قراءة نقدية في الفلسفة الكلبية “مصباح ديوجين”
محمد زهدي شاهين | فلسطين
يقال بأن ديوجانس كان فيلسوفاً يونانياً متشرداً، عاصر افلاطون وأرسطو وكان احد تلامذة سقراط. ذكره الشهرستاني في الملل والنحل، حيث قال عنه بأنه:( كانَ حَكِيماً فاضلاً متقشّفاً لا يقتَني شيئاً ولا يأوى إلى مَنزل). ولاحقاً لا بد لنا من وقفة عند هذه العبارة.
في هذه المقالة سنوجه نقدنا اللاذع للطريقة أو الاسلوب المتبع في الفلسفة الديوجينية الكلبية ومضمونها ومبادئها المبنية على أن الحل من اجل الوصول إلى السعادة يكمن في العيش البسيط دون ماديات، كونها نقيضاً للسعادة التي يعتقد اصحاب هذا المذهب الفلسفي بأنها تكمن في التخلي عن كل ما هو زائد عن الحاجة، وهذ خطأ وقعوا فيه، كون السعادة تكمن في القناعة والرضى المصاحب للسعي الجاد من خلال العمل على تحسين حالة الإنسان المعيشية بمختلف اشكالها، بالطرق السليمة والصحيحة دون الحاجة لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين. وهنا نوجه لأصحاب هذا المذهب عدة أسئلة منها: هل المنزل الذي يأوي إليه الإنسان و يقيه حر الصيف وبرد الشتاء، ويأمن به من اللصوص ووحوش البر، ويمكنه من بناء أسرة مستقرة، يعد بمثابة حاجة زائدة أم ضرورة يا ترى؟ وهل امتلاك الإنسان حرفة أو صنعة يستطيع الإنسان من خلالها كسب قوت يومه وعيالة حاجة زائدة ايضاً؟ وهل نظافة بدن الإنسان وثيابه حاجة زائدة كذلك؟.
إن المشهور عن ديوجين يصل إلى حد التواتر في كونه كان يعيش متسولاً متكلاً على الأخرين، مرتدياً عباءةً قذرة متسخة، وبأنه كان لا يستحم على الاطلاق، حتى غدى واشتهر برائحته الكريهة، وعندما كان يعترض اهل السوق الذي كان يتواجد فيه على تلك الرائحة الكريهة المنبعثة منه مطالبين اياه بالاستحمام، يجيبهم قائلاً: ( بأنه شيء طبيعي يفعله جسمي ولن اخجل منه). كان ايضاً يعبر عن سخطه بطرق مبتذلة، كالتبول والتغوط أمام الملأ ، ولم يكن يخجل من ذلك بحجة انه أمر طبيعي يمارسه أي إنسان. وكان يدعو لأكثر من ذلك كما تفعل الحيوانات مما يخدش الحياء العام ضارباً بالقيم الاخلاقية والورع والفضائل بعرض الحائط لأنه كان لا مبالياً بآراء الأخرين وفقاً لاعتقاده ومبادئه التي ينتهجها. لذا بالكاد نستطيع اطلاق مصطلح الفلسفة الكلبية على هذا النهج، كونها نهج وطريقة حياة هشة اكثر من كونها نظاماً فلسفياً.
لقد اعتمد ديوجين على الطبيعة في كل شيء، بحيث اكتفى بالأساسيات كمنهج لحياة البشر، وهذا المنهج والسلوك الذي اتبعه هذا الرجل كفيل بنقض ونسف أراءه ومبادئه الكلبية كونها تعارض الطبيعة البشرية، فالإنسان مدني بطبعة، يستحم ويحافظ على نظافة جسده وثيابه حتى لو كانت رثة لكنها ليست قذرة أو متسخة، والإنسان يبحث دوماً عن الاستقرار وبناء اسرة، وانشاء بيتاً يأويه واسرته، فالإنسان إذاً لديه طموح ما. بالتالي فالإنسان السوي لا بد له من أن يتحلى بالقيم الاخلاقية.
تخيلوا إذن العالم والبشرية لو تبنت هذه الافكار الهدامة، المنحلة، غير السوية، واللا عقلانية لو سادت كطريقة ومنهج للحياة بحرية مطلقة دونما عقد اجتماعي. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل ستكون الصورة أبشع من ذلك بكثير حيث سيكون عالمنا عند إذن عالم لا مدني اتكالي، الناس فيه متسولون يعيشون على فتات الغير إن أمكن ذلك، بسبب عدم توفر عناصر انتاج كون الناس يعيشون حياة البساطة، وكقطعانٍ قذرة هائمة على وجهها دون بناء حضارة تذكر.
لقد كان ديوجين يحمل مصباحاً في وضح النهار ، وعندما كان يسأله الناس عن سبب حمله هذا المصباح في ساعات النهار، كان يجيبهم بأنه يبحث عن الإنسان، الإنسان الفاضل الحكيم، وهنا أقول وقد لا أصل إلى درجة المبالغة في هذا الرأي، في أن ديوجين لو استمر في حمل مصباحه جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا فلن يجد ما كان يبحث عنه، كون نظرته كانت نظرة تشاؤمية، وقد كان من الاجدر والأولى بأن يبحث عن هذا الإنسان الحكيم في داخلة وذاته أولاً قبل كل شيء، وبعد إذن سيجد بأن هناك الكثير من الناس ممن هم من الحكماء واصحاب الفضائل.
لقد مارس ديوجين ساديتة ضد الحيوانات وهذا الأمر مشهور عنه أيضاً حد التواتر في قصته المشهورة مع افلاطون عندما عرف الأخير الإنسان بأنه أي مخلوق يمشي على قدمين وغير مغطى بالريش، حيث أصبح هذا التعريف تعريفاً رسمياً في كل ارجاء اليونان. بعد ذلك قام ديوجين من أجل أن ينسف رأي وتعريف افلاطون هذا بأخذ ديك وقام بنتف ريشه من ثم قام برميه أمام افلاطون في إحدى محاضراته ، وقال له : (انظر إلى هذا الإنسان الذي وجدته). أما كان له يا ترى بأن يدحض تعريف أفلاطون بالشرح والتعليل دون أن يلجأ إلى هذه الطريقة البشعة، أم كان مستمتعاً بصرخات وزعيق استغاثة هذا الديك من شدة الالم الذي ألم به جراء نتف ريشه. على كل حال فديوجين واصحاب هذا المذهب لا يبالون بآراء الآخرين وفقاً لمبادئهم الفلسفية. لهذا يجب اتخاذ الديك المنتوف ريشه رمزاً للساديين، ورمزاً لهذا المذهب الفلسفي إن صح التعبير بديلاً عن مصباح ديوجين، فالبحث عن الحقيقة وتعليم الآخرين لا يتم بهذا الشكل.
بالعودة إلى ما جاء في الملل والنحل للشهرستاني في كون ديوجين كان فاضلاً متقشفاً، فالتقشف لا يكون بهذا الشكل، ولا يصل إلى حد الافراط والتفريط حد الاستجداء من الآخرين.
أما فيما يتعلق في كون ديوجين فاضلاً لا بد لنا من أن نقف عند معنى كلمة الفاضل؛ فالفاضل هو من يكون ذو فضيلة، وذو درجة رفيعة في حسن الخلق، أي بمعنى كريم الاخلاق، وهذا ما لا نجده عند ديوجين الذي كان يبول ويتغوط أمام الملأ. ولا ادري كيف نقل لنا الشهرستاني هذا الخبر.
أما في كونه حكيماً، فلا بد لنا هنا من إنصاف الرجل خاصة في كيفية تبيان السبب الذي دعاه إلى الوقوف أمام المقبرة الملكية في ذلك الوقت. قائلاً بأنه تمعن جيداً في المقابر فلم يستطيع التفرقة بين عظام الملوك وعظام العبيد.
نستنتج مما سبق بأن هذا الرجل كما يبدو بأنه كان يعاني من اضطراباً نفسياً، بحيث امتزجت حكمته أو رافقها جنون ما، وكما يقال خذو الحكمة من افواه المجانين، وهنالك ايضاً عبارة متداولة عن وجود شعرة دقيقة تفصل بين العبقرية والجنون.