المفرزة التي لاحقت المشاهير (1)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

كثيراً ما كرهتُ الإيديولوجيات، خصوصاً عندما ترتبط بطبقة مسيطرة يعاني أعضاؤها من نقص في الديموقراطية .ولم أنتمِ لحزب أو منظمة أو إتحاد في حياتي ، ومع ذلك كان يتم تكليفي بكثيرمن النشاطات الثقافية ، كالحفلات والأمسيات الشعرية والمشاركة بالمهرجانات، وأنا طالبة في كلية الصيدلة . رغم أنني لم أكن متميزة باختصاصي الذي لم أُتقنْه إلا بعد انفصالي من الكلية في نهاية السنة الثالثة . ورغم عدم تميزي الدراسي، كنتُ ألمح نظرات الغيظ والشرر الذي يتطاير من عيون البعض عندما كنتُ أشارك في الأمسيات الشعرية ، أو عندما اعتلي منصة . كما حدث لشكسبير الذي كاد يموت غيظاً حين نشر موم مسرحياته .

كانت كلية الصيدلة بدمشق تكتظُّ بالفتيات ، ومعظمهن من الطبقة الغنية. لم أحاول التقرُّب منهنَّ لأنه كان من الصعب عليَّ مجاراتهن بالمصروف .( فمن طلاب مرحلتي في السنة الثالثة كانت مريم ابنة رئيسة الاتحاد النسائي . ووفاء ابنة أخ نائب عميد الكلية وبشرى الأسد ابنة رئيس الجمهورية .وكان ” آصف شوكت ” ضمن الطاقم الأمني المخصص لحمايتها . ومن الطريف بالأمر أن بشرى لم تكن تنجح بكل المواد . وكانت متواضعة جداً لم نكن نشعر بأنها ابنة رئيس الجمهورية وقد سعت جاهدة لجعل سوريا تكتفي بالدواء .

في ذلك الوقت كنتُ بالكاد أوفر أجرة الركوب إلى الجامعة. وثمن الملازم والكتب . وكان لابد لي من البحث عن عمل آخر ..فبدأت أنشر في الصحف والدوريات السورية ( خصوصاً  جريدة تشرين ) وأتقاضى أجراً عن كل مقال أنشره .

كان رئيس القسم الثقافي في جريدة تشرين السيد ” تميم دعبول ” مؤمناً بكفاءتي إيماناً مطلقاً . .. فصار يوفِّرُ لي الكتب التي يود أن أكتب عنها . بعدها استُدعيتً للكتابة في مجلة ( أتحفظ عن ذكر اسمها ، خشية الخلط بينها وبين مجلة أخرى تملك حالياً نفس الإسم ) .غادرتها بعد نشر أول ”  ريبورتاج ” قمت به .حيث استدعاني رئيس مكتبها في دمشق . كانت حينها تزوره امرأة تبدو قد تجاوزت الأربعين ، وعليها سمات المرأة اللعوب . التي تتحرك حركات مدروسة , فكلما لفَّتْ ساقاً على أخرى , تفتح مسارا طويلا لِعَيْنَي مدير المكتب . وكلما انحنت برز نهداها . كانت تبدو أنها تتكتك للسيطرة عليه من خلال إشعاره بالعجز ببعض الألفاظ البذيئة التي لاتتواءم مع امرأة محترمة . استأذنتُ بالخروج . وماأن أصبحتُ خارج المكتب غَلَقْتُ الباب بعنف وقلتُ أمام النادل الذي انتفض لدى خروجي (وكان طالبا جامعيا ) : ( تفوعلى هيك مجلة بَلِّغْ مدير المكتب اني لن أعود . هذه ليست ثقافة بل صفاقة) .

كان لابد لي بعدها من البحث عن مجلة محترمة أعمل بها. وقد أرسلتُ مقالين بيد قريب لي لإدارة مجلة  ” بيروت المساء  اللبنانية ” . طلب بعدها رئيس تحرير المجلة مقابلتي مباشرة . وكان بصحبته السيد ” محسن ابراهيم ” أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان . وتم تكليفي بتغطية النشاطات الثقافية والفنية والمهرجانات السينمائية والمسرحية التي تتم في سوريا ، وإجراء اللقاءات . واخترت الفنان ” دريد اللحام ” كبداية لأنه كان يشكل علامة بارزة في السينما والمسرح السوري والعربي واستطعت من خلاله ان ألتقي بالشاعر ” محمد الماغوط ” . وكان أقرب الشعراء والأدباء وأَحَبُهُم إلى قلبي حينذاك . ذلك اللقاء الذي شكل علامة بارزة في حياتي الصحفية . فأنا لاأسجد لريح لا تشق القصائد بعصاها. وهو نزق غاضب حاقد على كل أنواع السُّلْطة والتسلط والظلم الذي كان سبب فقره وجوعه وتشرده وملاحقته . دافع عن غبنه بالأظافر . لأنه كان يعتقد ” إن الأسنان فائض قيمة أو إنتاج . يجب أن تزول. وقد حقق له القضاة العرب تلك الأمنية باستجواب واحد ” على حد تعبيره .

لكنه لم يخضع لتيار أو حزب أو مدرسة أو سياسي أو رجل دين. حتى حائط المدرسة كان يتململ منه . لأن عصا المعلم أطول منه . كان يتمنى لو يمحو ركبتيه أو يأكلهما حتى لا يجثو أمام أي كائن ” كما كان يصرح دوماً .

لذا كان لابد أن يلتقي وجهانا أو يتصادما كاصطدام مكوك فضائي بتربة كوكب مجهول .

فعندما دعاني الفنان دريد اللحام لحضور حفل افتتاح فيلمه ” التقرير” لم أجد ” محمد الماغوط ” حاضرا”  لنتواعد من أجل إجراء  حوار معه ونشره في مجلتنا . فطلبتُ منه أن يدلني إلى سبيله، أو يأخذ لي موعداً معه . قال دريد: ” أبو شام ” لا يحب اللقاءات الصحفية ولا الحوارات .لكن لابأس، فهو يبحث عن مدرِّسة كيمياء لابنته سلافة . وأنت صيدلانية ويمكنك أن تدرسيها بعض الوقت وتغتنمي فرصة فراغه وتواجده وتقومي بالحوار . بشكل متقطع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى