاءت لتسد ذلك الفراغ. وحيث أن غضب وحزن وأحيانا يأس بعض ذوي الشهداء مشروع، فإن تسييس القضية بالمعنى الحزبي والفئوي ومن نشطاء ومحللين سياسيين وقادة مجتمعيين ومسؤولين رسميين، ومن المفترض أن يكونوا من أول العارفين بأدق تفاصيل أيّ موضوع يتحدثون فيه وعنه، أمر محزن ونتيجته بعثرة الجهود وتسميم الأجواء وبث مزيد من الإحباط. وهنا يحضرني بيت الشعر الشهير للإمام ابن القيّم: (فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة … وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم).
علينا أن لا ننكر حقَّ أيّ فرد أو جماعة في العمل، والانتصار لأيِّ قضية وطنية وإنسانية مهما كان حجمها وأهميتها، وفي المقابل لا يمكن بجرةِ قلم حبر جاف، أو بصوتٍ تضخّمه مكبرات الصوت، شطب جهود الآخرين الذين عملوا بصمت منتصرين لقضية وطنية وإنسانية نبيلة. وهنا، ومن باب التذكير والوفاء لمن قادوا هذه الحملة، نستذكر هنا صديقنا الراحل سالم خلّة الذي عمل منسقاً للحملة، وعمله الدؤوب وجهوده المباركة ومن معه لتحويل هذا الملف إلى قضية وطنية عامة، وكان لي شرف مرافقته في العديد من الزيارات لأهالي الشهداء، والغعاليات التي نظمتها الحملة.
في ظلّ حالة الانقسام الداخلي، وحالات التشرذم والتشظي التي تحكم واقعنا اليوم فإنّ المطلوب هو توحيد الجهود، والعمل على أيّ ملف وطني من منطلقات وطنية جامعة. وعندما يكون هذا الملف متعلقاً بشهداء شعبنا، وبأحزان وآلام أهاليهم وأحبتهم، ونابعاً من منطلقات مقاومة الاحتلال وسياساته العنصرية، وممارساته الوحشية، فإن الأمر يكون أكثر حساسية من غيره.
إنّ ذاكرة شعبنا ليست ذاكرة سمكة، كما ويتساءل أهالي الشهداء: هل الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء كانت ضرباً من ضروب الخيال؟!
ورد في كتب التاريخ أنَ مالك بن زيد أرسل أخاه سعدا ليورد الإبل، فلم يُحْسِن، واشتمل بكسائه ونام، فقال فيه أخوه هذا البيت من الشعر:
أَورَدَها سَعْدٌ وَسَعدٌ مُشْتَمِل: ما هَكَذا يا سَعْدُ تُوْرَدُ الإِبـِلْ