المفرزة التي لاحقت المشاهير (3)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

أثناء زيارتي الثانية للشاعر ” محمد الماغوط ” . لم يتطرق للحوار لا من قريب أو من بعيد . بل كان يحدثني عن براعتي بالكيمياء. وكأنني الرازي أو ابن حيَّان .لم أكن أعلم من أين استقى تلك المعلومة الخاطئة؟ فأنا طيلة دراستي في كلية الصيدلة لم أكن بارعة بالكيمياء مطلقا. إلا أنه استطاع أن يقنعني أنني أستطيع أن أكون مُدَرِّسِة كيمياء لابنته ” سلافة ” ففعلت ريثما أحظى بالحوار. كان من الممكن أن أتوقف لولا رغبتي الشديدة بمصافحة شعره الذي يفيض بالتمرد والتحريض والثورة والحب والحرب والسجن والحرية.

بدأتُ بتدريس ” سلافة ” بينما غادر هو المنزل، وتركَنَا دون أن ينبس ببنت شفة.. وفي اليوم التالي فكرتُ أن أنهي درس الكيمياء لسلافة قبل أن يغادر والدها المنزل. وطيلة الدرس وأنا أُفَبْرِك أفكاري وأختزلها، علَّني أحظى ببعض الوقت للجلوس معه ومحاورته حول قصيدة النثر التي استطاع أن يحملَها إلى بر الإبداع والتميز. لكنه لم يغادر المنزل كاليوم الفائت.بل دخل الجزء المستقل من الصالة. وأنا أملي الدرس على ابنته سلافة بشكل نظري دون استخدام ورقة وقلم، ودون أن تبدو علي هَيْبَة المُدَرِّسَة او جدِّيَّتها. وكان يبدو غاضبا ومضطرباً. حيث تهادى إلى سمعي صوت ركلة قدمه للكرسي.

قررت أن لا أسأله ذلك اليوم أي سؤال, وأن لا أحاوره مطلقا. خصوصاً عندما نظرتُ إليه بطرف عيني, فوجدته يتفصد عرقاً رغم برودة الطقس..فقد سمعت من الشاعر ” محمد عمران”: إن تلك الحالة كانت تنتابه حينما يُلِحُّ أحدهم بسؤاله عن زوجته المرحومة الشاعرة ” سنية صالح ” .

حاولت أن أترك ” سلافة ” وأغادر دون أن أنهي الدرس، علَّني أجد مبررا للعودة مرة ثانية بعد أن أعود من السفر المقرر مع عائلتي إلى لبنان معللة نفسي أن أجده بمزاج أقل حدة أو عصبية. قالت ” سلافة ” : هل انتهينا يا ( مس ) ؟ قلت: نعم . لكن مازالت هناك بعض المعادلات بحاجة للتوازن. ( وأنا أنظر صوب الماغوط نظرة مليئة بالعتاب) . ابتسم بسرعة غريبة وكأن شيئاً لم يكن وقال: وفاء يا عزيزتي أنا مشتاق للسير والتسكع في الشوارع تحت المطر كالأطفال ..هل ترافقيني؟ شعرت بالإحراج, (فأنا من عائلة متحفظة ترفض أن أخرج بصحبة رجل حتى ولوكان بعمر أبي) . وقلت: عليًّ أن أنهي تحرير صفحتي الخاصة بالمرأة (حيث كنت مسؤولة عن تلك الصفحة في مجلة الحرفيين في سوريا، بالإضافة إلى عملي كمحررة في مجلة “بيروت المساء ” اللبنانية  لذا قررتُ مرافقته حتى مجلة الحرفيين.على أن يتابع سيره وحيداً .عندما نصل للسبع بحرات.

انطلقنا معاً تحت المطر، وقد عادت الابتسامة إلى وجهه وقطرات المطر تتزحلق على زجاج نظاَّرته تذكرني بلحظات البداية من البكاء الذي تشرق بعده الروح . كنت ُ أعتقد أنه ثريٌ، وأحسست أن المطر وحده لن يمايز بيننا حينما يبللنا معاً .قال وهو ينظر إلى قميصه المخطط وقد تبلل:

ـ المطر يشعرني بالحنين إلى كل شيء إلى طفولتي وأيام تشردي ويوقظ أحاسيسي المنسية، فأحنُ إلى وجوه افتقدتها .. كنت أدرك أنه يقصد زوجته المتوفاة الشاعرة ” سنية صالح ” . لكن لم أجرؤ أن أحشر نفسي في موضوع قد يجعله متقلبا في مزاجه وطباعه كما سمعتُ عنه. واكتفيتُ بالقول وأنا أرفع يدي نحو عيني لأمسح الكحل الرخيص الذي يبدو أنه قد سال ولوث المنديل الورقي في يدي:

ـ مثلكَ أنا أعشق المطر لأنه يزيل الأصباغ عن الوجوه. فتظهر على حقيقتها دون تصنع أو تكلف. ثم نظرت للمنديل الذي امتلأ بالكحل، فابتسمت ابتسامة عريضة. كانت قطرات المطر تتناثر على وجهه فيبدو كطفل صغير قد نسي موجة غضبه إثر عثوره على دمية. بينما كنتُ أرفع يدي لإعادة ترتيب شعري الذي عبث به المطر وأنا أتخيله يتمتم أغنية حزينة. (اهطل أيها المطر ..أريد أن استعيد طفولتي لحظات قبل الممات). فقد كنتُ أشعر أن السير قد أرهقه رغم ادعائه بأنه يحب المشي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى