ركائز المجتمع في الإسلام
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
لقد عُني الإسلام بالمجتمع وكل ما يتعلَّق به، فاهتمَّ بصلاحه وصلاح أمره، ونبَّه على ضرورة وِحدته، وانضباطه وسلامته، وربط بين أعضائه بروابط الإخاء والعقيدة، وسنَّ بين أهله سنن الترابط والرحمة والمودَّة، وكان هذا واضحًا جليًّا حينما هاجر رسول الله ﷺ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حيث بدأ بتأسيس مجتمعٍ إسلامي وليد، بعقيدة جديدة وفكر جديد، يصير فيه المسلم أخًا للمسلم، ويجعل من ذلك المجتمع جسدًا واحدًا متماسكًا إذا شكا منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى.
وكانت الأسرة هي الخلية التي يُبنى على أساسها أيُّ مجتمعٍ سليمٍ، وينبعث منها كلُّ فكرٍ قويم، فاهتمَّ بها وسنَّ القوانين والأسس، ووضع الضوابط الأخلاقية والسُّنَن، حتى يُقوِّمَ تلك اللبنة، ويجعل من صلاحها نواةً لصلاح المجتمع، وسبيلًا إلى سلامة الأمَّةِ، فاهتمَّ بالمرأة وجعل لها حقوقًا، وسنَّ عليها واجبات، وقسَّم لها من الرعاية والمواريث، وجعل لها ذمَّتها المالية، وحفظَ حقوقها الإنسانية، فكرَّمها أمًّا وقدَّم بِرَّها على بر الأب، وجعل الجنَّة تحت أقدامها، وكرَّمها زوجةً وصان حقوقها وكرامتها، وكرَّمها كذلك أختًا وبنتًا وروحًا.
كما عُني بحقوق الزوج فأقرَّ له حقَّ الطاعة، وجعل عليه واجبَ الرعاية، فأوصى الزوجة بحسن معاملته، وجعلها مسؤولة منه، حتَّى يؤدي دوره في العناية بأهله، ويبذل وِسعه لتربية أولاده، فهو الذي يتحمَّل تكاليف بيته، ويرفع أعباءه على أكتافه.
وعُني كذلك بالأولاد فهم شعلة المستقبل، وبسمة الأمل، فحضَّ على تربيتهم، والعناية بتعليمهم، وقد خص البنت بمنزلةٍ خاصة لمن يرعاها حينما قال النبي ﷺ “من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو“.
وكما عُني بتربيتهم وتنشئتهم، وحضَّ على تكريمهم وتعليمهم، فقد فرض عليهم في المقابل برَّ الوالدين وأمر به، وحضَّ عليه، وحذَّر من العقوق والعصيان، فجعل لبر الوالدين أجرًا عظيمًا يوم القيامة، بينما عدَّ للعاق عذابًا أليمًا، وتوعَّده وعيدًا شديدًا.
ولم يكتفِ الإسلام بأن تكون الرحمة والرأفة قاصرةً على الأسرة في نطاقها الضيِّق فحسب، ولم تقتصر دائرتُه على البيت الواحد فقط، بل تعدَّى ذلك إلى العلاقات الأسرية الأبعد، فحضَّ على صلة الرحم وأمرَ بها، وحذَّر كل الحذر من قَطْعِها، وحرَّم الجنَّة على من قطع رحمه، ولم يصل أهله، فقال النبي ﷺ “لا يدخل الجنَّة قاطع رحم”.
كما حضَّ الإسلام كذلك على رعاية اليتيم وجعل من رعايته بابًا واسعًا لدخول الجنة، وسببًا رئيسًا لفتح أبواب الرحمة، وجعل الساعي على الأرملة والمسكين، كمن يجاهد في سبيل الله، أو كمن يقوم الليل ويصوم النهار، وهذا كله يُظهر أن الإسلام قد بنى العلاقات الأسرية على أسس الحب والمودة، والتعاطف والرحمة، وجعلها قائمة على البر والاحترام، وعلى البذل والتضحية والعطاء، حتى يجعل منها لبنةً شديةَ التماسك، تواجه الفتن، ولا تنهدم أمام المحن.
وقد جعل الإسلام للجار على جاره حقوقًا، فأوصى به، ورغَّب في الإحسان إليه، كما جعل العلاقة بين الصديق وصديقه علاقة قائمة على الاحترام والتكاتف، والمحبة والتراحم والتآلف، فجعل للمسلم على المسلم حقَّ النُّصح، وضرورة الإرشاد، ووجوب النصرة، وقال النبي ﷺ “لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبُّ لأخيه ما يحب لنفسه” .
وفي إطار هذا أوصى الإسلام على كل فردٍ في المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضَّ على عيادة المريض، وتلبية الدعوة، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، والمشاركة في الأفراح والجنائز، وإبداء البذل والصدقة، وتبادل الهدية وقبولها لما فيها من إشاعه المحبَّة، وأوصى بالتشارك في كل ما يكون في المجتمع من حوارٍ وفعاليات وأعمال، وحذَّر من كل دواعي التباغض والتحاسد، وكل ما يجلب العداء والتنافر، فمنع أن يحقِّر المسلم أخاه، أو أن يخطب على خِطبة أخيه، بل وحضَّ على الآداب الاجتماعية كإلقاء السلام وتشمية العاطس وتبسُّم الأخ في وجه أخيه، وكلها أمور بسيطة لكنَّ أثرَها بين أفراد المجتمع عظيم.
ولم يكن الجانب الأخلاقي وحده عين اهتمام الإسلام وشرائعة، وموضع قوانينه وتشريعاته، بل إن الإسلام لم يغفل كذلك بقيَّة الجوانب الدنيوية التي كان المجتمع في أمس الحاجة إليها، ولا يسعه الاستغناء عنها، فاهتمَّ بالصحة، وأوصى بالعلم والتعليم، وعنى بالتكافل الاجتماعي، وأمر بالبناء والعمل، ونظَّم القوانين التي تكون بين الحاكم والمحكوم، فسنَّ الشورى والعدل والقضاء، وحرَّم الطغيان والظلم وبخس الحقوق، ونهى عن الغيبة والنميمة والعُقوق، واهتم بما يربط بين أوصال المجتمع من قيم الفضيلة، وينفي عنه مظاهر الجريمة، فأوجد التشريعات وسنَّ الحدود ووضع القوانين والمواريث والعقوبات، فكافأ المخلص، وعاقب المذنب. وساوى بين الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، ونهى عن التفاضل بين الناس، وجعل من الدين وإخلاص العمل المعايير الحقيقية للمؤمن، والصفات التي يجب أن يتحلَّى بها المسلم، فالإسلام ليس مجرَّد طقوس دينية، وعبادات روحية، من صلاة وزكاة وصيام، ولكن الإسلامَ كذلك إحسانٌ في معاملة، وحضٌّ على مكارم الأخلاق، ودعوةٌ للتلاحمِ والتأزرِ وإتقانِ العمل.
وكل هذا في سبيل أن يبنى مجتمعًا نشطًا، قويًّا متماسكًا، متينَ البنيان، مظلَّلًا بالبر والتآلف وصلة الأرحام، قائمًا على العلم والعمل وبذل الإحسان، يشدُّ بعضه وبعضًا، ويحمي بعضه بعضًا.