ملامح الدیستوبیا وتمظهراتها في شعر عبد الرزاق الربیعي

الباحث الإيراني | صادق حسن

مجلة لسان مبین – جامعة قزوین 

تمهيد

الأدب الدیستوبي یحكي عن مجتمعٍ فاسدٍ، ومخیف، وغیر مرغوبٍ فیه، ویروي أحداث المكان الخبیث والواقع المریر بعد ما أصبحت المدینة الفاضلة في مُخیّلة الأدباء ولم یحصلوا عن مدینةٍ لائقةٍ للعیشِ. لذا اصبحت المجتمعات المدنية محور الأحداث الإنسانیّة في المدینتين الفاضلة والفاسدة؛ فالیوتوبیا أصبحت أملاً للبشریّة والدیستوبیا عالماً یتصارع فيه النوع البشري؛ فهاتان مدینتان متنافستان علی الإصلاح والفساد. وإنّ الشعر نشاطٌ إنساني إهتمّ بالمتغیّرات الإجتماعیّة، واختار مواده من تلك الأحداث المكوّنة في المدینة إمّا الفاسدة وإمّا الفاضلة. 

جسّد عبدالرزاق الربیعي المدینة الفاسدة بتبعیضها الطائفي وفقرها وحرمانها بعد ما عاش حیاةً ملیئةً بالتبعیض الطائفي وشهد الفوضی العارمة ونهب التراث ودمار البیئة أثناء الغزو الأمریكي وسلطته علی العراق. هذا البحث وفقاً للمنهج الوصفي-التحلیلي يقوم بدراسة ظواهر الدیستوبیا كالفوضی والمعاناة الیومیة للسكان، والفقر والحرمان، ودمار البیئة والتراث الإنساني، والموت، وسلطة الأجانب علی الوطن، وتجليات هذه القضايا في شعر الربیعي. ومن أجل أهمیّة الموضوع یحاول هذا المقال في ضوء عناصر الدیستوبیا، تسلیط الضوء علی نصوص الربیعي، للحصول علی معلوماتٍ عن العوامل الإنسانیة والإجتماعیة التي تنمّي موجة الدیستوبیا في المجتمع وكیفیة ظهور هذه العناصر في البنیة الشعریة لدی الشاعر. وقد بیّنت الدراسة رصد الشاعر للأوضاع الإجتماعیة السائدة في العراق، وقد كشفت عن أمور مسكوت عنها كالمقابر الجماعیة كما أنّها أبانت عن جرأة الشاعر في طرح قضایا من الصعب تداولها علناً.  

الكلمات الدلیلیة: الشعر العربي المعاصر، الدیستوبیا، العراق، عبدالرزاق الربیعي.

  1. المقدّمه

الدیستوبیا أو المدینة الفاسدة (dystopian literature) أو الأدب السقیم (anti-utopian literature) من الظواهر الأدبیة التي ظهرت في القرن العشرین جوف النصوص الأدبیة وشُیِّدَت علی نقیض المدینة الفاضلة التي لطالما حلم به الفلاسفة والمفكّرون منذ أفلاطون. الأدب الدیستوبي یظهر القسم المظلم من العالم، والقسم الذي مملوء بالبؤس، والیأس، وأشد أنواع الحرمان. يعتقد سلافوي جیجك أنّ ثورة 25ینایر من عام 2011م في مصر وباقي البُلدان العربیة هي سنة ولادة الأدب الدیستوبي في الأدب العربي؛ فيذكر في مقدمة الكتاب: «في سنة 2011م شهدنا سلسلة من الأحداث الصاخبة؛ من الربیع العربي إلی حركة احتلوا وول ستریت… لقد كانت سنة الأحلام الخطیرة في إتجاهین: أحلام متحركة تحرّك المتظاهرین في نیویورك ومیدان التحریر في لندن وأحلام هدّامة غامضة تدفع الشَعبَویینَ العنصریینَ تجاه أوروبا من هولندا وحتی المجر، المهمة الأولیّة للإیدیولوجیا المهیمنة كانت تحیید البُعد الحقیقي لهذه الأحداث.» (جیجك، 2013م: 3). 

الحدیث عن عراق الثمانینیات حتّی عراق الألفین أمرٌ في غایة الأهمیّة. نری عراقاً مستقلاً ذا سیادةٍ، وعراقاً یخضع لإحتلالٍ عسكري مباشر من قبل دول أجنبیة، وفي وسط هاتين المرحلتین، تقع مرحلة أثناء الحرب وهي مرحلة في غایة الخطورة لأنّ أبناء الشعب خلال هذه المرحلة همّوا لنهب الثروات التراثیة، والحدیث عن هذه المراحل والكشف عن الوقائع تظهر الكثیر من القسم المظلم لتاریخ العراق الحدیث. عالج عبدالرزاق الربیعي هذه المراحل بأكملها. فإذا كانت الدیستوبیا ترمُز إلی زوایا مختلفة من علاقة الإنسان بالمدینة، وعلاقة الإنسان بالمجتمع؛ فقد أصبحت ملامحها في أدب الربیعي واضحة ومُبرهنة وأسبابها التجرّد من الإنسانیة عند الفوضی، والقمع من قِبَل الحُكام، وفقر الشعوب، والظلم الذي لطالما كان بمعیتهم، وكوارث بیئیة حصیلة الحروب؛ لهذا ومن خلال الإنتاج الشعري لدی الربیعي تبیّن لنا أنّ دور الدیستوبیا أكثر فعالیة من نظیرتها الیوتوبیا. 

1 – 1 – أهمیّة البحث وأهدافه

أثّرت النكسة علی الشعراء من الناحیة الوجدانیة والنفسیة وظهرت الدیستوبیا بشكلٍ لافت بعد النكسة أي في عام 1967م وتكاثرت النصوص التي تعالج الدیستوبیا في العصر الحدیث. بحث الشعراء في الخیال عن مدینة فاضلة تبعدهم عن واقعهم المریر لأنّ المُدُن العربیة لطالما تعاني من الفقر، ودمار للإنسانیة والبیئة من وجهة سیاسیّة، وإقتصادیة وأصبح الموت غیر إعتیادي في هذه المُدُن العربیة. عبّر الربیعي في شعره عن المدینة الفاسدة التي عاشها منذ ولادته كالتبعیض الطائفي والعنصري، والفقر والحرمان، وموت غیر الاعتیادي سیّما الإعدام والمقابر الجماعیّة، والمعاناة الیومیة للشعب العراقي. بعد الاحتلال الأمریكي للعراق عالج الربیعي قضیة الحرب والموت والسلطة الأجنبیة بشكلٍ عیان، وحذّر الشعب من الفوضی ونهب الثروات ودمار البیئة. كل هذه الأمور جعلتنا نلتفت إلی شعره التفاتة خاصّة لنعالجه من الناحیة الدیستوبیة، وقد رصدنا ملامح الدیستوبیا، سیّما المعاناة الیومیّة للسكان والفوضی والتمرّد، ودمار البیئة والتراث، والفقر والحرمان، والطائفیة والموت، وسلطة الأجانب علی العراق. نتیجةً للواقعِ المریر الذي عاشهُ المجتمع وانحسار المدینة الفاضلة في فكر الربیعي أصبحت ومازالت الدیستوبیا هي المسألة الأكثر أهمیّة عنده لأنهُ عاش وشهد هذا الواقع.

1 – 2- أسئلة البحث 

إنّنا في هذا المقال نسعی إلی الإجابة عن الأسئلة التالیة: ما هي معالم الدیستوبیا في شعر عبدالرزاق الربیعي؟  وكیف برزت هذه الملامح الدیستوبیا في شعره؟ وما هي الدوافع التي ساقت الشاعر إلی تصویر الدیستوبیا في نصوصه؟

1-3- خلفیّة البحث

من خلال بحثنا لقد عثرنا علی دراساتِ قلیلة في مجال السینما والمسرح والرسم والتصویر والروایة وافتقر الشعر إلی البحث والتنظیر في مجال الدیستوبیا. كَتَبَ الطالب علي ظفر قهرماني‌ نجاد رسالتهُ لنیل درجة الماجیستیر بعنوان “الدیستوبیا في السینما” وناقشها عام 1383هــ.ش في جامعة الفنون الإیرانیة وقد رصد الأفلام القصیرة وبحث هذه الظاهرة في اخراج هذه الأفلام. وهناك مقال تحت عنوان «ثنائیة الیوتوبیا-الدیستوبیا في الروایة العراقیة؛ دراسة سیمیائیة»، للكاتب أحمد عبدالرزاق الحسني وقد درس هذه الظاهرة في روایة “هواء قلیل” للروائي جنان جاسم حلاوي، وروایة “نجمة البتاوین” للروائي شاكر الأنباري، وروایة “وحدها شجرة الرمان” للروائي سنان أنطون وذلك من خلال دراسة البنیة الدلالیة المتمثلة في استعمال المربع السیمیائي الذي قدمته مدرسة باریس السیمیائیة ونُشِرَ هذا المقال في مجلة كلیة الآداب بجامعة بغداد، سنة 2015، العدد 112. 

     وبالنسبة للربیعي فلم ینل حقّه من الدراسات، حيث وجدنا دراسات قلیلة عالجت قضایا شعره بصورة عامّة وعابرة. قامت رشا فاضل بنشر كتاب سَمّتهُ “مزامیر السومري” عام 2010م  في دار شمس. عالجت الكاتبة المنجز الشعري للربیعي، ثمّ أتت بالدراسات والمقالات التي عالجت المنجز الشعري في نصوص الشاعر، وتحدثت عن شخصیة الشاعر وملامحه الانسانیة من خلال انعكاس صورته في مرایا الآخرین. ونشر ناصر أبو عون كتاباً حول شعر الربیعي بعنوان “عشبة جلجامش- جمالیات الإیقاع في شعر عبدالرزاق الربیعي” في دار كنوز المعرفة، الأردن عام 2013م. قُسّــِم الكتاب إلی ثلاثة فصول، قام الكاتب بشرح المرئي والمكتوب في شعر الربیعي ودراما الصورة الشعریة في نصوص الشاعر في الفصل الأوّل، ثم درس البنیة الإیقاعیة والأبعاد الجمالیة والتكوینیة في شعر الربیعي، وفي الأخیر قدّمَ دراسة في دیوان “خذ الحكمة من سیدوري”. ومن خلال إطلاعنا علی منجز الشاعر تبیّن لنا عدم دراسة الدیستوبیا في شعره بالرغم من مكانتها المهمّة في تجربته الشعریّة، فهذا البحث الذي بصدد انجازه یُتعبر الأوّل من نوعه في شعر الربیعي. 

2-  سیرة حیاة الشاعر

وُلِدَ عبدالرزاق الربیعي في عام 1961م في بغداد وغادر العراق عام 1994م هارباَ من مأساة الحصار الأمیركي وطغیان حزب البعث. «خرج عبد الرزاق الربيعي من العراق في عام 1994م متوجهاً نحو الأردن.» (ابوعون، 2013م: 57). وكان خروجه أمراً طبیعیاً. وشعره شعر حنین وحُزن وألم «مندمج بالحياة اليومية بكل طبقاتها وظلالها ومستوياتها، ويكاد يكون شعره سيرة شعرية مكتنزة للتفاصيل الحياتية العراقية، فالمكان العراقي بتنوعاته المعروفة عنصر أصيل من عناصر شعريته.» (المرسومي، 2015م : 4). نشر الربیعي أعمال كثیرة منها خذ الحكمة من سیدوري، وأصابع فاطمة (فاضل، 2010م : 4-5). 

2. مقوّمات الدیستوبیا  

فیما یتعلّق بكلمة الدیستوبیا dystopia تعني الضد من الیوتوبیا، فهي «المدینة الفاسدة التي ترزخ تحت الفقر والجوع والظلم. عُرِفَ هذا المصطلح عند الكاتب جورج أورویل في روایته الموسومة بـــ”1984″.» (الحسني، 2015م: 136). إنّ الدیستوبیا «مأخوذة من الیونانیة بمعنی المكان الخبیث والعمل الدیستوبي عادة ما یعكس الواقع الإجتماعي-السیاسي المعاصر ویستنتج أسوأ سیناریوهات وأسوأ الحالات كتحذیرات للتغییر الإجتماعي أو الحذر الضروري.» (Guardian: 2015). فالدیستوبیا ضد الیوتوبیا حيث هو مصطلح فلسفي یوناني بمعنی المدینة الفاضلة و«مؤلف من لفظتین یونانیتین “topos” ومعناها المكان ولفظة “”ou ومعناها لیس في مكان، إذن ما لیس بمكان هو الخیالي أو المثالي، فهو مصطلح یدلّ علی ما یجب أن یكون علیه المجتمع المثالي. وأوّل من استعمل هذا المصطلح توماس موراس في عام 1516.» (صلیبا، 1982م: 24). فلطالما بحث الفلاسفة والأدباء عن مدینة هادئة سُمّیَت بالیوتوبیا في نصوصهم. وكان أفلاطون یحلم بمدینةٍ تتوفّر بها السعادة مكوّنة من ثلاث طبقات وهم الأوصیاء والمحاربون والمزارعون وكلّهم یعملون جنباً لجنب لسعادة أبناء المدینة، ولم تتمكن أيُّ من المجتمعات الإنسانیة من تنفیذ هذا الحلم علی أرض الواقع وهو تشیید المدینة الفاضلة. (أبو‌یحیی، 2016م :2-3). استلهم الشعراء بشكلٍ مفرط من أسوأ تصوراتهم والواقع الحالي وقد صعب تمییز الواقع من الخیال؛ واصبحت جبهتین مختلفتین جبهة تری المدینة الفاضلة في متناول الأیدي وجبهة تری المدینة الفاسدة قد سیطرت ظلالها علی الشعوبلإ ولهذه الجبهتین اصبح أدباَ یعالج قضایاها الفلسفیة والاجتماعیة. «الأدب الیوتوبي هو أدب الأحلام الجمیلة والمدینة الهادئة والمكان الفاضل الذي یهیّء السعادة لسكانه؛ والأدب الدیستوبي أو أدب المدینة الفاسدة أو أدب الواقع المریر هو مجتمع مخیف أو غیر مرغوب فیه، تسوده الفوضی؛ وأبرز ملامحه الخراب والقتل والقمع والفقر والمرض وهو یأتي في مقابل أدب الیوتوبیا أي أدب المدینة الفاضلة.»(برجكاني، 2018م: 136). العراق والمُدُن العراقیة لطالما كانت المواد الحاضرة والجاهزة في الأدب الحدیث، فأحداث العراق هي المادّة المؤلمة للشعراء لیستلهموا من واقعها المریر لإغناء نصوصهم، وقد عاش العراق حالة حصار ودمار  وكل الأهداف التي جلبت العراق إلی هذه المهلكة هي: «هدف إستراتیجي بسبب موقع العراق، وهدف النفط والسیطرة علیه، وحمایة إسرائیل، تلك الأهداف غیر المعلنة المتبقیة والمحتملة لغزو واحتلال أمریكا للعراق.» (حسیب، 2006م: 6). لهذا رشّحنا موضوع الديستوبيا في شعر الربیعي لأهميتها وضرورة البحث فيها. 

2 -1- الأدب الدیستوبي في شعر الربیعي

الربیعي الشاعر الناجي من مجازر العراق یجرؤ علی سرد الأحداث التي عانی منها الشعب العراقي لسنوات؛ كان التبعیض الطائفي والعِرقي من أهمّ الأسباب التي جلبت الفقر، والجوع، والبطالة إلی الكثیر من أبناء الشعب، والمعترض نصیبهُ التعذیب، والسجن، والإعدام، وقد عاش الشعب في حالة قمع، ثمّ عندما جاءت الغُزاة بحجّةِ انقاذ الشعب العراقي من یدِ الطاغیة؛ عجّت الفوضی وهمّ أبناء الشعب لنهب ثروات العراق وتناسوا بأنّ كل الذي نُهِبَ كان في إطار الثروة التراثیّة الذي خلّدها الآباء منذ عهدٍ قدیم، هذه الآلام التي عاشها الربیعي وعانی منها، ظهرت في نصوصه بملامح دیستوبیا، ومن خلال هذا المقال سنرصد ملامح الدیستوبیة في شعره: 

2-2-1- الفوضی والتمرّد 

الفوضی هي السمة البارزة في كیفیة رؤیة كتّاب الأدب للعالم، وما یحكمه من قوانین مرئیة وغیرمرئیة وما یسوده من أحداث قد لا یبدو لها تفسیر للشاعر لأنه یكوّن البُنیة الشعریة ومواد شعره من داخل المجتمع الذي یقطن فیهِ أو تربطه علاقة فطریة وفكریة بهِ، لهذا یری لوسیان غولدمان أنّ الظواهر الثقافیة تأتي من بطن المجتمع و«أي تأمّل في العلوم الإنسانیة لابد أن ینطلق من داخل المجتمع لا من خارجه وأن الظواهر الثقافیة أبنیة تتولد عن أبنیة أوسع ترجع إلی العلاقات الإجتماعیة نفسها» (الحسیني، 2015م: 26). يصوّر الربیعي الفوضی علی جسر بزیبز بعد فِرار الأهالي من مجزرة داعشیة:

«علی جسرٍ بزیبز/ فتحتِ السماء ذراعیها للتیهِ/ فسقطت الجنّةُ/ من عروةٍ/ في قمیصِ الأحد الحزین/ وخطوةً…خطوةً/ عبرت البلاد للمرّة الألف/ جسر الآلامِ/ عبرت زفرات الأفاعي/ التي تفحَّ من كلّ جحرٍ ثمّ غاصت في حرقةِ الظلامِ» (الربیعي، 2019م: 1/387).

جسر بزیبز هو الجسر الذي یربط محافظتي الأنبار وبغداد وهو الذي شهد أكبر نزوح جماعي بعد سیطرة داعش علی الرمادي یوم الأحد 17مایو 2015م. وهذا النزوح هو أعظم فوضی جماعیّة شهدها العراق علی مدّ عصوره. فرّت أبناء العراق من نساء ورجالٍ وأطفال من بیوتهم إلی المخیّمات التي یُحیطها الذعر والإضطراب. ويری الشاعر أنّ عروة الوثقی في العراق قد إنفلتت والسبب یعود لعوامل خارجیة، ویرمز بهذه الفئة بلفظ الأحد، وأصبح تاریخ بلاده جسراً للآلام وقد مرّت أیامها عصیبة، كما أنّهُ یصف لنا فوضی أخری وهي إعدام الجنود الشباب في مجزرةِ سبایكر، قائلاً:

«لا تفرّ من رصاصةِ الظلام الملثّم/ خذ نصیبك من الموتِ المدوّن علی صفحة جبینك/ وقف بوجه أعدائك/ مُنتصباً وأنتَ تسبحُ/ في طینِ شواطئ القصور الرئاسیّة/ وسِر مع الماء…/ في قعر وطنٍ/ أعطیته زهرةَ روحك/ وأعطاك طلقةً واحدةً/ وحضِن نهرٍ أحمر» (السابق: 385- 386). 

عندما ینهار الجیش ویتغلّب علیه المتطرفون ویبدأون بالإعدام والذبح یدخل الوطن في مرحلة فوضی والواقع الوطني العراقي لا یدعو إلی الإطمئنان في مرحلة الفوضی، لأنّ الجیش بدل أن یحمي الشعبَ، أصبح ضحية بيد المتطرفین والفوضویین. 

حاول الربیعي من خلال نصوصه أن یصف الفوضی الداخلیة في العراق التي التهمت النظمَ والأمنَ وسلبت الراحة من أبناء الشعب العراقي إذ سقطت بُلدان كثیرة بید الجماعة المتطرفة حیث أبادوا البُلدان وقتلوا سكانها. ثمّ یری الربیعي أنّ الوطن أصبح كغابة:

«خرجت دودةٌ من ثقبِ تذكاري/ حفرته رصاصةٌ/ خارجةَ من غابةِ الوطن» (السابق: 2/ 128).

عدم الأمن جعل بلاد الربیعي غابة مخوفة ومن الصعب العیش في مثل هذا الوطن ویری الشاعر أنّ الفوضی بالبلاد أدّت إلی إنهیار الوطن، حیث أصبح كغابةٍ وخلطت في بلاده الحابل بالنابل:

«تختلطُ الألوانُ/ والحروبُ/ والحساباتُ/ تختلطُ الجنّةُ بالجحیم/ ویغدو من الصعوبةِ/ تمییز خنجر قابیل/ من غرابِ هابیل/ یختلطُ الأمسُ بالحاضرِ/ عندها یستحیلُ تمییز الوجوه/ وتسقطُ الشمس تحت الأقدام» (السابق: 131).

فهذه الفوضی والانهیارات المتتالیة للثقافة العراقیة قبل الحرب، وأثناء الحرب وبعد الحرب جعلت كل شيءٍ یختلط، والأهم هو أنه لایستطیع المرء معرفة الوجوه ویعني الشاعر بهذا التعبیر أنّ نوایا أبناء الشعب تغیّرت وكلّ ٌ یبحث عن مطامعه؛ والشمس في الشطر الأخیر تدلُّ علی الوطن الرازح تحت الأقدام ولا قیمة لهذا الوطن عند أولئك الفوضویین الذین وجدَ الشعبُ في نواياهم الفوضی والتمرّد. لذا رسم لنا عبدالرزاق الربیعي من خلال نصوصه الإطار الدیستوبي حول الفوضی والتمرّد كالتالي:

الیوتوبیا

الدیستوبیا

الهدوء والرضا

فوضی وتمرّد

2-2-2- دمار البیئة والتراث 

تسببّت الحروب والنزاعات المسلحة في العراق علی مدی أربعین سنة بملایین الوفیات والإصابات وقساوتها لم تترك ندوبها علی قلوب الأبریاء فحسب، وإنما طاولت الأراضي والمياه والهواء، والتراث وكانت المزارع والغابات فریسة سهلة لنیران الصراع؛ فأتلفت الحروب الثروات الطبیعیة والثروات التراثیة والوطنیة، وألحقت الضرر بالبُنی التحتیة الأساسیة. فحینما نتكلّم عن الدیستوبیا یجب أن نحرص علی بیان مدی الدمار الشامل الذي لحق بالبیئة، والشوارع، والبنایات. یُعدّ العراق من أقدم مواطن زراعة النخیل في العالم، ومدینة “أریدو” الأسطوریة، وأوّل ظهور موثق لشجرة نخیل علی هذه الأرض الخصبة (البكر، 2013م: 5). قام الربیعي برصد الدمار الهائل والمتوجة للبیئة وكیف أنّ هذه الحرب أودي بحیاة النخیل، قائلاً:

«الرصاصةُ في شظایا القلب/ خاطت في طراوتها حراشفها/ تدحرجَ جرحُه فوق البساط/ وثمّ طائرةٌ تمشّط خیطَ لمعِ النجمِ/ تقصفُ/ في دروبِ الهاربینَ من الجسور/ -أمّاه…../ لكنّ الرماح تناوشت لحم النخیل/ وكان دمعُ القلبِ یسقطُ كالقنابلِ/ فوق أسیجةِ المنازل» (الربیعي، 2019م: 2/90).

الجسور، والنخیل والمنازل ضحیة القصف العشوائي. الرصاص والرماح تنهش النخيل حيث وصفها الشاعر وصفاً بشریاً وكما أنّ الإنسان یتألّم جرّاء الحروب، هذه النخلة أیضاً قد تعبت من الحروب وقد تلاشی لحمها وآنَ أوانها. هذا هو الشاعر الملتزم بقضایا إنسانیة حاول أن یكون دقیقاً في وصف المجزرة في العراق؛ وقد عرف جیّداً أنّ الحرب لا تخذل البشر فحسب، بل تنهش البیئة نهش الضباع، ویری أنّ هذه الحرب دمّرت النخیل. وفي قصیدة “أخطاءُ كولومبس الجدیدة” یصف النخلة وأحوالاتها وكیف الموتُ حلّ بها:

« أولادُ أخي/ یتفسّحونَ تحت القصفِ/ الذي قصفَ الطفولةَ/ من جذورها/ والماءَ الزلالَ/ وعمّتهم النخلةَ/قصف الأیّام علی الحائطِ/ وسفینة السندباد/ في الأفلام المتحركة/ قصفَ الوردةَ التي أرضعتهم من لبن شمسها/ قصف شعر البنات» (السابق: 92)

الغزو الأمریكي علی العراق والقصف العشوائي قضية أساسیة في تدمیر النخیل، وإضافة علی كل هذه الكوارث قام المحتل في عام 2003م بالقضاء علی مساحات كبیرة من البساتین، نتیجة لعملیات تجریف البساتین التي قامت بها قوات الاحتلال في الأریاف والمدن وازدیاد قطع النخیل كإجراء أمني. 

ثمّ تولّی الأمر المولود الحديث الولادة لهؤلاء الغزاة والصهاينة الذي سُمّيَ بداعش، وركزَت سلطات الاحتلال وأتباع التنظیم علی تدمیر أهدافٍ مختلفة مثل أماكن العبادة والمواقع التاریخیة القدیمة منها الأثریات وهدم التماثیل. ومن تلك الفجایع هدم تمثال عبدالمحسن سعدون؛ ففي قصیدة “التمثال” یشیر الربیعي إلی تمثال عبدالمحسن الذي كان مصنوعاً من البرونز وتعرّض لعملیة سرقة في الأیّام الأولی لدخول القوات الأمریكیة إلی العاصمة بغداد؛ فینشد الربیعي قائلاً:

«مخیفاً/ في لیلِ الساحةِ/ كان التمثال/ قویاً تطلعُ من جبهتهِ الأسمنتیة/ نارٌ……./ فانتشرت مابین الناس شظایا الأقوال» (السابق:  97). 

يروي الربيعي دمار التمثال المختص بعبدالمحسن السعدون وهو كان من الرموز الوطنیة العراقیة، ولد في الناصریة عام 1889م وتقلّد أربع وزارات وكان عضواً في المجلس التأسیسي وثاني رئیس وزراء في العهد الملكي في العراق فسُرِقَ ونُهبَ هذا التمثال من قبل أبناء الشعب (المطبعي، 1995م: 1/66). فالحرب والفوضی والسلطة الأجنبیة اجتمعت حتّی تسبّب في إنهیار الإدارة البیئیة من الناحیة البشریة وكذلك یعظم حجم التخریب الذي طاول المنشآت والبنی التحتیة والتراث الإنساني.

 ثمّ في قصیدة “علی ظهر أسد بابل” یری الربیعي أنّ التماثیل حالها حال الإمام الحسین علیه السلام حینما ظلمه الطُغاة وذبحوه وأصحابه العظام، وسال دمهُ مظلوماً:

«یا للأسدِ الحجريّ في بابل!/ طالما رأیتهُ یضع عینه/ بعین الشمس/ رغم أنّ رأسه تقاذفته الجهاتُ/ كرأس الحسین/ حاملاً شظایا التاریخِ المُدماة/ في عربة الأفقِ/ یا للأسدِ الحجريّ الذي/ ركبَ الكون الكائن/ علی راحةِ الله الواسعة/ لماذا لم ترفس جندي المارینز/ الذي اعتلی ظهرك/ علی مرأی الفجیعةِ/ والأقمار الصناعیة؟» (الربیعي، 2019م: 1/120). 

یری الربیعي أنّ هذه التماثیل علی أرض العراق حالها كحال أبي عبدالله الحسین (ع)، حینما دخل العراق واستشهد. فتُذبح هذه التماثیل؛ ولكن الشاعر یطلب من هذه التماثیل أن ترفس الجنود والسارقین؛ فیطلب الشاعر من التماثیل أن تحمي نفسها لأنّهُ لا یوجد من یهتمّ بالتراث البشري في العراق. فالحربُ أدّت إلی إحتراق البیئة، والتراث والبشر والبیوت والشوارع والجسور، وهذا ما عكسهُ الربیعي في شعره. ویصف لنا الربیعي أنّ الحروب كیف تدمّر كل شيء راسماً لنا من خلال شعره الإطار الدیستوبي:

الیوتوبیا

الدیستوبیا

بیئة نظیفة

بیئة ملوثه

حفظ التراث

هدم التراث

وجود زراعة ونخیلات

هدم النخیل وحرق المزارع

2-2-3- الفقر

یری المفكرون أنّ الاقتصاد هو الذي یكوّن الطبقات ویحدد العلاقات بعضها ببعض، فهذا لوسیان غولدمان «في منهجه من المادیة التاریخیة یجعل للوضع الإقتصادي أهمیة كبیرة في الحیاة الإجتماعیة ویری أن هذا الوضع وما یرتبط به هو الذي یكوّن الطبقات ویُحدّد العلاقات بعضها بالبعض الآخر بحیث تكون هذه العلاقات ما یسمیه الواقع الإجتماعي» (عصفور، 1981م: 84). والفقر هو الحالة التي یوصف بها الشخص الذي لا یمتلك الممتلكات المادیّة أو المبلغ المالي العادي أو المقبول اجتماعیاً، هذا معنی الفقر العادي والطبیعي بغضّ النظر عن الفقر الثقافي، وقصیدة “أضراسُ الفانوس” هي من أهم القصائد التي تعالج الفقر بشكلٍ لافت:

«فوق التبنِ/ عجوزٌ نشرت حدبتها/ حیث رموشُ عیونِ الفانوسِ المصفرّة/ یعصرها الذلُّ/ مخلّعةَ الأطرافِ/ أمام الموقدِ تسعلُ/ بلّلَ صدریتها/ البردُ» (الربیعي، 2019م: 2/ 228).

یصف لنا الشاعر عجوزة تصارع الفقر خلال أیّام الشتاء والذي یحتاجُ البشر في مثل هذه الأیّام إلی ألبسة دافئة لیقي نفسه. تنمو وتتكاثر هذه الظاهرة في العراق جرّاء الحروب المُهیمنة علی أرض الوطن. إذا كان الفقر الموت الأكبر في الشرع الإسلامي فكیف إذا كانت الفقیرة عجوز لا تستطیع أن تحصل علی قوتٍ لإبقاء حیّة في تلك الأجواء التي حلّت بالعراق وكل واحد یرید أن یخلّص نفسه وأهله من هذه المجزرة، ثمّ یكمل:

«أتی اللیلُ بصافرةِ الحارسِ/ والفانوسِ ولغو الریحِ/ صبيّ الدفتر منكمشٌ/ فوق رصاص القلم الذائبِ/ هل دقّ الأزرقُ أضلاعَ البردي/ حین تسلّل من فتحاتِ الثوب الرثّ/ لیحمرّ الجلدُ الذابل/ یدنو من قلب الموقد/ الفانوسُ یدخّن» (السابق: 228).

یشیر الشاعر إلی الثیاب المستهلكة والمُمزّقة التي لا تحمي الطفل ولا العجوز من البرد القارس في “لیالي الأزرق”، وهي اللیالي الأخیرة من الشتاء التي تمتاز بالبرد القارس وقد تسقط الثلوج فیها وتقل الحركة في أیام الأزرق وخاصة أثناء اللیل. هذه الدقّة في تعابیر الربیعي تُظهر لنا بأنّ الشاعر عاش حیاةَ بؤس وفقر. وصف الربیعي كل أمرٍ في المجتمع العراقي كما وصف الفقر وتأثیره في حیاة أبناء شعبه، لهذا من المادات الإجتماعیة التي اختارها لشعره، هي مادّة الفقر، فیصف لنا مثل هذه التوصیفات في قصیدة أصابع فاطمة:

«ذهبَ الذین تسرّبوا/ من صورتین بمحمل العرس العتیق/ ضفیرتي بنت المعیدي/ والأمیرُ بسیفهِ المشطور/ نابا اللیثِ هادئتانِ/ كفّا جدّتي في اللیل/ عند الموقد/ الشتويّ هادئتان/ عینا أُمنا في السرّ دامعتان» (السابق: 297-298).

یرمز الربیعي بكفّي جدته المصفّرة عند الموقد في أیّام الشتاء إلی الفقر وخلوّها من الأطعمة، ففي فصل الشتاء، الفصل الذي یصعب علی المرء فیهِ الحصول علی الصحّة والعافیة؛ والمواد الغذائیة بسبب تجمّد الأرض. یروي لنا الشاعر أحداث الفقر وكیف أنّ الفقر یشتدّ بالعائلة حتّی تهطل دموع الأُم، ویشكو من القدر الذي جاء بهم إلی الغُربة تاركین قریتهم:

«سبحانَ الذي أسری بنا/ من قصب بحي الرافدین/ إلی أقاصي فندقٍ في حضرموت/ وفاطمه/ جلست علی راحِ الریاحِ/ تمشّط الأزهارَ في شعرِ الفصول النائمة/ إلتفتْ یا رب/ أسرارُ المدینةِ قوّضتها العاصفة/ وعتت لتعتصرَ البیوت/ وفاطمه جمعت زجاجَ هدیرها المطحونَ/ في جزمات عمّال النظافة/ لفلفت لُوزَ النخیل / وعطسة البرد المفاجئ/ إذ رأت أعناقنا ممتدّة حتی الفراغ/ بلا سعف/ فَرَكت ثقوب الناي/ غنّت: للرفاتِ الهائمة»» (السابق: 298- 299).

یذكر الشاعر الأیّام الخوالي عندما كانت العائلة في حي الرافدین قبل أن یأتي بهم القدر إلی هذه المنطقة ویعتقد الشاعر أنّ ترك القُری التي كانت مصدر عیش ورفاه بأراضیها الخصبة وترك الزراعة والمواشي ومجیئهم إلی المُدُن هو سبّب حرمانهم وفقرهم. ثمّ یندب الله لأنه اعتصرت البیوت من الفقر وتضجّ الأطفال بالبكاء وفاطمة البنت المُدللة في هذه الأجواء وبعبرة مهراقة تحاول أن تتمالك نفسها وتبحث عن وظیفة؛ لهذا تقبل فاطمة أن تعمل كخادمة حیث ترتدي ألبسة العمّال وجزمتهم. یلقي الشاعر في هذا النص الضوءَ علی العوائل التي تركت قراها ودخلت أجواء المدینة وقد اشتدّ بها الفقر وصنّفهم في المدینة مع الطبقة المهمّشة من العمّال حیث كانوا في السابق أهل جاهٍ ومال في القریة، فیشرح الربيعي الوضع الاقتصادي السيء من خلال هذه العائلة؛ ثمّ یصف أوضاع أبناء العراق أثناء الحرب: 

«لاكفن سوی قمصاننا البیضاء/ لاخبز سوی أحلامنا البیضاء/ نركضُ في الشوارع/ تركضُ الطلقاتُ» (السابق: 86) 

یبحثُ الشعب العراقي علی منفذٍ للخروج والحصول علی قوتٍ یبقیه علی قید الحیاة وأنه لا یقتلهُ الجوع؛ ولكن الأوضاع الأمنیّة صعبة للغایة والاحتلال كان یقتل بشكلٍ عشوائي كل من یتحرّك في الشوارع لهذا یجب أن تبقی الرجال في البیوت. فهذا الفقر الذي یخافُ منهُ البشر قد عانق أبناء العراق في فترة الحصار، ومن ثمّ الغزو، ومن ثمّ الاحتلال ولم یبقَ غیر الله لإغاثة العراق. وعالج الربیعي الفقر من خلال العوائل المهمّشه. ثمّ یروي لنا مجاعة مُدُن العراق في قصیدة “سكك” التي یمرّ القطار من جميعها:

«مدنٌ تنام علي أسرّة عمّال الطین/ مدنٌ تتعرّی فوق سطوح الأشیاء/ مدنٌ علی الرصیفِ/ مدنٌ مائعة/ مدنٌ جائعة/ مدنٌ تركبُ الأوتوبیس/ مدنٌ یابسة/ مدن عابسة/ مدنٌ مثلُ طوابعِ البرید/ مدنٌ…./ مدنٌ…./ وستری حفراً أكثر عمقاً» (السابق: 384).

شبّه الشاعر الزمن بقطارٍ یمرُّ من المُدُن العراقیة ولا یری في هذه المدن غیر الخراب، مدنٌ علی الرصیف ویقصد بأهل المدینة هؤلاء الذین یعانون من الفقر ویحتضنون الرصیف وینامون جیاعاً، ومدن جائعة ویشیر إلی فقر أهلها، ومدن یابسة حیث یعانون أهلها من عدم تأمین میاه صالحة للشرب، فهذه الأوصاف التي یدلّنا علیها الشاعر، أحوال المـــُـدُن العراقیة. فقام الربیعي برصد الدیستوبیا وأحوال الفقر بصورة دقیقة ومتینة. الفقر هو العوز والحاجة، والفقر هو ضدّ الغنی، والفقیر هو المحتاج من الناس الذي لا یملك قوته وفي الیوتوبیا لا مكان للفقر؛ ولكن الدیستوبیا أحد عناصرها هو الفقر؛ لهذا یتشكل الإطار الدیستوبي عند الربیعي:

الیوتوبیا

الدیستوبیا

الغنی

الفقر

الغَني

الفقیر

2-2-4- المظاهر الطائفیة 

الطائفة هي طبقة أو جماعة مغلقة تقوم علی أساس من الوراثة الاجتماعیة وتعرف الطائفة «علی أنّها حركة إحیائیة تتمثّل في مجموعة التوقّعات الإجتماعیّة التي تمثّل نسق محدّد من المعتقدات التي تظهر في الحیاة الاجتماعیة نتیجة الاندماج الحاصل بین الديني والاجتماعي من خلال دمج العناصر الدینیة مع عناصر الثقافة المادیّة التي یسببها الحرمان النسبي الذي تتمیّز به إحدی الجماعات الاجتماعیة التي تتبنّی قیم ومعتقدات هذه الطائفة أو تلك نظراً لتغلب أحد الطوائف في السیطرة علی توجیه الحیاة الإجتماعیة تجاه انتشارها علی حساب الطوائف الأخری» (سیمور، 2009م: 371-374). الطائفیّة هي العامل الأساسي في خلق فضاءات دیستوبیة في العراق الحدیث، ویری الربیعي أنّ الطائفیّة أدّت إلی التفرقة والانفلات وهذا الأمر سبّب أن یقع الحكم بید الجبابرة لكي تظلم ومن ثمّ تغزو البلاد طائفة أخری. فهذه الطائفیة التي خیّمت ظلالها علی الشعب العراقي، وقد فرّت أهالي العراق في زمن البعث، ومن ثمّ الاحتلال الأمریكي وبعدها الحروب الطائفیة والفئات المتطرفة، فهذه قصیدة “طیور سبایكر” من أهم قصائد الربیعي التي تعالج قضایا الطائفیة في العراق:

«كان الشررُ یتطایر من العیونِ/ والقلوبِ/ والأصابع/ كاتمات الأنفاس/ وكانت الحناجرُ محشوةً بالتراب/ والحفرة بحیرة دم/ أمضی الذبابُ قیلولته فیها/ عندما سقطوا/ مثل جدارٍ من دم/ ولحم نيء/ وقبلاتٍ مذبوحي/ سقطتِ الطفولة» (الربیعي، 2019م :1/ 379).

مجزرة سبایكر جرت بعد أسر طلاب القوة الجویة في قاعدة سبایكر الجویة في یوم 12یونیو 2014م وهذا الأمر بعد سیطرة الدواعش علی مدینة تكریت والموصل وكان عدد الأسری مابین 2000 إلی 2200 طالب وقام المتطرفون بإستشهادهم رمیاً بالرصاص؛ ویقول الربیعي: 

«من علیائها/سقطَ اللیلُ/علی الجماجمِ المثقوبةِ/ والأجسادُ علی الأجسادِ» (السابق:380)

حفرت جنود الطائفة المتطرفة حفرةً وجلبت الجنود العزّل علی الحفرة وقتلوهم رمياً بالرصاص وأصبحت الجُثث كالتلال العالیة وقتلوهم لسببٍ واحد لأنهم لیسوا من أبناء طائفتهم ودُفِن البعض وهم أحیاء:

«سمعوا في الظلمات ذاالنون/ یستغیثُ وسط المفخخات/ إذ نادی/ وهو مكظوم/ سمعوا أنّات أرحام أمهاتهم/وهنّ یبحثن عن جثثهم/ في مقابرِ الوطن الجماعیة» (السابق: 381).

وتذكر المصادر الأمنیة أن سبب إعدام هؤلاء الضحایا یعود إلی خلفیات طائفیة، وهذه المجزرة كانت الأسوأ في تاریخ الصراع الطائفي في العراق حیث أثرت بشكل سئ في نفوس أبناء العراق من كل فصیلة وعرق ومذهب. ثمّ یشرح الربیعي معتقد هؤلاء الشهداء قائلاً:

«سقط صندوقُ الاقتراع/ سقطت طیور/ كانت تحلم بالطیرانِ/ في سماء العراق/ لكنّها، علی حین غرّة/ وبلا مقدّمات/ وقرع طبول وجدت أرواحها مبعثرة/ في ترابهِ/ ووسط ظلام اللحی/ واللهجاتِ/ سمعوا نحیبَ أبناء الشمس/ فوق جبل سنجار/ سمعوا صراخ جواري الظلام/ في أسواق رایاتهم السود/ سمعوا بماءَ جرسٍ/ أفلتَ من مجزرة الجزیةِ» (السابق: 380).

یری الربیعي في هذه المجزرة سقوط الدموقراطیة من خلال هذا الشطر”سقط صندوقُ الإقتراع” ومن فعل هذه الفعلة الشنیعة هو لیس عراقياً ویصف لنا الربیعي هذا الأمر من خلال هذا الشطر “ووسط ظلام اللحی، واللهجات” ثمّ یظهر انتماء الشهداء الذین كان أعظمهم من سنجار وبابل، ویتعجّب من أفكار هذا التنظیم الضالّة حینما یبحثون في هذا القرن المتحضّر عن جوارٍ وذبح أبناء مریم وكلِّ من یخالفهم دیناً ومنطقاً. فیعالج الربیعي القضایا الطائفیة واللهجات وانتماء الشهداء إلی سنجار، وبابل، ومن الیزیدیین ومن المسیح ویرمز إلیها بالجزیةِ والجرس. وقد عالج الربیعي في شعره جمیع القضايا التي تختصُّ بالطائفیة. ففي العراق أصبح الموت بالجملة وهو نتیجة لفلتان الوضع الأمني وما أسباب هذه الأمور إلا دلیل علی انتشار مرض الطائفیة، أو التسلیب، أو القتل من قوات الاحتلال، أو عن طریق الإنفجارات. لهذا عندما وقعت مجزرة سبایكر ینشد لنا في قصیدة “السباحةُ في شواطيء القصور الرئاسیة” قائلاً:

«ها أنتَ لم ترَ شیئاً / غیر عیونِ جلّادیك الملثّمةِ/ لم ترَ…. غیر رایاتهم السودِ/ وهي تضغطُ علی زنادِ الآخرةِ/ فیلتفُّ علیك قماطُ الأبدِ/ طلقةٌ واحدةٌ لاتضرُّ/ لكنها تكفي لأن ترفعك من یاقةِ الحیاةِ» (السابق: 383).

فالربیعي یری الأحداث التي أدّت إلی مجازر في العراق هي حصیلة الكبت ومثل هذه الأمور قد تجري داخل الأوطان التي حكمتها الطغاة وقمعت الشعوب وتكاثرت الفتن داخل البلاد بین القبائل، والمذاهب والطوائف وابناء الشمال والجنوب وغیر هذه التسمیات التي أجرتها الطغاة للتفكیك بالشعب والنیل منهم. ویحلم الربیعي بعراق آمن. ولطالما بحثت الدول الكبری قضايا تختصّ بتقسیم الدول الإسلامیة و«قیام أمریكا بإعادة رسم خریطة الشرق الأوسط كان واحداً من أهدافها المستورة لغزو العراق لكي تتلاءم الخریطة مع مصالحها الخاصة التي تكون فیها إسرائیل حجر الزاویة. لهذا السبب، عندما دخل الجیش الأمریكي إلی العراق لم یعد أحد في الإدارة الأمریكیة أو في القیادة العسكریة یتكلّم عن شيء اسمه الشعب العراقي، فقد بدأوا یتكلمون عن شیعة وسنّة، وعرب وأكراد… وقاموا بتشكیل مجلس الحكم المؤقت علی أساس تقسیم طائفي وعنصري.» (زارع برمي، 2018م: 168). لكن الشعراء لم يسكتوا عن هذه الأمور فأخذوا علی عاتقهم رسالة توعوية تنویرية، يحذّرون ابناء الشعب من الوقوع فيها. 

2-2-5- موت غیر اعتیادي 

ارتبط الموت بالحُزن والخوف ونهایة البشر كما قال الله تعالی في القرآن الكریم: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسيغُهُ وَ يَأْتيهِ الْمَوْتُ مِنْ كلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَليظٌ (إبراهیم/17). فعلی الرغم من اكتشاف حتمیة الموت فإنهُ یؤدّي إلی صدمةٍ عمیقة؛ فكیف إذا كان الموت غیر اعتیادي، وبصورة دیستوبیة؛ فإحدی القضایا التي یتطرّق إلیها الربیعي من خلال الدیستوبیا هي قضیة الموت. في مجموعة “غداً تخرجُ الحربُ للنزهة” یصوّر لنا الربیعي الموت غیر الاعتیادي الذي خیّم علی الشعب العراقي، فیجب علی الشعب العراقي أن يرتّب أموره للفجیعة، والاغتیال، وللسجون والإعدامات، فیصوّر لنا الربیعي الأحداث الدامیة في العراق وكیف خیّم موتٌ غیر اعتیادي علی هذا الوطن. تأتي الطائرة وتقذفُ معدّاتها علی العائلة النائمة فیأتیهم الموت وهم سُبات:

«غداً تخرجُ الحربُ للنزهة/ أطفئوا القمرَ النابت فوق السطوح/ لكي لایؤثّر علی بریق/ قنابل التنویر/ التي تنیرُ لها الطریقَ/ لنحصلَ علی موتٍ جمیل/ ومریح كمخدّة ٍمن ریشِ الملائكة/غداً تخرجُ الحربُ للنزهةِ/ خزّنوا المیاهَ والخبزَ والهواء/ فالحربُ في نزهتها تجوعُ بین حینٍ وآخر/ وإذا لم تجد ماتأكله من أجسادٍ طازجة/ ستضطرُّ إلی أكل البنایات/ والجثث النائمة في القبور/ والكتب والشوارع والبسكویت والناس والحجارة» (الربیعي، 2019م :2/ 79-80). 

یری الربیعي أنّ اللیالي ستزینها القنابل بدل الأقمار، وأنّ الموت انتشر بسبب الانفجارات وقذائف الطائرات، وسیأتي موتٌ آخر وهو الموت من الجوع والحرمان ثم یصف لنا الربیعي أنّ الموت لیس للفرد العراقي فحسب، بل یأتي الموت إلی البنایات فیقول “ستضطرُّ إلی أكل البنایات” والمقابر. فالموت جاء ولم یستطع الشعب العراقي من الفرار، والموت وحدهُ المسیطر علی الشعب. ثمّ في قصیدة “بیتُ الخراب” یصف لنا الشاعر بأنّ الموت صدیقٌ ودود للشعب العراقي فیندلّ طریقه:

«إذا صادفتم موتاً ضالاً/ في أحد شوارعِ بغداد/ لا تأخذوا بیده/ فهو لایحتاج إلی أدلّاء/ إنه یعرف طریقهُ جیداً/ إنّهُ یذهبُ إلی المكتبات/ والمساء العریق/ إنّهُ یذهبُ إلی الحدائقِ المعلّقةِ/ في القلوبِ/ حاملاً خرائطِ الغزاةِ/ من أسلافهِ » (السابق: 106).

اعتقد الربیعي أنّ الشعب قد اعتاد علی الحروب والإغتیالات وموت الفجیعة فیشرح لنا مدی حضور الموت في الشارع العراقي ومدی دیمومته بین الشعب، وكأنهُ كائن حي یعرف الطریق، ویری الشاعر كلّ هذه الأحداث سببها الغُزاة. وقصیدة “طیور سبایكر” إحدی القصائد التي عالج الربیعي من خلالها الموت غیر الاعتیادي:

«تعبتِ البنادقُ/ ولم یتعب منجلُ الموت/ من تهشیم المُهَج الغضّةِ/ في محرقة وادي الرافدین/ أرواحٌ صغیرةٌ/ فاضت عن الأرض/ التي لاذتت ببعضها» (السابق: 1/ 379).

یصف الربیعي أنّ البنادق قد تعبت من اطلاق النار ولكن الموت یطلب المزید من الأرواح ویبحثُ الموت عن إطفاء البسمة من شفاه الشعب العراقي وتشملُ المجزرة وادي الرافدین وكأنّ ضغینةً خاصّةً قد حضرت أرض العراق ویروي الشاعر أحداث سبایكر إذ أُسِرَت الآلاف من الجنود الشباب في معسكر سبایكر وتمّ إعدامهم بالرصاص من قِبَل الفئة المتطرفة والضالّة التي سُمّیَت بداعش. ویری الشاعر بأنّ الدفن الجماعي كان علی زمن الطاغیة وجاء به داعش:

«سمعوا أنّات أرحام أمّهاتهم/ وهنّ یبحثن عن جثثهم/ في مقابرِ الوطنِ الجماعیة/ وثلاجات الطب العدلي/ بعد أن تأكدن/ أنّ العراق تعب/ من الموت الإنفرادي/ والدفن الإنفرادي/ … فابتكر موتاً جدیداً/ لایكلّف أكفاناً فضفاضة/ ومصلّین علی جنائز/ ومشیعین» (السابق: 381)

یبحثن الأُمهات عن جثث أبناءهن في الحفرات والمقابر الجماعیة وفي ثلاجات المستشفیات والطب العدلي و كأنّ للعراق علاقة بالموت الجماعي؛ لأنّ النظام الحاكم آنذاك كان قد جنی بحق الشعب العراقي أثناء قمع الإنتفاضة الشعبانیة ومارس عدّة انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان خلال تصدیه للإنتفاضة الشعبانیة وقد شملت هذه الإنتهاكات كل مواد الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنها إحداث مقابر جماعیة في عدّة مناطق من العراق؛ فیروي الربیعي الموت الدیستوبي من خلال مجزرة سبایكر والمقابر الجماعیة والأحداث الطائفیة بصورة مختلفة. فالموت في المُدن الدیستوبیة یتغیّر من حدثٍ فجیع إلی حدثٍ عادي ویومي وقد تعتاد علیه الشعوب في المدن التي تحتلها الطغاة والجبابرة وتستولی علیها جنود الاحتلال، فهذا عراق الربیعي الذي یُعاني من مصائب الطغاة وفجائع الجبابرة وثمّ رصاص الاحتلال حتّی تقع علی جثثهم ظلال المتطرفین.  

      حاول الربیعي أن یكون دقیقاً في وصف الأحداث التي تلت كشف المقابر الجماعیة بعد كشفها من قبل اللجنة الدولیة أو بسبب السیول. ظاهرة المقابر الجماعیة في العراق باتت السمة الأبرز في عراق مابعد الاحتلال الأمیركي، إذ یُقدّر مسؤولون في الحكومة ووزارة الداخلیة وجود ما لا یقل عن 700 مقبرة جماعیة في العراق تراوح أعداد ضحایا كل منها بین خمسة أشخاص إلی 100 شخص تمّ قتلهم علی أیدي جماعات إرهابیة كتنظیم القاعدة ومن بعده داعش (أنظر: محمود، 2017: 3). فإن آلاف الضحایا تمّ قتلهم ودفنهم في مقبرة جماعیة وبأسبابٍ طائفیه، فهذا العراق مركز الدیستوبیا المعاصرة یشهد شتّی الأموات والصراعات. فالموت من وجهة نظر الشاعر في مجتمعه غیر اعتیادي وبصورة دیستوبیة:

 

الیوتوبیا

الدیستوبیا

موت اعتیادي

موت غیر اعتیادي

2-2-6-سلطة الاحتلال 

تعرّض العراق علی مدی التاریخ إلی غزوات كثیرة وشهد أبادات جماعیة في حق شعبه، وسیطرت القوات الأجنبیة لسنوات حتّی یعید الحكم لأبناء العراق إمّا جبراً وإمّا طوعاً، وعلی قائمة تلك الغزوات؛ غزوة المغول (1258م)، والأتراك العثمانیین (1775م-1831م)، والسیطرة البریطانیة 1981م، حتّی السلطة الأمریكیة 2003م-2004م، وكانت بلاد الرافدین محط اهتمام وأنظار للدول الكبری ویعود هذا الإهتمام إلی حقیقة الثروة النفطیة الهائلة التي یملكها العراق مقابل تصاعد أزمة الطاقة التي یشهدها العالم. یری الربیعي جنود المارینز یمتطون أسد بابل فیشتدّ غضباً:

«یا للأسد الحجريّ في بابل!/ طالما رأیتهُ في السفرات المدرسیة/ متوّجاً بالذكورة/ والمسلاتِ/ جاثماً علی العالمِ القدیمِ/ لیرتاعً القدماءُ/ هكذا قال معلّمُ التاریخِ/ ماسحاً علامات الإستفهام الصغیرة/ التي ترفرفُ في رؤوسنا/ مثل ساق الفریسةِ/ تحت هیمنتهِ» (الربیعي، 2019م: 2/119). 

یغضب الربیعي جرّاء سیطرة الاحتلال علی مناطق العراق ویری إستهزاءً من قوات الاحتلال تجاه تراث العراق وجرأة الجنود علی إمتطی هذا الأثر العالمي والحضاري. في قصیدة “تقاسیمٌ علی الرصاص الحي” یطلب الشاعر إغاثة أممیة جرّاء ظلم الاحتلال وسیطرتهم علی العراق وإبادة الشعب:

«نحني القلبَ/ حتّی یعبرَ الشهداءُ والشعراءُ/ جسرَ دموعنا/ یسّاقطون علی مرایا الموج/ ینتشرونَ من أقصی النخیلِ إلی ../ جُزُرٍ من الكبریتِ والصمتِ المهشّم/ تحت أظلاف الدخان/ نركضُ في الشوارع/ تركضُ الطلقات../ تر../ أغـــ…. یــــــــ…..ثــ…و…..نـــــــــ….ا » (السابق: 85). 

انقسمت العراق إلی شهداء وهم الذین یحاربون قوّات الاحتلال بشتّی أسالیبهم، وشعراء وهم الذین یروون ویقصّون معاناة الشعب العراقي أثناء الظلم والإبادة من قبل أمیركا بحقّ الشعب العراقي، وسیطرت قوّات الاحتلال من أقصی النخیل ویعني من الجنوب حتّی الشمال، وهذا الأمر أدّی إلی مجزرة وتمّ هذا الأمر بصمتٍ دولي. وأصبح العراق مخیفاً أثناء سلطة الاحتلال، لأنّهم یصوّبون فوهات بنادقهم علی كلّ شيء یمشي في الشارع من أطفال ونساء فأصبحت شوارع العراق مُخیفة وعدم الأمان أدّی إلی حصار آخر ومجاعة أخری. ویری الشاعر هذه الأجواء الخانقة تحت سلطات الاحتلال مرعبه ويصف الرعب أثناء الاحتلال وسیطرة المحتلين علی أحیاء بغداد وقسوتهم بحق الشعب العراقي:

«آه ممّا یفعلُ الطیرانُ/ في أحلامِنا الزرقاء/ ممّا یفعلُ القنّاصُ في وقتِ الفراغِ/ أقولُ: ماذا یفعلُ القنّاصُ في وقتِ السلامِ؟/ یصفّفُ الأمواتِ/ والطلقاتِ/ والصرخاتِ/ في الشاجور» (السابق: 88).

یتعمّد الشاعر بخلق فضاءات خانقة لیصف مدی الرُعب في أحیاء العراق آنذاك، واستخدام مفردات كالطیران، والقنّاص، والأموات، والطلقات، والشاجور، لیرتّب الأحداث التي عانی منها الفرد العراقي بسبب سلطات الاحتلال وعدم أمن البلاد. صوّر الشاعر المدن العراقیة للقارئ حینما أصبح أمرها تحت وطأة الاحتلال الأمریكي والغیاب التام للحكومة وتسریح الجیش العراقي، وحرص الربیعي علی وصف وشرح مدی الدمار الشامل الذي لحق العراق والتغیّر الذي حصل للإنسان والبیئة.

«خلّف فرار صدام ومعه السلطة الحاكمة فراغاً سرعان ما ملئ من قوات الاحتلال بتشكیل سلطة جدیدة بقیادة أمریكیة في بغداد علی رأسها “بول بریمر” أما في البصرة فقد عیّن الجیش الأمریكي_ البریطاني حاكماً دانماركیاً یدعی “أولیه فوهر أوسین” في أیار/مایو 2003.» (الحسني، 2015: 146). السلطة الحاكمة في العراق أثناء الاحتلال هي سلطة أمریكیة-بریطانیة وأدّت إلی حروب طائفیّة، وفقر، ومجاعة، ونزوح عددٌ كبیر من أبناء العراق، وظهور طوائف متطرفة وأحزاب ضالّة تشوّه إسم الإسلام. عانی العراق من الحروب والدمار الذي جلب له الغزاة، لهذا یأتي الربیعي بورقة تاریخیة لوصف هذه المجازر. في قصیدة “هكذا تكلّم علي إسماعیل” یصف لنا الشاعر كل الأحداث التي جرت في العراق أثناء الاحتلال الأمریكي:

«أعیدوا إليَ/ یديَ لأمسك ما راحَ من ریح عمري/ لأحضنَ قلبَ أبي/ في السكون/ وجثّة أُمّي القتیلة/…أرشُّ الدروب هوی/ وعصافیر/ أصعدُ نخلةَ بستانِ جدّي/ أعیدوا إليَّ یديَ لأصفعَ قابیل/ أصفع الجنرالات/ أصفع طینَ التماثیل» (الربیعي، 2019م:  2/ 110-111).

علي إسماعیل عبّاس طفل في الثانیة عشرة من العمر فقد ذراعیه وعائلته في القصف الأمریكي علی مدینة الزعفرانیة ببغداد، وعندما سأله الصحفیون: ماذا ترید: أجابَ: یدي!! فهذا الطفل واحد من الملایین الذین في العراق بترت سلطات الاحتلال أعضاء جسدهم وقتلت عوائلهم، فالاحتلال جلب للعراق الموت، والقحط والدمار. فشكل الربیعي إطاراً حول سلطة الاحتلال كما يلي:

الیوتوبیا

الدیستوبیا

سلطة عراقیة

سلطة احتلال

 

3. النتائج

شعر عبدالرزاق الربیعي هو وریقاتٌ تأریخیة من الأحداث الأخیرة للعراق الحدیث خُطَّت بیراعٍ دیستوبي، فقد واكب الربیعي كل الأحداث التي جلبها الطغاة علی أرض بلاده وعالجها في نصوصه وقد عبّر عن الشعور بالیأس في مواجهة الفوضی والعنف والقمع، وقد اهتمّ الربیعي في شعره لقضايا عدّة حيث خرجت من القاعدة الطبیعیة ومن الیوتوبیا نحو قضايا غیر طبیعیة وسُمّیَت بالدیستوبیا. عالج الشاعر قضايا تختصّ بالفقر، والمعاناة الیومیّة للشعب العراقي وخاصّة الأمهات؛ كان الربیعيُ یری أنّ الفجیعة یتوجّه نصیبها الأكبر إلی العنصر النسائي وخاصّةً الأم كما أنهُ عالج قضیّة البیئة والدمار الحاصل إثرَ الحروب وإنهدام الجسور، والبنایات، وتدمیر الشوارع والأرض والنخیل، والموت؛ فالربیعي لم یهتمّ بالأوضاع السیاسیة فحسب فقد إهتمّ بما یُنتج عن الأوضاع السیاسیة ویؤثّر علی المجتمع والبیئة والاقتصاد ونفسیّة الشعوب كانعدام الثقة والعنف وتفكك البنی الاجتماعیة والصراعات الطائفیة والقبلیّة والقومیة؛ وسعی الربیعي لأن یستفزّ القارئ حینما یذكرهُ بالمستقبل ویری بأنهُ إذا دامَ هذا الأمر سیكون مستقبل العراق لاشيء سوی الدمار. فشعر الربیعي روایة تروي حالات جوع البشر وحیاة الفقراء والموت الدیستوبي وهو موتٌ غیر طبیعي حضر لسنواتٍ مدیدةٍ بین هذه الأحیاء؛ وأظهر نفسهُ بصورةِ إعدامات، وإغتیالات، وحروب طائفیة وقبلیة وقومیة وقد وصف هكذا أمور بصراحة وواقعیة، وهذه الأمور من الصعب تداولها بهذه العلانیة ویجب أن نمجّد هذه الجرأة الكبیرة لدی عبدالرزاق الربیعي. 

برزت ملامح الدیستوبیا في شعر عبدالرزاق الربیعي من خلال وصفه للفوضی والتمرّد، ودمار البیئة والتراث الوطني، والفقر، والطائفیة وموت غیر إعتیادي وسلطة الاحتلال. وبرأي الربیعي أنّ بلاده ضحیة الإرهاب أمریكیاً وصهیونیاً وداعشیاً، واستهدف أهل العراق من العرب والأكراد والتركمان، وسُنّة وشیعة. وأهم الدوافع التي ساقت عبدالرزاق الربیعي إلی تصویر الدیستوبیا في نصوصه هي إنهیار كل المبادئ الوطنیة في بلاده العراق وعاش بخیبة أمل لأنهُ كان ینتظر المدینة الفاضلة بعد السقوط وسرعان ما خاب أمله بعد ما رأی الفوضی. رصد عبدالرزاق الربیعي الملامح الدیستوبیة في العراق وتطرّق إلیها في نصوصه الشعریة، كفوضی المدینة، والطائفیة والحرب، واللجوء إلی الآخر، والموت غیر طبیعي وغیر إعتیادي وسلطة الاحتلال، ودمار البیئة والتراث الإنساني في العراق، ویری الحلّ الآخر لهذه الأزمات هي أن یحكم العراق أبنائه وتخرج سلطات الاحتلال، ویأتي شخص وطني یهتمّ بأمور الشعب.

  1. المصادر والمراجع

–  القرآن الكریم

  • أبوعون، ناصر. (2013م). عشبة جلجامش- جمالیات الإیقاع في شعر عبدالرزاق الربیعي. الأردن: كنوز المعرفة.
  • البكر، عبدالجبار. (2013م). «نخلة التمر ماضيها وحاضرها، والجديد في زراعتها وصناعتها وتجارتها»؛ بیروت: الدار العربية للموسوعات، بيروت الطبعة الرابعة 2013.
  • پرچگانی، فاطمه. (2018م). «الدیستوبیا (المدینة الفاسدة) في الروایة العربیة المعاصرة؛ قراءة في روایة أورویل في الضاحیة الجنوبیة، لفوزي ذبیان»، إضاءات نقدیة (فصلیة محكمة)، السنة الثامنة، العدد 29، ربیع 1397ش، آذار 2018م، صص 131- 149.
  • جابر، صلاح كاظم. (2013م). «دینیة القیم الطائفیّة ودورها في أسطرة العقلیة العراقیّة»؛ العراق: كلیة الآداب/ جامعة القادسیة، مجلة القادسیة للعلوم الإنسانیة، المجلد السادس عشر، العدد2، صص 47-67. 
  • جیجك، سلافوی. (2013م). سنة الأحلام الخطیرة. ترجمة أمیر زكي، القاهرة: دار التنویرز
  • الحسني، عبدالرزاق. (2015م). «ثنائیة (الیوتوبیا_الدیستوبیا) في الروایة العراقیة – دراسة سیمیائیة»؛ العراق: مجلة الآداب، صص135- 154.
  • حسیب، خیر الدین. (2017م). «العراق…إلی أین؟ العملیة السیاسیة مآلها الفشل ولامخرج لأمریكا إلا المبادرة الوطنیة»، المستقبل العربي، السنة 29، العدد327، صص6-26. 
  • الحسیني، عبدالله. (2015م). ثلاثیة سهیل إدریس، دراسة بنیویة تكوینیة؛ بغداد: دار نینوا.
  • الربیعي، عبدالرزاق. (2019م). الأعمال الشعریة الكاملة، (الجزء الأول والثاني)؛ المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت: لبنان.
  • زارع برمي، مرتضی. (2018م). «ترسبات الغزو الأمریكي للعراق (2003م) في الشعر العراقي الجدید؛ بشری البستاني نموذجاً». إضاءات نقدیة (فصلیّة محكمة)، السنة الثامنة، العدد التاسع والعشرون، صص151- 180.
  • سيمور، شارلوت، (2009م) موسوعة علم الإنسان، ترجمة محمد الجوهرة وآخرون، ط2 القاهرة: المركز القومي للترجمة.
  • صلیبا، جمیل. (1982م). المعجم الفلسفي؛ بیروت: دار الكتاب اللبناني.
  • عصفور، جابر. (1981م). قراءة في لوسیان غولدمان عن البنیویة التولیدیة، فصول، المجلد الأول، ینایر العدد2.
  • فاضل، رشا. (2010م). مزامیر السومري قراءات في المنجز الشعري والمسرحي للشاعر عبدالرزاق الربیعي، بابل: دارشمس.
  • گنجیان خناری، علی، ورضوان جمشیدیان. (2014م). «روایة لعنة الأرض لجلال آل أحمد في ضوء النقد الإجتماعي»، إضاءات نقدیة، السنة الرابعة، العدد السادس عشر، شتاء 1393ش، كانون الأول، صص51-68.
  • المرسومي، علی صلیبي، بلاغة القصیدة الحدیثة، قراءات في شعریّة عبدالرزاق الربیعي، دمشق: دار الحوار، 2015م.
  • المطبعي، حمید. (1995م). موسوعة أعلام العراق في القرن العشرین؛ بغداد: دار الشؤون الثقافیة.

المقالات 

  • ناظمیان، هومن. (2019م). «الدیستوبیا في الروایة العربیة المعاصرة؛ قراءة في روایة یوتوبیا لأحمد خالد توفیق»، المؤتمر الدولي الثامن للغة العربیة، 11-13أبریل 2019م، الموافق 6-8 شعبان 1440ق صص160- 167.
  • The Guardian. 26 October 2015. Retrieved 3 March 2017.

المواقع الالكترونیة:

  • آدم، محمود، المقابر الجماعیة في العراق، تشابه الضحایا واختلاف القتلة، جریدة العربي الجدید، 25 مارس 2017م.

https://www.alaraby.co.uk/politics/2017/3/24/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9

  • أبو یحیی، محمد، مدینة أفلاطون الفاضلة، 6دیسمبر، 2016.

 https://mawdoo3.com/%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9_%D8% 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى