ملائكة في عزبة الزبالين (قصة داخل قصة)
محمد شمروخ | مصر
ما أن لمحت وجهه من بعيد، حتى انحنيت تجاه المقهى لأسلم عليه وشجعتنى ابتسامته لقبول دعوته للجلوس معه
لشد ما أخشى طباع هؤلاء الأدباء، فكثير منهم يتعمدون إبراز أنهم متقلبو المزاج حتى لو لم يكن ذلك من طباعهم الأساسية، لكن هذا الأديب لم أشعر مطلقا بأنه يصطنع إظهار أي خليقة ليست فيه، حتى يبدو -على شهرته – كأي رجل عادى لا يلفت الانتباه إلا إذا نبهك إليه أحد.
وجلست على الكرسي المقابل على المائدة الصغيرة قبل أن يطلب من الجرسون كوبين شاي بدلا من واحد.
استدار ليضبط جلسته ووجه إلى سؤالا مباشرا بدون أى مقدمات بعد أن لمح مجلة مطوية في يدى:
– هل قرأت قصتى الجديدة المنشورة اليوم؟!
مجرد صدور السؤال منه إليّ جعلنى أشعر بافتخار، فهو روائي وقصاص مشهور تتهافت الجرائد والمجلات ليكتب لها قصصا أو روايات مسلسلة، لكن في الوقت نفسه شعرت بثقل المسئولية التى حملنى إياها فسرعان ما أفسدت هذه المسئولية لحظات الفخر القليلة، لكن لم أشأ أن أطيل التفكير في ذلك، فقررت مواجهته برأيي الذي تكون لدى منذ أن صافحت عيناى عنوان قصته.
ولكن عنوانها أثار استيائي، ربما شعرت بالقرف منه، ولكن لما أنهيت القصة قبل النزول في محطة مترو جمال عبد الناصر، عجزت قريحتى أن تجد عنوانا يمكن أن يكون بديلا!
فأجبته بطريقة تؤكد أننى قرأت القصة قراءة متأنية وليس قفزا على السطور:
ــ لابد أن أصارحك بأن العنوان صدمنى في البداية ولكن مع نهايتها تحسست أنك تقصد إصابة قارئك بالصدمة
فمال برأسه وهو يقهقه بشدة ولكنها طريقته المعتادة فى الضحك عندما يعجبه شيء، وأومأت لي طريقته تلك، بأنها ضحكة المتفاجئ بالرأي وليس الظافر بالإعجاب من قاريء
“ملائكة القمامة”
هذا هو عنوان القصة التى بدت تقليدية ولكن بقليل من التعمق ستلوح كأنها بحث فلسفى مكتوب بأسلوب أدبي وهو إن كان يطعم قصصه بالفلسفة، إلا أن هذه القصة جاءت على العكس إذ بدا وقد طعم فيها الفلسفة بالأدب، فالقصة تتحدث عن هروب فتاة صغيرة مع زبال بعد أن نبتت بينهما بذور الحب وترعرعت وأورقت وأثمرت عشقا لا يقاوم. ذلك رغم أن عائلة الفتاة من سراة الناس قلبوا الدنيا رأسا على عقب، حتى عثروا عليها تعيش في عزبة الزبالين على أطراف المدينة!.
لكنها تزوجت بالفتى الزبال زواجا شرعيا مكتمل الأركان!
إلى هنا بالأمر ليس فيه من الغرابة ما يثير، فالواقع يقدم ما هو أكثر عحبا، ففتاة في سن السادسة عشر، لا يستبعد أن تستسلم لعواطفها الجياشة تجاه أى شخص. القصة لا تبرر سبب هروب الفتاة بالحب وحده، لكن أسرتها مصابة بكل أنواع الانحراف الأخلاقي، أب سكير وأم منفلته وأشقاء وأبناء عمومة من بينهم مدمنون لشتى أنواع المخدرات، هذا ليس حال أسرتها الصغيرة فحسب، لكنه حال العائلة الكبيرة كلها تقريبا، حتى أنهم اعتادوا وقوع فضائح بين حين وآخر، ما بين خيانات زوجية واعتداء على حرمات ومؤامرات من أجل المال، المصيبة الحقيقية أن الفضائح لم تعد تعطى مدولاتها المعتادة وصارت أفعالا عادية!.
العائلة واحدة من أشهر العائلات في مجال التجارة، لكنها تحيط نفسها بسياج منيع أفلحوا به في تقديم صورة مناقضة لما يحدث بينهم، فالرجل الكبير وهو عميد الأسرة “الحاج فؤاد تغيان” يمتاز بسمعة طيبة ويحج كل عام ويعتمر عدة مرات ولا يكف عن أعال الخير ويصدر لمن حوله صورة المؤمن التقى النقي، خاصة أن منظره بزبيبة الصلاة واللحية المهذبة والعباءة النظيفة، مع أنه على العكس تماما مما يبدو عليه، فهو وإن كان جادا في إدارة شئون إمبراطوريته التجارية حتى صار كالجنيه الذهب في السوق، إلا أنه داخل محيط العائلة غير ذلك تماما، وفي كل شيء حتى المظاهر الدينية يتخلى عنها يعيدا عن الناس، فلم تره حفيدته يواظب على الصلاة إذا ما ظل وقتا طويلا بالبيت ولكنه يعمد إلى المسجد مادام خارج المنزل خصوصا في العمل!
كان أيسر شيء على لسانه هو سب الدين مع أقل انفعال وهو دائم الشجار مع أولاده بأقذع الألفاظ وهم جميعا صاروا نسخا مكرره منه وإن زادوا بالإسراف فى شرب الخمور الفاخرة والإدمان على تعاطى المخدرات.
والد الفتاة نفسه “المهندس شفيع” سافر للخارج أكثر من مرة للعلاج من الإدمان وكم كانت الفتاة تتمزق وهى تراه يفقد سيطرته على نفسه عقب تعاطى الهيرويين فيسيل لعابه كالبلهاء وكثيرا ما يفقد تحكمه في التبول وهو بكامل ملابسه.
في ذلك الوقت كانت أمها قد اضطرت لسلوك طريق العائلة بعد زواجها، لأنها لم تتحمل المقاومة كثيرا وشيئا فشيئا أدمنت الأم الحبوب المهدئة وحتى لما ثارت على حالها وطلبت الطلاق، كان ذلك من أجل الزواج من ابن عم الزوج الذي ارتبطت به بعلاقة سرية ما لبثت العلاقة أن تكشفت للعائلة ولكن الأب رفض الطلاق عنادا وهدد ابن عمه بصور فاضحة التقطها بنفسه لزوجة ابن العم هذا والتى تنتمي لعائلة كبرى أيضا، بعد أن سافرا معا في يوم شتائي في رحلة خاطفة إلى فيلا العائلة في الساحل الشمالى!.
وبقى الوضع على ما هو عليه.. فلا هذا طلق هذه ولا تلك أصرت على الطلاق من ذاك، واستمرت المشاكل بين خصومات حادة تدفعهم الفضائح إليها دفعا ومصالحات ضرورية تفرضها المصالح عليهم فرضا!
لكن الفتاة الصغيرة رفضت كل ذلك ولما شعرت بدبيب إعجاب من الزبال الشاب الذي يحضر كل يوم، وأحست بمدى معاناته كلما تقاطعت خيوط البصر بين عيونهما، صارحته بمشاعرها لأنه لم يكن له أن يجرؤ بكشفها، ولم تتردد في القرار وهربت معه إلى عزبة الزبالين!
إلى هنا يمكن استيعاب القصة ومثلها يتكرر، فالشاب وسيم ومهذب وهو طالب جامعى حتى ملابس العمل تبدو نظيفة وهو ينقل أكياس الزبالة كل يوم من شقق العمارات التى يجمع منها القمامة ومن بينها العمارة التى يقطنها الحاج فؤاد وأولاده.
ولكن مفاجأة القصة هى أن الفتاة هربت احتجاجا على ما تراه من خطايا في وسط عائلة غاب عنها معنى الخطيئة من فرط ما يجرى من آثام!
وهنا تتبدى فلسفة كاتب القصة التى تحتاج مجهودا لاستيعاب قصد المؤلف، فالفتاة لم تفعل هذا الفعل الذي يبدو منحرفا، إلا هروبا من انحراف حقيقي، فاللغز في سؤال “كيف استشعرت بفطرتها أن ما يدور حولها هو دنس حقيقي؟!”
لكنه يرى أن سبب ذلك أنها حافظت على مرارة الصدمة عندما كانت ترى وتسمع الفضائح المحيطة بها وتمسكت بأن الخطيئة ستظل خطيئة وليست حقا وراحت تقارن بين الصورة الكاذبة المتقنة للعائلة الكريمة بينما تدرك حقيقة حياة أهلها الماجنة، كان يمكن أن تفعل مثلما يفعلون وبيئتها تمهد لها ذلك وتنفى وقوع أى استغراب، خاصة أن أولاد وبنات أعمامها وعماتها يمنحون لأنفسهم الحق في ارتكاب أى موبقات استنادا للوضع المالى وما اكتسبته العائلة من مستوى اجتماعى عال جعلهم يسكنون أرقى الأحياء ويرتبطون بعلاقات وطيدة مع علية القوم!
المؤلف يصر على أن الحرية الحقيقية هي أن تنسلخ من محيطك الذي ولدت فيه من منطلق أن حقيقة ذاتك غير تلك التى تفرضها عليك الظروف المالية والاجتماعية!
إنها حقيقة لا تهدى إلا إلى القليلين ولا يدركها إلا أنقياء القلوب.
وعملية النقاء القلبى هذه، تحتاج لإرادة جبارة في الإنسان، فطبيعة الحياة هى أنك لابد من أن تصاب بالتلوث ما لم تتعهد نفسك بالاغتسال يوميا، فلو تركت جسدك بدون استحمام ستعلق به الأوساخ دون أى مجهود، فلابد من المعاناة للحفاظ على الطهر، وليس ثمة فرق بين الروح والجسد في تعلق الأدران وضرورة الاغتسال للتطهر!.
المفاجأة الأخرى أن الفتى الزبال لما عقد قرانه على الفتاة، رفض الدخول عليها وقرر عندما وصلوا إليه بعد إبلاغهم الشرطة، أنه متمسك بزوجته ولن يطلقها ولو خرجت روحه من جسده، حتى يتيقن من أنها لن تندم على اختيارها هذا!.
القانون هنا في صف العروسين، فليس أمام الأهل إلا رفع قضية فسخ عقد زواج لعدم التكافؤ والقضية ليست مضمونة لأن أبا حنيفة يوسع في هذا الأمر فيرى الزواج متكافئا ما داما مسلمين مهما بلغت الفوارق بينهما.
“هي وصلت لأبي حنيفة؟!”
لكن الفتاة صرخت في وجه أبيها في مكتب المأمور بأنها ستفضح كل أسرار العائلة لو لم يتركوها وشأنها!
– وماذا بعد؟!
سألنى الأستاذ الأديب وأنا أسرد على مسامعه فقرات من قصته بعد أن فردت المجلة على المائدة ورحت أتخير الفقرات للقراءة والتحليل
ولكن لم أحر جوابا، فبصفتى واحدا من أكثر المعجبين والمتابعين لإنتاجه القصصى، فهمت ماذا يريد، إنه يمجد فكرة الحرية الحقيقية التى بنفلت بها الإنسان عن وسطه الاجتماعى ليقرر ذاته بنفسه، أهم ما في هذا الأمر ألا تكون انعكاسا لهذا الوضع الاجتماعى، فقيمتك كإنسان أعلى من أى تعريف يتلو اسمك، فالفتاة كانت حرة في أن ترفض حياة المجون الخفى في أهلها خاصة ووسطها عامة، فكان من الممكن أن تعيش حياتهم وسوف تتزوج من شبيه لها يحتل مركزا مرموقا يكون كفئا لها وتزهو به عائلتها كما تزهو عائلته بها، لكنها سارت في أثر شعاع خرج من أعماق نفسها ينبهها:
– أنت حرة
وفعلا تحققت حريتها باختيارها الزبال وبقرار العيش معه في عزبة الزبالين ومع أن أهل الفتى رفضوا فعلته، إلا أن مجيء هذه الفتاة إليهم أحيا فيهم الشعور بأدميتهم، شعور افتقدوه، بل قل إنه لم يكن يخطر لهم على بال، حتى بعد أن صار الزبالون ذوي دخول كبيرة، وقامت بيوتهم بالأسمنت المسلح، لكنهم عرفوا أن أولئك الذين ينحنون أمام أبواب مساكهم لحمل أكياس القمامة، لا يفرقون عنهم قيد أنملة!.
كل مستسلم لما فرضته قواعد وبروتوكولات وسطه الاجتماعى، الفتى الزبال نفسه، تعلم من الفتاة هذا الدرس، فتمرد على سلوكيات منحطة كانت تجرى أمام عينيه في عزبة الزبالين.
إنه الإنسان يفجر في كل موقع ولكن هناك فجور يختال به البعض ويرتكبونه ترفا يرونه حقا لهم وهناك فجور تعبير عن الإحباط والقنوط وتحت ضغط شعور عميق بالدونية يغتصبونه من الحياة اغتصابا.
لكن الفتاة والفتى خرجا من الدائرتين معا ونحجا في الاختبار الذي لا يجرؤ أحد أن يتقدم إليه بأوراق إجابة
حتى مفهوم التمرد في حد ذاته لن يكون مفهوما حرا إلا إذا انسلخت من انتماءاتك المزيفة!
وحذار أن تستبدل قيدا بقيد وأغلالا بأغلال، فحتى مفهوم الحرية نفسه قد يخضع لمنظومة من القيود ما لم تقرر بنفسك أنك بالحقيقة “حر”
والحرية هى أن تدرك أنك أنت هو أنت حتى لو قررت أن تبقى في الوسط نفسه لكن بشرط أن تدرك أنك أدركت وتعي بأنك وعيت
كل هذا في القصة؟!
إي وربي إنه قد كان
وتوالت ابتسامات الظفر من الأستاذ الروائى وهو يشعر بأن رسالته في قصته يمكن أن تصل وما دامت وصلت لقارئ واحد في صباح يوم نشر القصة، فحتما ستصل غيره ولو كانوا قليلين، فهو حسب ما قال وهو يدفع حساب المقهى:
“أنا لا أقصد إلا هؤلاء القليلين ولا أريد إلاهم!”.