فقهاء التحيُّز والانتقاء
عماد خالد رحمة | ألمانيا
من يرى بعينه الذئبية مدعياً أنه نائم، لن تعوزه الذرائع الواهية التي تجري بمكرٍ وخبثٍ بين يديه، ويتحسسها بعقله الظلامي، فالعالم كله يقع تحت مطامعه وشراهته، يستخدم الهجاء وفقه التضليل عند الضرورة، بل يستخدمهما كل حين، ويدعو إلى التهاوي والنكوص والإرتكاس، معتزاً بخرافاته وماضيه العبثي الفارغ إلا من المظاهر والحكايات الرنانة، فهو مستعدٌ أن يهجوا الماء والهواء والتراب وحتى النار التي يستخدمها لحرق البشر والحجر وجعلهم رماداً، وتناسى أنَّ النار التي أنارت كهفه ودربه ودفأته في ليالي الخوف والهلع والبرد القارص والتي من أجلها تمت معاقبة بروميثيوس بطل الأسطورة اليونانية إلى الأبد، لأنه تمكن من سرقة سرّها وكنهها، ولأنها أيضاً تعالج بالكيّ آخر الدواء ضد الداء.
إنّ فقهاء التحيَّز والانتقاء والهجاء والإقصاء وتهميش الآخر لن يحتاجوا لسد الذرائع وإيجاد المبررات إذا أرادوا تسليط الإضاءة على شيء محدّد، بل كل ما هو سلبي فقط، فهم بالفعل لا يرون من الكأس غير نصفها الفارغ بعيون حاسدة، ومن السماء غير الغيوم والسحب والشهب التي سترجمهم يوماً ما، ومن الدواء غير مرارته، هؤلاء نجدهم في كل مكان، و هم رويبضة هذا الزمن المُرَمَّد يتربعون في كل المناصب، ويجترون ويتبجحون على الشاشات ووراء مكبرات الصوت، لكنهم يُفتضَحونَ أكثر في الأزمات التي تجبرهم على خلع أقنعتهم المزيفة،التي تخفي ساديتهم واستعلائهم، وهمجيتهم، ويبحثون عن مشاجب أبناء جلدتهم كي يعلقوها عليها، وتتجلى أمراض أوهامهم في سلوكهم ومفاهيمهم وأقوالهم ورتابتهم البالية . فهم متعالمون ومتفيقهون ومتثاقفون ورويبضة.
وكان الشاعر المهجري إيليا أبي ماضي قد وصفهم وصفاُ دقيقاً حين قال بأنّ عيونهم كليلة عن كل ما هو بهي وجميل وساحر، عيونهم ملأى بالقذى، وهم شكّاؤون بكاؤون في كل زمان وأوان، إنهم أشبه بالغربان السوداء التي لا يروق لها نعيق إلا فوق الخرائب العفنة والأطلال البائدة والتلال المتقيحة ، وقد ينظر إليهم الشاعر ابن الرومي من شعراء القرن الثالث الهجري نظرةّ حاسدة، لأنهم تفوقوا عليه في الهجاء وهو الذي تحوّل إلى أمثولة في الهجاء.
وهم أبناء النميمة وأبوها وأمها. والفقه الذي يبشرون به هو فقه الانتقاء والتحيُّز والتخيُّر والإقصاء والإحلال، فهم يحذفون ويضيفون حسب الطلب وضمن الأجندات المرسومة، لكنهم لا يطيقون العيش تحت الشمس والنور والضياء، بل في الأقبية والسراديب العفنة المتقيحة وضمن هياكلهم التي تخرّج العنف والكراهية، لأنهم وطاويط تعشق العتمة والظلام، ولأنهم لاعقي الدماء ومصاصيها، ولو استطاعت نهش القمر واختطاف نوره لما ترددت لحظة واحدة.