الحَدَاثَةُ العربية وَسَطوَةُ التُّرَاث
ثناء أحمد | سورية
مُقدِمة
تَناولَ عَددٌ من النُّقادِ وَالبَاحثِينَ العَربِ مَفهومَ الحَداثةِ، تَارةً بالرَّفضِ، وأُخرَى بالقُبولِ، فتَعددَتِ الآراءُ بينَ نَافرٍ لهَا “جَامد”، وَمُناصرٍ لهَا “مُلحدٍ”، وَفِي الحَالَينِ، وَقَفنَا عَلى أبوابِها مُتصَارعِين، وَالغَربُ يَنظرُ إلينَا ضَاحِكَاً..وَلمَ لا والأمرُ يَتوافقُ مَع غَاياتِه وَيَتجَاوبُ مَعَ مَآربِهِ وَفي أَضعفِ الأَحوالِ لايَعنِيه.
– الحَداثةُ والغَرب
فِي الغَربِ مَرُوا عَلَى الحَداثةِ مِنذُ نِهايةِ القَرنِ التَاسعِ عَشر، بَعدَ اِرهاصَاتٍ مُتعددةٍ، رَافقتْ مُجتَمعَاتِهم كالثَّورةِ الزِّراعيةِ وَالصِّنَاعيةِ والثَّورةِ الفَرنسيةِ ومُحاولةِ التَّصحيحِ الدِّينِي الذي بَاعدَ بَينَ الدِّينِ وَالدَّولةِ، وظَهرَ عَددٌ مِنَ العُلماءِ والمُفكّرينَ الذين استَطَاعُوا نَشرَ أفكارِهم الحَداثية، ولَو بشَق الأَنفسِ، وبمَخزونٍ تَراكمِي.
فالحَداثةُ ليسَتْ مَحضُ فِكرةٍ أو نَظريةٍ تُكتبُ وتُنشر!! الحَداثةُ مَجموعةٌ من المعطياتِ يَفرضُها المُجتمعُ، تَتَراكمُ لتَصلَ إلَى مَرحلةِ النَّضجِ، كما الذي تَوضحَ فِي الغَربِ بنهايةِ القَرنِ التَّاسعِ عَشر، وفيهِ أَطلقتْ أَركانَها الأَساسيةِ كالدَّعوةِ للعَلمانِيةِ والإِنسانيةِ والعَقلانيةِ وكانَ للحَداثةَ حداثاتٍ، بَعضُها مُتطرفٌ وبَعضُها مُعتدلٌ.
وبمرورِ الوَقتِ وَقعتِ الحَداثةُ بمَأزقٍ، حيثُ العَقلُ لَم يُوصلْ لليَقينِ، والحَقيقةُ غَائبةٌ، والعِلمُ سَاهمَ بتَسليعِ الإنسانِ وتَشييئهُ، والتَّداولُ السِّلمِي الذي رَفعُوهُ شِعارَهم، أنجبَ النَّازيةَ والفَاشيةَ، ومَعَ بِدايةِ القَرنِ العِشرين كَانتِ الحَربانِ العَالميتَانِ، والقَنابلُ النَّوويةِ التي هَزَّتِ الكُرةَ الأَرضِية.
ومعَ هذِهِ ومَا سَبقَها وما رَافقَها مِن تَطورٍ تُكنُولوجِي سَبباً فِي اِنطلاقِ فِكرِ مَا بَعدِ الحَداثةِ، التي تَقولُ: “الثَّابتُ هُو التَّغيّرُ”. والتي صَهرَتِ الأَفكارَ والقيم والفَلسفةَ دُونَ أَنْ تُعيدَ صَبَّها. ضمنَ مُصطلحِ”الحَدائةِ السَّائلةِ”،الذي أوردَهُ المُفكرُ الاجتمَاعِي البُولندِي زيجمونت باومان.
وأمَّا مَا أُسقطَ عَلى الأَدبِ من مَناهجَ كَالبنيويةِ دي سيسيور والتَّفكيكيةِ جَاك ادريدا، وَالتي اُعتبرتْ امتداداً لمرحلةِ مابعدَ الحَداثةِ، فهي ليستْ مَحصورة بالأدبِ بل تَتعداهُ لمُختلفِ مَجالاتِ الحَياةِ .ومازَالَ الغَربُ فِي تَطورٍ و بَحثٍ. فَالبَعضُ الذي رَفضَ إطلاقيّةَ الحَداثةِ، لجَأ إلى مَابعدَ الحَداثةِ، وَهناكَ جيلٌ آخرٌ يَرى فِي ما بَعدَ الحَداثةِ أَحكاماً إِطلاقيّةً، لذلكَ نَراهُ يَرنُو للتَّغييرِ نَحو تيارٍ آخرٍ هُو“مَا بَعد بعد الحَداثةِ “ و السُّؤالُ هَل نَحنُ نُواكبُ العَصرَ ونُتابعهُ ونَتغيّرُ كَما يَقتضِي الحَال؟ أَم نَنتَقدُ وَنرفضُ وخُطانَا بالمَكان أو نَحوَ الخَلف ؟!!
– الحَدَاثةُ فِي مَنظورِ التُّرَاثِيين :
يقولُ الدكتورمُحمد مُصطَفى هَدَّارة نَقلاً عَن مَجلةِ الحَرسِ الوَطنِي: “الحَداثةُ اتجاهٌ فِكريٌ أشدُّ خُطورةً من الليبراليةِ والماركسيةِ وكلِّ ما عَرفَتهُ البَشريةُ مِن مَذاهبٍ و اِتجاهاتٍ هَدَّامة”
وَيقولُ أيضاً الدكتور هَدَّارة: “بأنَّها زَلزلةٌ حضاريةٌ عنيفةٌ وانقِلابٌ ثَقافيٌ شَاملٌ، جَعلت الإنسانَ يَشكُّ فِي حَضارتهِ بأكملِهَا، وَيرفضُ حَتى أَرسخِ مُعتقداتِهِ المُوروثةِ “.
والدكتور عدنان النحوي في كتابهِ الحَداثةُ من منظورِ الإسلامِ : “تَدلُّ على مذهبٍ فِكرِي جَديدٍ يَحملُ جُذورَهُ وَأصولَهُ مِن الغَربِ بَعيداً عَن حَياةِ المُسلمينَ ..بَعيدَاً عَن حَقيقةِ دِينهم وَنهجِ حَياتِهم وظِلالِ الإيمانِ والخُشوعِ للخَالق الرَّحمَن “
والبَاحثُ مَسعد محمد زِياد في مقالتِهِ الحَداثةُ مفهومُها نشأتُها روادُها يقولُ: “الحداثةُ مِن منظورٍ إسلامِي تَتنافَى مَع دِينِنَا و أَخلاقِنَا الإسلاميةِ، وأنَّ المجتمعاتِ الغَربيةِ انعكاسٌ للحَنقِ و الحُقدِ، هَدفُها قَتلُ رُوحِ الإسلامِ ولغتِهِ وتراثِهِ”. والباحثُ محمد سبيلا يَرى: “أنَّ الحَداثةَ العربيةَ الوافدةَ حداثةٌ مبتورةٌ بل ناقصةٌ و مُشوهةٌ أيضاً”
ولأنَّ بُودلير صَاحبُ ديوان “أزهارُ الشَّر” يُعتبرُ واضعاً لمصطلحِ الحَداثةِ فلقد تَعرضَ لَه بالرأي فقالَ عنهُ مصطفى السَّحرتي:” لقد كَانت مراحلُ حياتِه منذ الطفولةِ نَموذجاً للضَّياعِ والشُّذوذِ “ والشاعرُ ابراهيم ناجي يقولُ: “لأنَّ بُودلير كانَ يُحبُّ تَعذيبَ الآخرينَ ويتلذذُ به وكانَ يعيشُ مُصاباً بمرضِ انفصامِ الشَّخصيةِ” وقيلَ عنهُ أَيضاً: “إنَّهُ شيطانٌ من طِرازٍ خَاص “وكذا كانَ رَأيهم فِي رامبو ..و مالارمييه وكلّ من انتهجَ نَهجَهم.
– الرَّدُّ على مُعارضِي الحَداثةِ ومَناصرِي التُّراث
فِي الوقتِ الذي وقفَ العديدُ من رجالاتِ العالمِ العَربي فِي وجهِ الحَداثةِ، وُجدَ الكثيرُ مِمن نَاصرَها. فِي العالمِ العرَبِي طُرحَ مَفهومُ النَّهضةِ، والفِكر النَّهضَوي منذ أواسطِ القَرنِ التَّاسعِ عشر. ولكن لسوءِ الحَظِ، لم يُكتبْ لهُ الاستمرارُ والنُّضوجُ، لأنَّ بَعدَه جاءَ الفِكر الاستعمارِي الغَربي، فكانَ سَبباً في سلبِهِ كُلّ قوةٍ اصلاحية، وهُنا نَتفقُ مَعَ رأيِ النَّاقدِ و البَّاحثِ المَغربي عبد الله العروي. أما في الدُّول الأوربيةِ والصِّين واليَّابان فقد تَلقفَتْ الحَداثةَ دُونَ مَعُوقاتٍ خَارجيةٍ لاحقةٍ ونَذكرُ من النَّهضَويينَ العَرب :
جَمال الدين الأفغاني.
محمد عبده.
جرجي زيدان.
رفاعة رافع الطهطاوي.
محمد رشيد رضا.
بطرس البستاني.
فرح أنطون.
قاسم أمين.
ثُمَّ ظهرَ عددٌ من المُفكرينَ والشُّعراء و الأُدباءِ الذين رَفعُوا رايةَ النَّهضةِ والحَداثةِ مِثل أمل دنقل من مصر الذي يقولُ :” لابدَّ أن تأتي على جَناحِي الأصالةِ و المُعاصرةِ “ وأمثال أدونيس و زوجته خالدة سعيد وصلاح عبد الصبور عبد الوهاب البياتي العراق وحسين مروة لبنان وسعيد السريحي السعودية والسيد القمني وعبد الوهاب المسيري وسواهم كثر .
وللأسفِ اُعتبرَ مُعظمُ هؤلاءِ مِن قبلِ حُماةِ التُّراثِ مُلحدِين .
رُبَّما لاعتبارِ “كُلَّ من تمنطق تزندق “و ربَّما استفادُوا من المَدرسةِ الغَربيةِ، عندما فصلَتْ الدِّين عَن الدَّولةِ فكانَ مِن بابِ الحَذرِ والمُحافظةِ عَلى مَكانتِهم تَبني هذا المَوقِف. ونذكرُ هنا أنَّ البَاحثَ فرج فودة قد اِغتيلَ بسبب أفكاره الحداثوية. ويَتساءلُ البَعضُ هل الحَداثةُ ضِدَّ التُّراث؟هل الحَداثةُ ضِدَّ الدِّينِ.؟وهل الدِّينُ بنصِهِ وسيرتِهِ يَدخلانِ ضِمنَ التُّراثِ أم هُما ضِمنَ المَوروثِ المُقدسِ؟.
الحَداثةُ تُغربلُ التُّراثَ فلا تَقبلهُ كُلَّهُ، و لا تَرفضُهُ كُلَّهُ
وَأوربا التي صَنعت حَداثتَها لم تُبعدْ تُراثَها نهائياً، ولكن قَرأتهُ قراءةً عقلانيةً، وَوضعَتهُ في تاريخِها دونَ أن تسقطَهُ على مُشكلاتِها الحَاليةِ، وبذلكَ لم تَكنْ هناكَ حَداثةٌ بل حداثات، الحداثةُ الانكليزيةِ والفرنسيةِ والإيطاليةِ والصينيةِ واليابانيةِ، ولكُلٍّ لها سماتُها و طَابعُها. والمُقلِّدُ للغربِ بحداثتهِ كالسلفِي التُّراثِي في مُحاكاتِه التِّكراريَة .
يَختلفُ المُفكرونَ حَولَ وضعِ الدِّينِ من الحَداثةِ فبعضُهم يبعدُه لقداستِهِ وآخرونَ يضيفُونهُ لها. فنرى مثلاً تراثيونَ مُتجمدونَ كابن تيميه وتراثيونَ عقلانيُون كابن رشد فالتراثيونَ درجاتٌ كما الحَداثةُ حداثاتٌ .
وفي تاريخِنَا الإسلامِي نَرى جَوانبَ عُدِّلَ فيها النَّصُ القُرآنِي بمَا يَتناسبُ مَعَ مُقتضياتِ الحَالِ كمَوقفِ عُمر بِن الخَطَاب مِن مَنعِ الصَّدقاتِ عَن المُؤلفةِ قُلوبِهم وإزالةِ حدِّ السَّرقةِ فِي عَامِ المَجاعةِ. إضافةً لتعديلاتٍ عِدة لو بحثنَا عنها وجدنَاها. وحَالياً مَا كانَ رِبا مُحرَّماً، غدَتْ الدَّولةُ تَعتبرُهُ قَانوناً، وتُنشِئُ له المُؤسَساتِ!! فلمَ الحَداثةُ مُنتقاةٌ ولمَ التُّراثيونَ انتقائِيون؟
البَاحثُ المَغربِي عبد الإله بلقزيز يقول : “فِي العَالم العَربي لاتزالُ هناك فَجوةٌ بين الحَداثةِ و التَّحديثِ” ونحن مازالَ لدَينا تَخوفٌ من مَنشَئِها الغَربِي، رَغمَ القَناعاتِ بأنَّ الحداثةَ نَزَّاعةٌ للإنتِشارِ و رَغمَ ضَرورةِ فكِّ الارتباطِ بينها وبينَ الجُغرافيَا.فليسَ مِنَ الصَّحيحِ اِستنساخُ الحداثةِ الأوربيةِ، إنَّما الصَّوابُ رَبطُ الحَداثةِ بالتُّراثِ المُناسبِ وإنْ اِستوجبَ الأمرُ التَّعديلَ فلا بأس.
إنَّ الوصولَ لمفهومٍ مُتأصلٍ للحداثةِ يَتطلبُ اتكاءً على المَنظومةِ التَّربويةِ والتَّعليميةِ. وعلينا أن نملكَ إدارتَها بالمُصطلحِ الذي يُناسبُ عَربيتَنَا. ولابد من اعادة النظر من قبل الجهات الراعية للفِكرِ و المَعرفةِ. أقصد للمُثقفِ العَربي الذي يَردحُ في ظِلِّ ثَقافةٍ إعلاميةٍ، تائهاً في مِجتمعٍ يَنظرُ للثَّقافةِ أنَّها كمالياتٍ، فيبقى مهمشاً معزولاً، خَالياً من أيِّ امتيازٍ.
و كل اعتقادي أن الفِكرُ الحَداثِي يَحتاجُ لنموذجٍ كالخليفةِ المَأمون ..يَحتاجُ لقادةٍ يَتبَنُونَهُ، ولكنْ مِن الصُّعوبةِ بمكانٍ أن يُنتجَ مجتمعٌ تُراثي سَلفي هَكذا نَموذجاً.
إنَّ مُعطياتِ الحَياةِ تبدَّلَتْ وَنحنُ بحاجةٍ للخروجِ من قَوقعةِ التُّراثِ المفتعلةِ وقضايا الدِّينِ المُسيسِ. وَتَبقى المُشكلةُ بالمُتدَينين المُمنهجين، والسَّياسيينَ المُتأسلمينَ، الذين لاتتوافقُ الحَداثةُ مَع مشَاريعِهم السِّلطَوية.
و أختمُ بقولٍ لابنِ خَلدون :
إنَّ أحوالَ العالمِ و الأممِ و عوائدِهم ونعمِهم لا تدومُ عَلى وتيرةٍ واحدةٍ ومِنهاجٍ مُستمرٍ إنَّما هِي في اختلافٍ مع الأيامِ ..فإذا تَبدَّلت الأزمانُ تبدَّل البَشَرُ” .