تجلّيات الشخصية الشعرية.. دراسة في قصيدة “مراكب الأحلام” لسعيد الصقلاوي
أ.د. فليح السامرائي | جامعة نزوى- كلية العلوم والآداب
مدخل: طبيعة الشخصية الشعرية
تحظى الشخصية الشعرية بتجلياتها وأنماطها المتعددة والمتنوعة في الشعرية العربية منذ أقدم العصور بقوة حضور استثنائية، ولا سيما إذا عرفنا أن الشعر العربي شعر غنائي يرتبط بالذات الشاعرة ارتباطا وثيقا، إذ يعبر الشاعر العربي عن تجربته الذاتية الشخصية بالدرجة الأولى؛ ومن ثم تجاربه الموضوعية مع الآخر والماحول والطبيعة ومفردات الحياة الأخرى،على نحو يجعل من الشخصية الشعرية القضية الأولى والأبرز بالنسبة للشاعر العربي في ظل كون الشعر ممارسة إنسانية راقية، تحكي تجربة الشاعر مع الذات والكون والأشياء بصورة حميمة وأصيلة ذات حساسية وجدانية كبرى، تحفل بالفن والجمال والتعبير والتشكيل والتصوير وكل الإمكانات الأدبية الأخرى.
إن الشعرية العربية الحديثة وهي تقدّم الشخصية الشعرية الخاصة بالشاعر إنما تستعيد مجدها الشعري في التراث العربي الإنساني الغزير، إذ “لما كان الأدب ظاهرة إنسانية تعبر عن روح العصر، فهي بدورها تنتمي إلى تراث هائل حافل بالآثار الادبية والتجارب الفنية التي عرفها الكتاب والشعراء على مدار العصور ومن ثم، فمن الصعوبة بمكان أن يفلت أحد من الكتاب من أسر ذلك التراث. ومن هنا كان النظر الى تجارب الآخرين والتنقيب في خزائن التراث أمراً ضرورياً لا مفر منه”(1)، يمنح الشاعر قوة جديدة للمضي في سبيل استثمار طاقات التراث الشعري العربي لتطوير هذه الفكرة وتوظيفها في خدمة تجربته الذاتية.
تحاول الشخصية الشعرية وهي تسرد حكايتها مع الحياة في قصيدة أو تجربة شعرية كاملة الإفادة من الشخصية التراثية العربية بمقوماتها المختلفة، لأن هذه الشخصية تكون قد اكتسبت-بمواقفها الفكرية والعلمية, ومقوماتها الخلقية والنفسية وتأثيراتها في حياة الامة-رصيداً جديداً تضيفه الى ما يحمله تاريخها (من فكر, وعمل, وسلوك, وقيم)(2)، على نحو يدعم فيها الشاعر شخصيته الذاتية داخل القصيدة أو التجربة حين يرغب في تدعيم شخصيته الذاتية، ذلك أن عنصر الشخصية في العمل الأدبي عموماً، والشعري منه على نحو خاص، هو عنصر أصيل وفاعل ومنتِج في تشكيل القصيدة.
لذا هي في نظر كثير من النقاد والباحثين في حقل الثقافة والأدب تُشكّل عنصراً أساسياً من عناصر العمل الأدبي(3)، لا يمكن إهماله أو الاستغناء عنه مهما كانت المبررات والأسباب والدواعي سواء أكانت فنية أم موضوعية، وغالبا ما تكون الشخصية الشعرية الخاصة بالشاعر على صعيد الذات والهوية هي الشخصية المركزية والمحورية الأبرز التي “تتمحور عليها الأحداث والسرد، وتُعد بمثابة الفكرة الرئيسة التي تُنسج حولها الأحداث”(4) وتتفرع منها الشخصيات الأخرى الموازية لها.
لايكتفي الشاعر حين يسترجع التراث -برؤيته التراثية وشخصياته التراثية وعناصره الإنسانية التراثية- بمجرد الرغبة في الاسترجاع والتمثّل فحسب، بل يمضي في ذلك كي يحقق كثيراً من عناصر التشكيل الجديدة في محاولة للتقليل من كثافة الحضور الغنائي الذاتي، والاقتراب من الأبعاد السردية والدرامية والملحمية قدر المستطاع (5) داخل رؤية شعرية جديدة تفيد من كل هذه المقاربات، وتسعى إلى إنجاز حداثتها من داخل أعماق التجربة لا من خارجها بحيث تستثمر كل الإمكانات في هذا السبيل.
تقدّم المجموعة الشعرية الموسومة بـ”ما تبقّى من صُحف الوجد”(6) للشاعر المبدع سعيد الصقلاوي تجربتها في هذا المجال من خلال مجموعة محاور أساسية، ولا شكّ في أن عنوان المجموعة في سياق معين من سياقاته يحيل على الجانب السردي السيري بمضمونه الوجداني، فضلاً على الإهداء الذي يحيل على جانب الشخصية الشعرية في مفصل جوهري من مفاصله ويحيط شخصية الراوي الشعري بكثير من الألفة:
“إلى ريحانَتَي أبينا،
أختيَّ: فاطمة وسليمة”
حيث تحضر في هذا الإهداء المكثّف أربع شخصيات هي:
شخصية الشاعر الراوي للحدث الشعري
وشخصية الأب
وشخصية الأخت “فاطمة”
وشخصية الأخت “سليمة”
على نحو يجعل حضور الشخصيات بتجلياتها المختلفة عنصرا أصيلا من عناصر التشكيل في سياق الفضاء السردي والسيري الداعم للفضاء الشعري، بحيث تتجلى الرؤية الشعرية عن طريق الشخصية الشعرية وانفتاحاتها السردية والسيرية.
تحتوي هذه المجموعة الشعرية للشاعر الصقلاوي على أربع وأربعين قصيدة تتنوّع في تجاربها وخصائصها الفنية والجمالية، لكنها تعطي صورة عامة عن حضور الشخصية الشعرية وتأثيرها عبر تجليات ذات طابع سردي وسيري في آن واحد، غير أن رصدا دقيقا لقصائد هذه المجموعة قادنا نقديا إلى انتخاب القصيدة الموسومة بـ”مراكب الأحلام” كي تكون موضوعاً لبحثنا ضمن هذا الإطار الباحث عن حضور تجليات الشخصية، بما تتمتع به من مواصفات لها علاقات وثيقة بالسرد الشعري والسيري الشعري ضمن دائرة الشخصية أيضاً.
شخصية الراوي الشعري:
تعدّ شخصية الراوي الشعري في القصيدة العربية هي الشخصية الأكثر حضوراً وتأثيراً في الفضاء الشعري، لأنّ القصيدة العربية قصيدة غنائية تسمح للذات الشاعرة أو أنا الشاعر أن تهيمن على الحراك الشعري داخل القصيدة بقوة ونشاط كبيرين، فالراوي في النص الأدبي عموماً قد يكون البطل متحدثاً بضمير المتكلم أو متحدثاً بضمير الغائب, وينال تصويره العناية الكبرى ويكون محور الحدث, أو الرابط بين مختلف الشخصيات بوصفه بطلاً وتقع حقاً على عاتقه رواية الأحداث(7)، غير أن القصيدة تعطي هذا الدور في الأغلب الأعم إلى شخصية الشاعر نفسه فهو الراوي وهو الشخصية وهو الشاعر في آن معاً.
تنكشف هذه الشخصية شيئاً فشيئاً وتتطور بتطور فعاليات الحكاية وأحداثها ويكون تطورها غالباً لتفـــاعلها المستــمـــر مع الحوادث, وهي المحــور الـــذي تدور حوله الأحداث التي لا بدّ من أن يمسها من قريب أو بعيد ويؤثر في تكوينها بألوان جديدة، ويلقي بأضوائها على مكامن أسرارها وأعماق أغوارها(8)، إذ إنّ هناك علاقة جدلية لا بدّ أن تقوم بين الحدث والراوي، فهو الذي يقوم بعملية القصّ فيدفع بالأحداث والشخصيات والزمن والمكان مرتكزاً على رؤيته وموقعه, هذه الرؤية التي يشي بها ظاهر السرد وباطنه تمثّل رؤيته للعالم المحيط به.
لا يشترط في الراوي استنادا إلى هذه الرؤية “أن يكون اسماً معيناً, فقد يكتفي بأن ينتفع بصوت أو يستعين بضمير ما, يصوغ بوساطته الرؤى, وتتجه عناية السردية الى هذا المكون, بوصفه منتجاً للمروي بما فيه من أحداث ووقائع, وتعنى برؤيته تجاه العالم المتخيل الذي يكونه السرد, وموقفهُ منه, وقد استأثر بعناية كبيرة في الدراسات السردية”(9)، ويفيد الشعر كثيراً من هذه الرؤية ذات الطابع السردي ولا سيما حين تكون القصيدة داخلة في فضاء سردي وسيري، حيث يعمل هذا النوع من الشخصيات الأدبية في “نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية”(10)، من خلال مجموعة من الممارسات الفنية التي تأخذ شكلا معينا في كل جنس أو نوع أدبي وبحسب طبيعة التجربة وحساسيتها.
تقوم هذه الصورة اللغوية داخل الفضاء الشعري بوصف الطبيعة التي هي مجموعة من الاشياء المرئية المدلول عليها بكلمة العالم، وكان للشعر الحديث مثل هذا التماس المباشر والمستمر مع خصوصيات الطبيعة لسعة المساحة القادرة على الوصول بها الى حدّ الرمز والدلالة، بل لإمكانياته في التعبير عن حالات نفسية واجتماعية وسياسية بعيدة الغور والتأثير في تحول المجتمع واستمرار حركته أيضاً(11)، لتظلّ شخصية الراوي الشعري المرتبطة بالذات الشاعرة هي الأوفر حظاً بالبروز والظهور في القصيدة، كما هي الحال في قصيدة “مراكب الأحلام” للشاعر سعيد الصقلاوي.
يتأسس خطاب قصيدة “مراكب الأحلام” على حوار شعريّ بين شخصيّة الذات الشاعرة وشخصيّة الأم، لذا يأتي عنوان القصيدة التضايفي الجمعي “مراكب/الأحلام” تعبيراً عن جوهر الصورة الشعرية القائمة على استدعاء الأحلام كي تنقل الذات الشاعرة نحو فضاء الأم، وهنا تنبري الذات الشاعرة من خلال حضور شخصية الراوي الذاتي الشعري لمحاورة شخصية الأم والطلب منها العودة به إلى مرحلة الطفولة:
أعيديني ..
إلى ذاتي
ولمّي كلَّ أشتاتي
أيُكْسَرُ كأسُ أيّامي
ويُطْفَأُ ضوءُ مِرآتي
تُبَعْثِرُني
حِكاياتي
وتَسْكُبُني
عَذاباتي
أعيدي اللّحنَ يُطْرِبني
وتُطْرِبهُ
صباباتي
فَتُبْصِرُني
مَعانيِه
وأُبْصِرُ دفْقَ نَبْضاتي
أعيديني
إلى لُغتي
إلى ضَحِكِي
ودَمْعاتي
إلى صمتي
وثرثرتي
وأشرعتي
ومرساتي(12)
يتحرك نداء شخصية الراوي الشعري الذاتي عبر الجملة الطلبية الأولى في النص “أعيديني ../إلى ذاتي” مقترناً بطلب آخر “ولمّي كلَّ أشتاتي”، تمهيداً لظهور صورة الشكوى من زخم المعاناة التي عاشتها شخصية الراوي بعيداً عن فضاء الأم وحنانها “أيُكْسَرُ كأسُ أيّامي/ويُطْفَأُ ضوءُ مِرآتي/تُبَعْثِرُني حِكاياتي/وتَسْكُبُني عَذاباتي”، إذ تتشظّى الصورة الشعرية إلى لقطات صورية تشيع في الفضاء الشعري دلالات الشتات والظلمة والعذاب، وقد استطاع “البحر الوافر” هنا أن يتيح فرصة إيقاعية كبيرة لوفرة الدلالات والمعاني القادرة على الاستجابة للتجربة، في ظلّ لغة عذبة تنتمي إلى ذات الراوي انتماء حياً شديد الحركة والتفاعل والتثمير الدلالي.
تعيد شخصية الراوي الشعري الذاتي النداء نحو شخصية الأم لاسترجاع الأيام الخوالي المشحونة بالطرب والصبابة في مرحلة الشباب “أعيدي اللّحنَ يُطْرِبني /وتُطْرِبهُ صباباتي /فَتُبْصِرُني مَعانيِه /وأُبْصِرُ دفْقَ نَبْضاتي”، فالدوال العاملة في هذه اللقطة الشعرية الاسترجاعية تأتي مكتظّة باللحن والطرب والصبابة والإبصار والتدفق والنبضات، بما تشيعه في فضاء المقطع من معاني البهجة والفرح والانطلاق كناية عن مرحلة الشباب التي يريد استعادتها، حيث تتجلّى الصورة الشعرية والإيقاع واللغة في حبكة شعرية متجانسة.
تنتقل صورة النداء إلى مرحلة ثالثة يمكن أن تكون مرحلة شعرية تريد فيها شخصية الراوي الشعري الذاتي استعادة الوعي الأول نحو اللغة وخطاب الحياة المشتبك بالأشياء “أعيديني إلى لُغتي/إلى ضَحِكِي ودَمْعاتي/إلى صمتي وثرثرتي وأشرعتي ومرساتي”، فتكتمل الصورة الشعرية في مفصل معيّن من مفاصلها يمكن أن يكون في نهاية الأمر أحد مراكب الأحلام التي جرى الإعلان عنها في عتبة العنوان.
ثم ما تلبث شخصية الراوي الشعري الذاتي أن تعاود النداء الطلبي لاستعادة الزمن بكل ما يحمله من ذكريات وأشياء ضائعة في طبقات الواقع الراهن، ويتدخّل هذا النداء الجديد في القصيدة داخل التفاصيل الشعبية التي تحيل على فضاء المرجع الموروثي الشعبي، بما ينطوي عليه من غزارة في القيمة الدلالة والمعنى والصورة والذكرى والسيرة والفضاء الشعري:
أعيديني
إلى صوتي
يُناغي قَلْبَ حاراتي
لِدَرْبِ طُفولتي الأُولى
وبُستانِ البَراءاتِ
لِألْعابٍ
وأصْحابٍ
بأحْضانِ البِشاراتِ
(لِشَعْبانِيّةٍ)
أبوابُ ساحاتِ
(لِكانونٍ)
على دِفْءِ المَسَّراتِ(13)
تتجلى هذه الصور الاسترجاعية في فعالية تركيز شعرية عالية لاستعادة “الصوت” الذي يمثل هوية الذات المركزية “أعيديني إلى صوتي”، إذ حين يتمّ استرجاع الصوت/الهوية يكون كل شيء متاحاً وفي المتناوَل ابتداءً من المكان “يُناغي قَلْبَ حاراتي”، ثم فجر الطفولة الأولى حيث البراءة والعفوية والسلام الروحي العميم “لِدَرْبِ طُفولتي الأُولى/وبُستانِ البَراءاتِ”، بما تقدّمه عبارة “بستان البراءات” من حيوية صورية شديدة الخصب الدلالي الرابط بين الطبيعة والإنسان، وبما فيها من إحالات على مرجعيات إنسانية شتّى.
تمتد من ثمّ الصورة الاسترجاعية نحو فضاء الحراك الطفولي الجميل “لِألْعابٍ”، ونحو الأصحاب الذين لا بدّ منهم في عالم طفولي لا يكتمل من دونهم”وأصْحابٍ”، داخل دائرة الفرح والبهجة والسعادة التي لا تحدها حدود”بأحْضانِ البِشاراتِ”،وهي تغذّي الصورة الشعرية بمزيد من الألق والحساسية المرهفة والتشكيل الطريف.
يتدخل الموروث الشعبي الأصيل في المكان الشعري على لسان شخصية الراوي الشعري الذاتي وهي تستعيد الصورة بكامل هيبتها وعنفوانها “(لِشَعْبانِيّةٍ) /أبوابُ ساحاتِ”، حيث يرد في الهامش تعريفا وافيا شافيا لهذه الصورة الشعبية على النحو الآتي: “الشعبانية: هو عيد للطفولة يقام في 14 شعبان من كل عام وهو اليوم الذي أُذِنَ فيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بتغيير وجهة القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة.”، فهو عيد للطفولة يعيد إنتاج الرؤية والمكان والصورة عبر هذا التشكيل الشعري البهيج، لأن اقتران الطفولة بالأعياد يعدّ اقترانا جدليا يفضي إلى مزيد من الخصب والثراء الدلالي الشعري.
تظهر صورة استعادية أخرى لها علاقة بالموروث الشعبي تثري الفضاء الشعري وتغني تجربة الراوي الشعري الذاتي في هذا المجال، وهي صورة “الكانون” الشائعة في منطقة الخليج كثيراً “(لِكانونٍ) على دِفْءِ المَسَّراتِ”، حيث يأتي تعريف الكانون على هذا النحو: “الكانون: هو منقلة النار التي يوضع عليها الشاي والقهوة وبخاصة في الشتاء.”، بما يحيل على أجواء ذات طبيعة اجتماعية خاصة تتشبّث بها الذاكرة تشبثاً قوياً.
تتشكل صورة الراوي الشعري الذاتي بوصفها الشخصية المحورية التي تشارك في الحدث الشعري في أكثر من اتجاه، فهي تحاور وتسترجع وتبني وتشيّد ما تريد وصولاً إلى الصورة الشعرية المثلى المطلوبة في هذا السياق بحيوية شعرية واضحة، فضلا عن أنها تتعاطى مع الشخصيات الساندة الأخرى ذات الطبيعة الأسرية الخاصة.
يصل الراوي الشعري الذاتي في ندائه إلى مرحلة الاستغاثة بعد أن يشعر بالضياع والتشتّت وتسرّب الزمن وغياب المستقبل، فتصعد نبرة الطلب من الأم بوصفها المخلّص والمنقذ والملاذ الوحيد حين تشعر الذات بالتشيؤ والتلاشي:
أعيديني
لقدْ ضَيّعْتُ
بوصَلتي
ونَظْراتي
وقدْ سافرتُ في نفسي
وما أمْسَكْتُ
أوْقاتي
رأيتُ مَراكِبَ الأحلامِ
لا تَجْري إلى الآتي(14)
يتحوّل الفعل الطلبي بالإعادة “أعيديني” هنا إلى صرخة تشقّ عنان السماء بحثاً عن مصير، وهذه الصرخة تتجلى داخل هذه الصورة في ثلاث رسائل متوازية في عدميتها وقهرها، الرسالة الأولى يمكن أن نسميها صورة الضياع “لقدْ ضَيّعْتُ بوصَلتي ونَظْراتي”، حيث تشكل قضية ضياع البوصلة والنظرات صورة معقّدة من صور الضياع.
تمثل الرسالة الثانية فقدان الهوية “وقدْ سافرتُ في نفسي /وما أمْسَكْتُ أوْقاتي”، فضياع الزمن من بين يدّي الشخصية يحيل على أشرس أنواع الضياع حيث تفقد الحياة كثيرا من معانيها، على مستوى الحال الراهن والمستقبل الآتي.
أما الرسالة الثالثة فهي تمثل الصورة الشعرية النتيجة التي توقف حركة الحلم وتحجّر فاعلية الزمن “رأيتُ مَراكِبَ الأحلامِ لا تَجْري إلى الآتي”، حيث يغيب المستقبل وتنعد فرص الحياة الطبيعية في ظل تلاشي الزمن وفقدانه.
تصل الحساسية الشعرية في دائرة الراوي الشعري الذاتي هنا إلى أقصاها، في فضاء شعري تتكامل فيه صورة الراوي الذاتي الشعري وتكاد تهيمن على حركية عناصر التشكيل الشعري في القصيدة، على الرغم من أن شخصية الأم في الجهة المقابِلة من القصيدة بوصفها شخصية موازية ترتقي إلى أهمية مماثِلة لشخصية الراوي على المستويات كلها، لكنها تمثل على صعيد التشكيل السردي والسيري الشعري شخصية ساندة لما تأثير عميق في جوهر التجربة الشعرية وأدواتها التعبيرية والتشكيلية.
الشخصية الشعرية الساندة:
تعمل الشخصية الشعرية الساندة في القصيدة على دعم الشخصية المحورية المركزية وتفعيل أدواتها على مستوى نظام الوحدات الشعرية، على النحو الذي يتطلّب استجلاء نظام وحدات النصّ الشعري وهي تتصل فيما بينها بما يضيء جانباً من شخصيتهِ الادبية.
هذا الجانب يرتبط بترتيب الوحدات وانتظامها وهي تشكل إطارها الخاص بما تشغلهُ من مساحات سردية أو سيرية، لتشكل لحمة هذا النص ومجال الارتباط بين أجزائه(15)، وتبقى على صلة فنية وثيقة بين المرجع الشعري والتخييل الشعري.
تكتسب الحكاية الشعرية في القصيدة قيمتها من إعلاء شخصية ما ومنحها عنايتها الكبرى، فتمثل لنا على هذا النحو بؤرة لاستقطاب الحدث الشعري بفعل محور الصراع الذي هو أساس بناء الحكاية، والذي يكون ضد المجتمع أو ضد عوامل الطبيعة أو ضد الذات(16)، بما يجعل هذه الحكاية تستجيب لأفق التجربة في مستوياتها الفنية القادرة على احتواء المقولة أو الأطروحة الشعرية في القصيدة.
إن السرد هو الطريقة المثلى التي تُحكى بها حكاية ما عن طريق الشعر أو السرد أو السيرة، سواءً أكانت هذه الحكاية معيشة أم كانت من خيال المبدع(17) في سياق معيّن من سياقات الإبداع الأدبي المتداولة، وهو ما يحتاج إلى شخصيات تنقل على عاتقها جوهر هذه الحكاية في متن النص الأدبي، وإذا كانت شخصية الذات الشاعرة هي المهيمنة على مقدّرات القصيدة فإنّ الشخصيات الساندة سيكون لها تأثير مماثل على هذا الصعيد.
تظهر الشخصية الشعرية الساندة في قصيدة “مراكب الأحلام” للصقلاوي منذ بداية القصيدة بوصفها شخصية موازية لشخصية الراوي الشعري الذاتي، وهي شخصية “الأم” التي يناجيها الراوي الشعري الذاتي ويحتكم إليها في آلت إليه ظروفه في الحياة، وهي شخصية اعتبارية ذات مساس عميق وكبير بكل الشخصيات الأخرى المصاحبة لها، وتكتسب أهميتها من مرجعيتها الدينية والأسطورية والاجتماعية والثقافية الكبيرة في الطبيعة والحياة والإنسان.
تتدخّل في هذه القصيدة بصورة كلية وحاسمة على لسان الراوي الذي يلجأ إليها ليشكي همومه ويشرح حاله، وهو يدرك أن استجابتها أكيدة بما تحمله شخصية الأم من عواطف ومشاعر جيّاشة تجاه أولادها، على نحو يجعلها تسخّر كلّ شيء في سبيل إعانتهم وإنقاذهم كلّما صادفتهم معوقات ومشاكل في حياتهم من دون التفكير بثمن.
تقترن صورة الشخصية الساندة في هذه القصيدة وهي شخصية “الأم” بمجموعة كبيرة من التفاصيل والجزئيات المحيطة بالشخصية في نظر الراوي الشعري الذاتي بوصفه شخصية محورية موازية ومتفاعلة مع شخصية الأم:
إلى خُبزٍ
تَحلّى مِنْ
حنانِكِ في
صباحاتي
لِقهوتِكِ التي
تَلْتَذُّها شَمْسي
ونَجْماتي
لِصوتكِ يَقْرأُ القرآنَ
في سَمْعي وخَفْقاتي
لَطيبِكِ نافِحاً نَفْسي
وآمالي
وزَهْراتي
لِنكْهَةِ (شايك الصُّوريِّ) في رُوحي ولذّاتي
لِرمْلٍ يَمْنحُ الأمواجَ
بَعْضاً مِنْ شقاواتي
لِمجلسِ جَدَّتي حُبّاً
تُبَسْتِنُ لِي خَيالاتي
(لِتَطْريزٍ) على
(دِشْداشَتي الصّوريةِ) الذَّاتِ
(لكمّتيَ) التي غَرَسَتْ
يداكِ بها المَحَبّاتِ (لِقَيْطانٍ) تُصَوِّغُهُ
مَشاعِرُكِ السَّخيّاتِ
(لِشادِر طَرْحِكِ) الحاني
يُغَطيّني بِمَرْضاةِ
(لِثوبكِ) زَرْيُه
يَروي
حِكاياتِ الحَضاراتِ(18)
تحتشد في هذا المشهد الشعري الثري مجموعة كبيرة من التفاصيل المرتبطة حصرا بشخصية الأم الساندة في القصيدة، ابتداء من دال “خبز” الذي له علاقة وثيقة بالحياة في مجمل تصوراتها في العلاقة الوثيقة بين الأم وابنها “إلى خُبزٍ تَحلّى مِنْ حنانِكِ في صباحاتي”، تتبعها القهوة بوصفها قريناً صباحياً له دلالة وثيقة بتوثيق هذه العلاقة وتكريسها “لِقهوتِكِ التي تَلْتَذُّها شَمْسي ونَجْماتي”، ومن ثم يتم الانتقال إلى وحدة شعرية ذات مرجعية دينية عالية الوجدان والعاطفة حين ترتبط العلاقة بصوت القرآن وهو يصدح من فم شخصية الأم الساندة “لِصوتكِ يَقْرأُ القرآنَ في سَمْعي وخَفْقاتي”، على نحو يجعل العلاقة من خلال هذه الوحدات التفاصيلية الشديدة الأهمية في أعلى درجاتها وعلى نحو يعضّد حضور الشخصية الشعرية الرئيسة في مشاهد القصيدة.
تتواصل فعالية استدعاء التفاصيل المقترنة بالشخصية الساندة كي تعمّق الصورة الشخصية للشخصية الرئيسة وتجعلها محورا رئيسا في الحراك الشعري داخل القصيدة، وتتجه هذه المرة نحو الخصوصيات الذاتية الباعثة في نفس الشخصية الرئيسة الأمل والجدوى “لَطيبِكِ نافِحاً نَفْسي وآمالي وزَهْراتي”، وتتواصل الصور التفاصيلية الخاصة في الحضور داخل المشهد الذي تتوحد فيه شخصية الراوي الشعري كشخصية شعرية رئيسة مع شخصية الأم الساندة، وتأتي على نوع مخصوص من الشاي في سلطنة عمان “لِنكْهَةِ (شايك الصُّوريِّ) في رُوحي ولذّاتي”، ثم لذكريات الشاطئ التي تستعيد فيها شخصية الراوي بمعية الشخصية الساندة روح الشقاوة الطفلية “لِرمْلٍ يَمْنحُ الأمواجَ بَعْضاً مِنْ شقاواتي”، في سياق الاسترجاع الانتقائي لتلك اللحظات الجميلة التي لا تغيب عن الوجدان.
تعود الصورة الشعرية داخل فضاء التعالق بين الشخصية الشعرية الرئيسة والشخصية الشعرية الساندة إلى تفاصيل أخرى ذات طبيعة ثقافية وتعليمية “لِمجلسِ جَدَّتي حُبّاً تُبَسْتِنُ لِي خَيالاتي”، ومن ثمّ تذهب نحو الاستغراق في التفاصيل الشعبية التي تسهم في إثراء هذا التعالق بين الشخصيتين ضمن رؤية شعرية عامة وشاملة “(لِتَطْريزٍ) على (دِشْداشَتي الصّوريةِ) الذَّاتِ/(لكمّتيَ) التي غَرَسَتْ يداكِ بها المَحَبّاتِ /(لِقَيْطانٍ) تُصَوِّغُهُ مَشاعِرُكِ السَّخيّاتِ /(لِشادِر طَرْحِكِ) الحاني يُغَطيّني بِمَرْضاةِ /(لِثوبكِ) زَرْيُه يَروي حِكاياتِ الحَضارات”، ضمن فضاء مشتبك من الموروث الشعبي الغزير والمنتقى بعناية ومعرفة وحساسية مرهفة، وهو يمنح المشهد الشعرية طاقة خلاقة تموّنه بكثير من الشعرية والجمالية والسردية، ويضفي على حضور الشخصيات قيمة سردية وثقافية غزيرة ترفع من شأن هذا الحضور وتكرّسه.
يأتي الشاعر في الهامش على توضيح هذه المفردات الشعبية ومعانيها مثل معنى “القيطان” الذي هو “تطريز يدوي مباشر لحافة رقبة الجلباب وفتح الصدر أو الأردان (الأكمام) يعمل من خيوط ذهبية وفضية ممزوجة بخيوط البريسم (الحرير) الملونة، وتوضح معنى “شادر الطرح” بأنه “غطاء الرأس والجسم ملون ومنسوج محليا من الحرير، و”الثوب” هو عبارة عن “لباس شفاف يلبس فوق جلباب المرأة – دشداشتها – أو شبكة مطرز صدره وظهره بخيوط مذهبة ومفضة وأخرى حريرية ملونة (البريسم)، أما “الزري” فهي “خيوط ذهبية وفضية تطرز (تدرز) بها الملابس في عمان”.
تعطي هذه الإلماحات الشعبية زخماً شعريا كبيرا يجعل فعالية التعالق الشعري بين الشخصيتين على أعلى مستوى، بحيث تعمل الشخصية الساندة على توسيع مساحة المشهد الشعري صوريا وجماليا ومرجعيا كي يشمل مناطق حيوية أخرى في الفضاء الشعري، لتحويل القصيدة إلى كون شعري متكامل بين الماضي والحاضر والمستقبل. ولا شك في أن الموروث الشعبي يمثل “في معناه العام ما ينقل شفهيا أو كتابيا عبر الأجيال من عناصر ومكونات ثقافية مادية أو معنوية المتمثلة في الرموز والحركات والنشاطات الاحتفالية والحكايات والموسيقى الشعبية بمختلف طبوعها”(19)، وقد وظّفت هذه الرؤية الموروثية لخدمة فعالية الحضور الشخصاني لشخصيات القصيدة وهي تحمل جماليات هذا الموروث الشعبي.
تظهر شخصية ساندة أخرى لشخصية الراوي الشعري الذاتي وهذ شخصية “الجدّ” بوصفها مرجعية شخصية ذات أهمية كبرى توازي على نحو ما شخصية الأم الساندة، وتظهر في موازاة شخصية “الجد” شخصية “الأب” أيضاً بوصفها شخصية تتوسط بين شخصية الجد وشخصية الحفيد، بما يفضي إلى صورة متكاملة في حضور ثلاث شخصيات تتعاقب في تسلسلها العائلي والجيلي أيضاً:
لِجَدّي
يُطْعِمُ الحلوى
لِأحْبابِ الحبيباتِ
(لمَصْرَةِ) والدي الشّما
لِكَحَّتِهِ
لِشالاتي
(لِدسْتُورِيّةِ) العيدِ التي
مُلِئَتْ
بِفَرْحاتِ(20)
حيث تبرز شخصيتان متلازمتان حتماً في الفضاء الوجداني العاطفي لشخصية الراوي الشعري الذاتي بوصفه الابن والحفيد، فتتجلى أولاً شخصية الجدّ الساندة “لِجَدّي يُطْعِمُ الحلوى لِأحْبابِ الحبيباتِ” وهي تقوم بهذا الدور المشحون بالمحبة والعطاء، في رسم صورة وجدانية ذات تأثير كبير في الجوّ الشخصي العام في القصيدة، وتتجلّى ثانياً شخصية الأب الساندة ذات الحضور القريب بصورته الخاصة “(لمَصْرَةِ) والدي الشّما /لِكَحَّتِهِ /لِشالاتي”، حيث يعرّف مفردة “المصرة” بأنها “هي (العمامة) لفة أو عمة المصر أو الشال على الرأس” ويعرّف “الشالات” بأنها “جمع شال وهو قماش من الصوف الرفيع أو القطن يعتم به”.
ثم ينهي المشهد الشعري الخاص بالشخصيتين الساندتين بهذه اللقطة الشعرية ذات الطبيعة المرجعية “(لِدسْتُورِيّةِ) العيدِ التي مُلِئَتْ بِفَرْحاتِ”، ويوضح معنى مفردة “الدستورية” بأنها “هي صندوق خشبي رفيع للنوخذا أي لربان السفينة بمثابة الحقيبة اليدوية”، لإحاطة المشهد بكل ما ينبغي حضوره لإحداث تنوير شعري يضيء العلاقة بين شخصيات القصيدة، على نحو يجعل من حراك الشخصيات الشعرية في القصيدة جوهرا فنيا وجماليا أساسيا يسهم في الارتفاع بالقصيدة إلى مرتبة تعبيرية وتشكيلية أرقى.
شخصية الأمكنة الشعرية:
تتحقق شخصية الأمكنة الشعرية تحققاً ناجزاً حين ينجح الشاعر في توظيف المكان بحيث تصبح له شخصية شعرية واضحة، وبما أن المكان هو شكل من أشكال الطبيعة المكانية الأصلية فإن لدراسة توظيف الشاعر للطبيعة في العمل الشعري أهمية كبيرة في المقام الأول، فهي من جانب تكشف لنا عن اتجاه الشاعر وطريقة نظره إلى الطبيعة المكانية بوصفها جزءاً من العالم الخارجي وتفكيره فيها، كما تكشف لنا من ناحية أخرى عن قدرة الشاعر على تشكيل عناصر لوحته بكل ما تحتمله هذه اللوحة من لقطات، وطرق استفادته من العناصر الجزئية المكانية في الكشف عن الحدث الشعري(21).
تخضع الأمكنة الشعرية لمفهوم الفضاء الشعري العامل في تكوين شعرية القصيدة التي تفتح حساسية المكان على “الرؤية”، إذ “إن المقولة الثالثة المهمة التي تسمح بوصف الانتقال من الخطاب الى التخيل هي مقولة الرؤية, فالوقائع التي يتألف منها العالم التخيلي لا تقدم لنا أبدا في (ذاتها) بل من منظور معين وانطلاقا من وجهة نظر معينة”(22)، فالمقولة الأولى المكانية والمقولة الثانية الزمانية لا يمكنهما توطيد مفهوم الفضاء الشعري في القصيدة بمعزل عن الرؤية، التي تقدم عنصر المكان بشخصيته الشعرية النافذة بأكبر حيوية شعرية ممكنة على طريق إبراز هذا العنصر التشكيلي كما يجب.
يبرز المكان الشعري في القصيدة استنادا إلى طبيعة التجربة التي يريد الشاعر تمثيلها شعريا في قصيدته، والمكان في مفهومه النظري الأساسي هو عبارة عن “مساحة ذات أبعاد هندسية او طبوغرافية تحكمها المقاييس والحجوم, ويتكون من مواد, ولا تحدد المادة بخصائصها الفيزيقية فحسب, فمادة العمارة مثلاً ليست بهذا المعنى وحده, وإنما هي بالإضافة الى ذلك نظام لعلاقات هندسية مجردة, والمكان كذلك لا يقتصر على كونه أبعاداً هندسية وحجوماً, ولكنهُ فضلاً عن ذلك نظام من العلاقات المجردة يستخرج من الأشياء المادية الملموسة بقدر ما يستمدّ من التجريد الذهني أو الجهد الذهني المجرد”(23)، بمعنى أنه يشتغل على محورين: خارجي وداخلي في آن واحد.
يسعى الشعر في هذا السياق إلى الإفادة من هذه الطاقات بقدر مناسبتها وتوافقها مع خصوصيات التجربة الشعرية، إذ يبقى المكان حاضراً بقيمه النظرية هذه وهي تشتغل بقدر حاجة التجربة على مستوى اللغة والصورة، وتنتشر صورة المكان بحسب خبرة الشاعر وطريقته في التعامل مع المكان.
لذلك لا يكون دور الشخصية الساندة في العمل الأدبي اعتباطياً أو هامشياً بل هي مشاركة في بناء الحدث، لكن دورها الكمّي وظهورها أقل نوعمّا من ظهور الشخصيات الرئيسة، وبتلك الصفات فإنها لا تقل أهمية عن الشخصيات الرئيسة وتقوم بدور المساعدة في دعم الفكرة الأدبية ونماء حركتها ودينامية فعلها، وذلك بتلاقي هذه الشخصيات في حركاتها ومصائرها، تجاه الموقف العام للنص الأدبي, وقد تبدو هذه الشخصيات للقارئ أقل دوراً في تفاصيلها وشؤونها من الشخصيات الرئيسة(24) غير أن دورها مهم وحاسم في كثير من الأحيان وعلى الأصعدة كلها.
لا يكتفي المكان في قصيدة “مراكب الأحلام” للصقلاوي باقتراح شخصيات مكانية معروفة ضمن السياق المكاني العام، بل ينفتح على التفاصيل والجزئيات والمسافات المكانية البينيّة كي يعطيها فرصة الحياة داخل عالم القصيدة، ويؤدي المكان في هذه القصيدة دور الشخصية المحيطة والمهيمنة على الحوادث الشعرية المستعادة، على وفق منظور شعري أصيل يعطي للمكان الطبقة الأعلى في سلّم أولويات التشكيل في القصيدة:
هنا مرَّتْ
هنا طافَتْ
هنا ارْتكَزتْ سَنيّاتِ
لِمدرستي
على حِيطانِها
عَلَّقْتُ بَسْماتي
لِطَبْشورٍ
وألواحٍ
بها نَوَّرْتُ بَصْماتي
لِلَهْفَتكِ التي
تَسْقي ضُلُوعي
فيْضَ رَحْماتِ
لِكَفِّكِ مالِئاً كَفَّي
نخيلاً مِنْ كراماتِ
لِجَبْهَتكِ التي
تَشْتاقُها زخّاتُ قُبْلاتي
لِعَيْنكِ
تَنْثُرُ الدَّعْواتِ
أقماراً بِخَطْواتي(25)
تبدأ المعادلة المكانية بالظهور في هذا المشهد المكاني اعتباراً من هيمنة الظرف المكاني على احتمالات حضور الأشياء في الحراك الشعري، إذ يتكرر دال “هنا” بوصفه ظرفَ مكانٍ يشير إلى المكان القريب كي يرسم صورة شعرية تحيط بمجمل الحراك المكاني، ويأخذ المكان بذلك شخصيته من خلال هذا التكرار الضاغط على مساحة الدلالة توكيداً للمقصود المكاني القادم في تجليات المشهد الشعري.
يؤدي التكرار الأول “هنا مرَّتْ” دوراً مكانياً خاطفاً مأخوذاً من معنى المرور الذي يوحي بالسرعة وعدم الاكتراث، وهو الصورة الأولى من علاقة الفاعل المكاني بالمكان الذي يجعل المساحة المكانية في الظرف المكاني “هنا” مرنة وقابلة للاحتواء، لكن هذا الاحتواء هو احتواء سريع لا يصل إلى درجة التملّك والسيرورة المكانية الدائمة.
أما التكرار الثاني لظرف المكان “هنا” فتنتقل فيه الصورة الشعرية والأداء الشعري الفعلي من مرتبة المرور إلى مرتبة الطواف “هنا طافَتْ”، بكل ما ينطوي عليه معنى الطواف من مرجعيات دينية وفعلية طبيعية تحيل على دلالة التجلّي، فالمسافة المكانية بين المرور والطواف هي مسافة المعنى الشعري الغزير للشخصية المكانية القادرة على الحضور بهذه القوة، بما يعمّق الفضاء الصوري الشعري ويفتحه على ممكنات تشكيلية جديدة وخصبة ومثمرة.
ينتقل التكرار الثالث لظرف المكان “هنا” إلى مرحلة أكثر تشبثاً بالمكان وهي تكشف عن المحتوى المكاني الذاهب باتجاه تكوين الشخصية المكانية المقصودة “هنا ارْتكَزتْ سَنيّاتِ لِمدرستي”، فمعنى الارتكاز المكاني يحيل على الثبات والحضور البارز للشخصية المكانية في المشهد الشعري، وتتمثل الشخصية المكانية هنا في المعطى المكاني “مدرستي” وهي تنتمي للراوي الشعري الذاتي عبر ياء النسب.
يتأكد حضور الشخصية المكانية التي لها ارتباط وثيق ومصيري بالراوي في دال “مدرستي” بما يحمله من معنى وتاريخ وتجربة وسنين طفولة ودلالات أخرى لا حصر لها، على النحو الذي يسمح بظهور الأمكنة الشعرية التفاصيلية التي تؤثّث هذا المكان بمزيد من الطاقة الشعرية على مستوى الصورة واللغة “على حِيطانِها عَلَّقْتُ بَسْماتي”، وأوّل هذه التفاصيل المكانية هي “حيطان” المدرسة التي ترتبط بعلاقة وثيقة جداً مع روّاد المكان، فالحيطان هي الصورة الثابتة في عيون أطفال المدرسة بحيث تمكّن الراوي الشعري الذاتي من تحويلها إلى أمكنة متخيّلة لتعليق البسمات حين تحتاج إلى تعليق، وهذه الصورة الشعرية الطريفة المتمثلة بتعليق البسمات على حيطان المدرسة لها علاقة بالرغبة الطفولية الجامحة للطيران والارتفاع نحو الأعلى، ورغبة البسمات الخارجة من أفواه طفولية للمكوث في الأعلى حيث الفرح والسعادة والعلوّ.
تتحرك الشخصية المكانية في القصيدة بعد ذلك نحو التفاصيل الأكثر حضوراً في هذا المكان الشعري النوعي “مدرستي”، وتتمثل هنا على نحو دقيق بـ”لِطَبْشورٍ وألواحٍ /بها نَوَّرْتُ بَصْماتي” بوصفها الأدوات المدرسية الأكثر حضوراً في أيدي الطلبة، فالبصمات الطفولية في حالتها التنويرية تظهر على الطبشور والألواح كي تضيء طريق المعرفة، فتتضاعف قيمة التفاصيل المكانية حول الشخصية المكانية الشعرية في هذا السبيل.
تبقى شخصية الأم الموازية لشخصية الراوي الشعري الذاتي حاضرة في المشهد بقوة وهيمنة ولا تغيب أبداً، بوصفها الحارس المكاني والزمني الأدبي “لِلَهْفَتكِ التي تَسْقي ضُلُوعي فيْضَ رَحْماتِ” الذي يؤدي دورا أصيلا وفاعلا على أكثر من صعيد، إذ يصبح “الجسد” هنا هو المكان الاستثنائي شديد الخصوصية “ضلوعي” حيث تتحول لهفة الأم إلى نهر يسقي هذه الضلوع التي تنتمي لشخصية الآبن/ابنها “فيض رحمات”، وهنا يتدخل المكان العرفاني في توصيف الحال الشعرية التي تدور حول شخصية الأم ذات الطبيعة المكانية الخاصّة، بما يعمق العلاقة المكانية بين الشخصيتين ويجذّرها.
تواصل شخصية المكان العرفانية حضورها في المشهد بما يجعل من أدوات الجسد مكانا تفاصيليا يؤدي دورا حسياً في الحكاية المكانية “لِكَفِّكِ مالِئاً كَفَّي نخيلاً مِنْ كراماتِ”، فكفّ شخصية الأم وكفّ شخصية الراوي الشعري الذاتي تلتقيان في منطقة أخرى من مناطق العرفان “نخيلاً من كرامات”، على النحو الذي يوجب النظر إلى المكان بوصفه أيقونة شعرية تحظى بقية كبيرة من التصوير والتدليل والتجلي الصوري المكاني.
يعود الفضاء المكاني الوجداني من جديد كي يضع بصمته المكانية على الشخصيات في تعضيد العلاقة بين شخصية الراوي الشعري الذاتي وشخصية الأم “لِجَبْهَتكِ التي تَشْتاقُها زخّاتُ قُبْلاتي”، فجبهة الأم هي مكان رمزي مشحون بمعاني العطاء والفرح والأماني الطيبات والوعود الجميلة والاستبشار بالخير القادم، بما تنطوي عليه الصورة الشعرية الوجدانية من زخم عاطفي انفعالي يحيل على شخصية المكان من محاور عديدة.
تختتم الشخصية المكانية صورتها في القصيدة في السياق العرفاني نفسه لتوفير مزيد من التجلّي الوجدانيّ للشخصيات جميعاً “لِعَيْنكِ تَنْثُرُ الدَّعْواتِ /أقماراً بِخَطْواتي”، فالوحدات الشعرية المؤلِّفة لهذه الصورة المشهدية “لِعَيْنكِ/تَنْثُرُ/الدَّعْواتِ /أقماراً/بِخَطْواتي” ذات زخم تعبيري وتشكيلي عالي المستوى، تسهم في تعظيم دور العاطفة الشعرية بحساسيتها التخييلية كي تستعيد الصورة لدى الراوي الشعري الذاتي بالزخم السردي والسيري الماثل في كل مفردات القصيدة، وتجمع ما تنتجه هذه العلاقة الحميمة بين الشخصيات كلها؛ من شخصية الراوي الذاتي الشعرية بوصفها شخصية محورية وحتى الشخصيات الساندة مثل شخصية الأم والأب والجد، وصولاً إلى الشخصية المكانية بوصفها شخصية حاوية وحاضنة.
تحظى شخصية المكان في النص الأدبي عموماً بمكانة كبيرة لاستيعاب الحراك الأدبي للشخصيات والأحداث والرؤى الفكرية، وهذا النوع من المكان هو المكان الذي تلتقي فيه أنواع مختلفة من البشر ويزخر بأشكال متنوعة من الحركة(26)، وتكون فيه الشخصيات على نحو خاص أهم أدوات الإشغال والتعبير والتدليل، بما يجعل من القصيدة التي تنطوي وتشتغل عليه في مثل هذه الصورة قصيدة متكاملة فنياً.
الهوامش:
(1) د. سعد عبد العزيز: الزمن التراجيدي (في الرواية المعاصرة)، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة, 1970م: 1.
(2) ينظر: أحمد محمد علي حنطور، الشخصية التراثية في الشعر العربي المعاصر بين التوظيف والتحريف، محاضرات الموسم الثقافي لكلية اللغة العربية، الجزائر، 1420هـ – 1999م: 412.
(3) ينظر: د. عدنان خالد عبد الله، النقد التطبيقي التحليلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1, 1986م: 66.
(4) د. منصور عز الدين، بنية الشخصية في رواية جبل الزمر، منشورات جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، الجزائر، 2018 م: 9.
(5) ينظر: د. محمد عبد الله منور، استلهام الشخصيات الاسلامية في الشعر العربي الحديث، النادي الأدبي بالرياض، ط1, 1428هـ – 2007م: 44.
(6) صدرت هذه المجموعة للشاعر سعيد الصقلاوي عن المركز الدولي للخدمات الثقافية، بيروت، ط1، 2020.
(7) ينظر: د. محمد غنيمي هلال، النقد الادبي الحديث، دار الثقافة ودار العودة، بيروت, 1973م: 570.
(8) ينظر: د. محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، بيروت – لبنان, ط5, 1966م: 104.
(9) د. عبد الله ابراهيم، السردية العربية في بحث بنية السرد للموروث المكاني العربي، المركز الثقافي العربي، ط1, بيروت، الدار البيضاء, 1994 م: 11.
(10) د. عز الدين إسماعيل، الادب وفنونهُ، دار الفكر العربي، القاهرة، ط6, 1976 م: 187.
(11) ينظر: جاسم عاصي، دلالة النهر في النص، سلسلة “الموسوعة الثقافية”، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2007: 8.
(12) ما تبقّى من صحف الوجد: 11-13.
(13) ما تبقّى من صحف الوجد: 20-21.
(14) ما تبقّى من صحف الوجد: 23.
(15) ينظر: ألحان عبدالله العباجي، الشخصية القصصية في الشعر قبل الاسلام، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة الموصل, 2010 م: 75.
(16) ينظر: النقد الادبي الحديث: 139.
(17) ينظر: د. محمد عزام، تحليل الخطاب الادبي على ضوء المناهج النقدية الحديثة، منشورات اتحاد الكُتاب العرب دمشق, 2003 م: 329.
(18) ما تبقّى من صحف الوجد: 14-18.
(19) د. إبراهيم أحمد “إشراف”، الموروث والهوية الوطنية، تأليف جماعي، دفاتر مخبرية تصدر كل سنة عن مخبر حوار الحضارات، التنوّع الثقافي وفلسفة السلم، جامعة مستغانم، الجزائر، ط1، 2014: 7.
(20) ما تبقّى من صحف الوجد: 21-22.
(21) ينظر: د. صالح هويدي، التوظيف الفني للطبيعة في أدب نجيب محفوظ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992: 72.
(22) تودوروف، الشعرية، تر: شكري المبخوت ورجاء الدين بن سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2, 1990م: 50.
(23) د. اعتدال عثمان، جماليات المكان، مجلة الأقلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العدد (2) شباط، السنة الحادية والعشرون, 1986 م: 76.
(24) ينظر: النقد الادبي الحديث: 569.
(25) ما تبقّى من صحف الوجد: 18-20