الذئاب.. قصة قصيرة

أحمد خميس | سوريا – ألمانيا

كنتُ في الرابعة حينما ذهبتُ مع أمي للبكاء، نعم هكذا تطلق النسوة في قريتي على مناسبات العزاء وحفلات التأبين.
يتجمعن في بيت إحداهن ويتبادلن الأحاديث، يتكلمن عن أبنائهن وأشغالهن وفحولة رجالهن وعنانتهم وبرودهم الجنسي أحياناً . وما أن يصلن بيت المتوفى حتى يشرعن في البكاء والنحيب والعويل.
توفي الذئب في العام ألف وتسعمائة وتسعين كنتُ في الرابعة وقتها كما أسلفت.
والذئب هو رجل قضي اللون، أو هكذا كنتُ أراه بحاجبين أبيضين كثيفين وعيون أستطيع وصفها بدقة.
عيونه حمراء دائماً و بالكاد يمكنك تحديد لون بؤبؤها، كانت أقرب للصفار منها إلى العسلية.
قتلت الفرس ذئبها حينما قفزتْ به من صفة النهر إلى الضفة الأخرى أذ أفزعتها حيّة كل تفيح ما بين حوافرها وقتذاك.
راحت النسوة يبكين بشدة، لا بل إنّ بعضاً منهن أقدمن على تمزيق أثوابهن بجرأة لم أتمكن وقد بلغت من عمري الآن ما بلغت من استيعاب هذا السلوك الذي كان ولا زال شنيعاً في رأيي .
ربما يرتبط هذا الفعل بالتعري كحالة وجدانية يتركها المتوفى إذ يغيب إلى الأبد .

أذكر أنني أمنعت النظر حينها ببطونهن المتصحرة الممزقة، وبأثدائهن الطويلة السمراء ،وبتلك الهالة الداكنة الجافة التي ينبثق عنها نتوء بحجم سلامية يستخدمنه في رضاعة أطفالهن بناء على ما كنت أدرك.

انتابني الفزع الشديد حينما رأيت تلكم المشاهد.
يبكين جماعة فيصدرنّ ألحاناً من النحيب غريبة، تشبه طنين اجتماع النحل ظهر قيض شديد الحر.
حاولت الاختباء تحت جناحي أمي لكن ذلك لم يسعفني البتة، لا بل استطيع القول إن منظر والدتي وهي تمزق وجهها أكثر ما أرعبني وأصابني بالهلع.
لقد حرثت وجهها حرثاً حتى أنني تمكنت من رؤية بعض من جلدها تحت أظافرها.
والغريب بالأمر أنّ ذلك لا يتعلق بمدى معرفة البكائات بالميت، ربما لم يرينه أبداً، أو قد يعرفنه معرفة المستطرق درباً.
كبرتُ ولا زالت تلك الطقوس بمخيلتي لا بل إنها أصبحت تدهشني أكثر مما تخيفني.
وفي كل مرة أسأل أمي عن السبب تجيبني بكلمتين مختصرتين ” فينة حظنا” وتصمت فاصمت أنا الآخر أيضاً.
تساءلت مراراً عن معنى البكاء عن هذا السلوك الذي يعتبر التجسيد الفعلي لمعنى الحزن، تساءلت عن السبب الذي يدفع شعوب الأرض كلها وبتعاقبها المستمر على استخدام أسلوب كهذا في التعبير عن مشاعر من هذا النوع بإفراز سوائل سحرية ترمم على ما يبدو شيئاً من دمار الرحيل.

في العام السابع من الحرب وبينما أتجول في شوارع روتردام شعرتُ بالحنين كعادتي فبكيت وأنا أمشي، بكيتُ كثيراً ورحتُ أندبُ كما كانت النسوة يفعلن يوم مات الذئب.
اقتربت مني سيدة هولندية صهباء تناطح عامها السبعين، احتضنتني ودمدمت كلمات بلغتها مع ابتسامة عطف وشفقة وألم. لم يتوقف الأمر عند حدود ابتسامتها وعذوبة تعبيرها فقط إنما تجاوزه الى ما أبعد من هذا .
راحت تبكي لبكائي. تنشج مثلي لسبب تجهله حتماً كونها لا تعلم من أكون

في الواقع يبدو أن الدموع تساهم بشكل أو بآخر في خلق رابطة وجدانية غير مفسرة لا عنوان ولا تعريف منطقي لها …
نعم حرثت أمي وجهها ومزقت عمتي ثوبها وحفرت أثداءها على ذئب هرم .
فكيف عسانا يا ترى نبكي وكل الذئاب قد قُتِلتْ !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى