دراسة في كتاب الآداب لجعفر بن شمس الخلافة (543-622هـ)
بقلم: الدكتور عوض الغبارى | جامعة القاهرة
كتاب الآداب مجموع أدبى نادر من خمسة أبواب في الحكمة من النثر، وفصول قصار من البلاغة والحكمة، والحكمة من الشعر، وأبيات الأمثال المفردة، وباب أعجاز الأبيات. ومؤلفه “جعفر بن شمس الخلافة” كاتب شاعر مصري مشهود له بالبراعة في العصر الزاهر للبلاغة والأدب وهو العصر الأيوبى، ورأسه “القاضي الفاضل” الذى قدم مؤلف كتاب الآداب هذا الكتاب إليه. وكان القاضي وزير صلاح الدين الأيوبى وأديب عصره المبرَّز. ويعد “كتاب الآداب” تمثيلا جيدا لثقافة عصره من اهتمام ببلاغة الأدب، وحسن اختيار نصوصه الأدبية المؤثرة في النفس مما وصفه مؤلفه بقوله إنه “مما يصقل الخواطر الصدية، ويُحِدُّ القرائح الكالة، ويبعث الأفهام اللاغية، ويقود القلوب الجامحة”)[1]).
ويصدِّر الكاتب باب الحكمة من النثر بقوله تعالى: “ۗ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” [البقرة /269] ويورد كثيرا من الحِكَم للرسول –ص- ولعلى بن أبى طالب وعمر بن الخطاب، وأبى بكر الصديق وغيرهم من حكماء العرب وأدبائهم. ونطالع في كتاب الآداب باقة جامعة لبلاغة العرب في الحكمة، ولكثير من فلاسفة اليونان وغيرهم مما يجعله مصدرا للقيم الإنسانية الرفيعة في أمور البلاد والعباد، والتحذير من نقضيها سعيا إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن بلاغة الرسول وهو الذى أوتى جوامع الكلم- قوله: “ثلاث مهلكات وثلاث منجيات؛ فأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات فخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب”.وتأتى بلاغة الحكة من إيجازها ونفعها وسمو مقصدها)[2]).
وقد اشتهر على بن أبى طالب ببلاغته ونُسِب إليه كتاب شهير بعنوان: “نهج البلاغة”. في فصل من كتاب الآداب بعنوان : “فصل في الحض على اكتساب الأدب” يفتتحه “جعفر بن شمس الخلافة” بقول على بن أبى طالب “الأدب حلى في الغنى، كنز عند الحاجة، عون على المروءة، صاحب في المجلس، أنيس في الوحدة”)[3]).وهذه المعانى الرفيعة في وصف الأدب متسقة مع أهداف هذا الكتاب الذى بين أيدينا، مع دلالتها على اتساع مفهوم الأدب.
وفى فصل بعنوان: “في الملوك وذكر أحوالهم، يورد المؤلف قول عمر بن الخطاب: “لا يصلح لهذا الأمر إلا اللَّيِّن في غير ضعف، القوى من غير عنف”)[4]).وفى ضبط سياسة الدولة يورد المؤلف نصيحة أبى بكر الصديق في قوله: “إياك أن توعِد على معصية بأكثر من عقوبتها، فإنك إن فعلت أثمت، وإن لم تفعل كذبت”)[5]). وكتاب الآداب متنوع الآفاق، قطوفه دانية فيما “ينفع الناس ويمكث في الأرض”.
وخص مؤلف “كتاب الآداب” أفلاطون بكثير من المأثور عن الحكماء مثل قوله : “الدليل على ضعف الإنسان أنه ربما أتاه الخير من حيث لا يحتسب، والشر من حيث لا يرتقب”. وقوله: “إذا أعجبك ما يتواضعه الناس مما ظهر من محاسنك فانظر فيما بطن من مساوئك، ولتكن معرفتك بنفسك أوثق عندك من معرفة الناس بك”)[6]). وتطرد النظرات الفلسفية وحكمة الحياة والكون في جنبات “كتاب الآداب” منيرة هادية آسرة للقلب والعقل والوجدان.ومن أقوال أرسطو: “طالب الدنيا لا يخلو من الحزن
في حالين؛ حزن ما فاته كيف لم ينله، وحزن على ما ناله يخاف أن يُسلَبه”)[7]).وتغوص حِكَم الكتاب في أعماق النفس البشرية والبحر الزاخر بأسرارها. وتتعدد فصول الكتاب في الطبائع الإنسانية؛ المحمود منها والمذموم، فمن الفضائل فصل في مدح التواضع، يصدِّره المؤلف بقول الرسول –ص- “من تواضع لله رفعه”)[8]).
و”الشورى” منقبة مذكورة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: “وشاورهم في الأمر”، وقول الرسول –ص- “ما ندمن مَن استشار، ولا خاب من استخار”، وفى “كتاب الآداب” فصل في ذلك)[9]).ويعقد “جعفر بن شمس الخلافة” فصلا لفضل الصديق يستهله المؤلف بقول الرسول –ص- “المرء كثير بأخيه” وقد قال لقمان لابنه: “إبنى ليكن أول شيء تكن به بعد الإسلام خليلا صالحا”.
والأصدقاء، كما قال الحكيم: “زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، ومعونة على الدهر، وشركاء في الخير والشر”)[10]). أما الأخلاق المذمومة فمنها “الكبر”. قال “النظَّام” ، الفيلسوف المعتزل: “ما ترفُّع أحد في مجلس إلا لصنعة يجدها في نفسه”)[11]). كذلك فالحسد منقصة إنسانية، عقد مؤلف “كتاب الآداب” فصلا في ذمه، وصدَّره بقول على بن أبى طالب: “لا راحة لحسود”)[12]). ويرد فصل آخر في ذم الغيبة)[13]) صدَّره المؤلف بقوله تعالى:”لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ” [الحجرات/12]
وفى كل فصل من فصول “كتاب الآداب” فيض من الحِكَم والآراء لمختلف الشخصيات في الأزمان والأماكن المختلفة مشفوعة بأقباس من هدى القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الصالحين والفلاسفة والأدباء والشعراء وحكماء العرب وغيرهم، خاصة فيما أورده “جعفر بن شمس الخلافة” في عشرة فصول ختم بها باب الحكمة من النثر)[14]).
وفى كل فصل من هذه الفصول العشرة ما ورد في عددها من حِكَم، كالفصل التاسع، مثلاً، ومثاله: “قال أبو عبيدة بن معمر بن المثنى، وهو من علماء اللغة العربية وأدبها وبلاغتها: “ارتجل على بن أبى طالب رضى الله عنه تسع كلمات، قطعت الأطماع عن اللحاق بواحدة منهن. ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلم، وثلاث في الأدب؛ فأما التي في المناجاة فقوله: كفانى عزا أن تكون لى ربا، وكفانى فخرا أن أكون لك عبدا، أنت لى كما أحب فوفقنى لما تحب. وأما التي في العلم فقوله: المرء مخبوء تحت لسانه، تكلموا تُعرفوا، ما ضاع امرؤ عرف قدره. وأما التي في الأدب فقوله: أنعم على مَن شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره”)[15]). وعلى هذا النسق الفريد ياتى معنى “الأدب” شاملا للعلم والخلق اشتماله على فنون الأدب المعروفة من شعر ونثر ومَثَل وقصة وغيرها.
أما الباب الثانى من كتاب الآداب بعنوان: “الفصول القصار من البلاغة والحكمة” فيبدأ بفصل في ألفاظ يُتمثَّل بها عن القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: “لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ “)[16])، وقوله: “مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ “)[17])، وقوله: “وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ“)[18]). ويفيض هذا الفصل في ذكر الآيات القرآنية الكريمة التي تلهج بها الألسنة متمثلة بها عنوانا للبلاغة العربية. ثم يعقد مؤلف “كتاب الآداب” فصلا في أمثال العرب، مثل: “سكت ألفا ونطق خلفا”)[19]) و”المنية ولا الدنية”)[20]) و”الحر حر وإن مسه الضر”)[21]).
ويرد هذا الفصل وما قبله، وما بعده وهو الأمثال على ترتيب الحروف الأبجدية، مثل حرف الألف في مثل “الأعمال بخواتيمها دون تحليل، إذ ترد النصوص متتابعة في صفحات كثيرة تشتمل على أشهر ما يُتَمثل به من القرآن الكريم، وأمثال العرب إطلاقا، أو على ترتيب الحروف الأبجدية مما يعد مصدرا لهذه الحِكَم وأكثرها ورودا على الألسنة، وأبلغها لفظ، وأدَّمَها معنى. من ذلك “العيون طلائع القلوب” و”العاقل يترك ما يحب خوفا من العلاج بما يكره”.
ومن الأمثال النادرة : “إعطاء الشاعر ضرب من بر الوالدين”. ومن الأمثال الجميلة النافعة: “العلم أكثر من أن يُحاط به، فخذوا من كل شيء أحسنه”. ومن ذخائر المثل: “القلم أصم يسمع النجوى”، والمثل: “ومن وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه”. كذلك من الأمثال الجميلة : “لكل غلو سلو”)[22]). ثم يورد “جعفر بن شمس الخلافة” أمثالا تبدأ بفعل الامر، مثل: “اعقلها وتوكَّل”.
وبعده فصل “النهى” للأمثال التي تبدأ بذلك مثل: “لا تقُل ما لا تعلم فَتُتَّهم فيما تعلم”. وفى فصل “إذا” نجد أمثالا كثيرة ككل فصل مثل: “إذا اشتبه عليك أمران فاجتنب أقربهما من هواك”. وفى فصل “مَنْ” المثل الشهير: “مَن جهل شيئا عاداه” ويرد المثل: “لا خير في لذة تعقب ندما” في فصل “لا”، والمثل: ” ما مات من أحيا علما” في فصل “ما”. أما المثل: “رُبَّ عجلة تهب ريثا” فهو من الأمثال الكثيرة التي يشملها فصل “رُبَّ”.
وفى فصل “لو” و”لولا” نجد المَثَل: “لو سكت مَن لا يعلم سقط الخلاف” والمثل: “لولا الحياء هلك الأحياء”. أما الأفعال في فصل “ليس” ومثالها: “ليس الحبر كالمعانية” فختام لهذا الباب الثاني من الكتاب)[23])، يليه الباب الثالث وعنوانه: “باب الحكمة من الشعر”. وكما كان الباب السابق مجموعا قيمِّا للأمثال والحِكَم المتتابعة، فكذلك كان الباب الثالث مجموعا لبليغ الشعر وحكمته في الأبواب المختلفة تثرى نصوصه معرضا للمحصول الأدبى الرائع الذى حازه مؤلف كتاب الآداب.
يطالعنا “جعفر بن شمس الخلافة” في بدايته بفصل عنوانه: “انتظار الفرج من أهل الشدة والحرج بقوله، مثالا على ذلك:
هي شدة يأتي الرخاء عقيبها
وأسى يبشِّر بالسرور العاجل
***
وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا
للمرء خير من نعيم زائل )[24])
وهنا يجيد مؤلِّف “كتاب الآداب” شاعرا كما أجاد أديبا ناقدا في حسن اختياره لعيون الأدب العربى.
وتثرى الاختيارات الشعرية فيوضا من أنهار عذبة في كل فصل من فصول الباب الثالث: كقول بشار بن برد مثالا لفصل عنوانه: “في الحض على اكتساب الإخوان ومداراتهم، والصفح عن زلاتهم وهفواتهم”.
إذا كنتَ في كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه)[25])
وما يليه من أبيات.
وفى فصل عن “كيف يجب أن يكون الإخوان” يختار مؤلف كتاب الآداب كثيرا من الشعر المعتْبر مثل قول أبى العتاهية:
وإنى لمشتاق إلى ظل صاحب
يرمد ويصفو إن كدرتُ عليه)[26])
وفى فصل بعنوان : “في مدح القناعة” يقول أبو فراس:
غنى النفس لمن يعقل
خير من غنى المال)[27])
وفى الصبر على نوائب الدهر، لأبى العتاهية:
ليس لما ليست له حيلة
موجودة خير من الصبر)[28])
وفى مدح الجود، وذم البخل يقول مؤلِّف “كتاب الآداب”:
أَعْط وإن فاتك الثراء ودع
سبيل مَن ضَنَّ وهو يعتذر)[29])
وفى الحض على الانتقال رجاء بلوغ الآمال وضمن أبيات كثيرة اختارها “جعفر بن شمس الخلافة” نجد قول أبى تمام مصداقا لذلك في قوله:
وطول مقام المرء في الحى مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدَّد)[30])
ونمضى مع “كتاب الآداب” في فصول أخرى مثل فصل في “الوعظيات” يختار منه المؤلف قول الشاعر “الصلتان العبدى” من العصر الأموى:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كَرُّ الغداة ومَرُّ العَشىِّ
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة مَن عاش لا تنقضى)[31])
وفى فصل كبير ينتهى الباب الثالث بباقة غنية من الأشعار في “حِكَم متباينة المقاصد، جمة الفوائد” كما هو عنوان هذا الفصل.
من ذلك قول “زهير بن أبى سلمى”:
ومَن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومَن لا يتق الشتم يُشتم)[32])
إلى آخر أبيات معلقته الشهيرة.
وقول “بشار بن برد”:
إذا بلغ الرأىُ المشورة فاستعن
برأى نصيح أو فصاحة حازم)[33])
إلى آخر أبياته الرائعة.
وقول “المتنبى”:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدَّق ما يعتاده من تَوَهُّم
وما تبعه من أبيات.
وقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وما تبعه أيضا)[34]).
أما الباب الرابع من “كتاب الآداب” فعنوانه : “أبيات الأمثال المفردة” مثل قول الشاعر:
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس)[35])
ولا يورد “جعفر بن شمس الخلافة” أسماء الشعراء ربما لشهرة الأبيات أمثال سائرة، والبيت للحطيئة.
وتتوالى الأبيات من هذا النوع مثل قول الشاعر:
من راقب الناس مات غما
وفاز باللذة الجسور)[36])
وقول الشاعر:
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار)[37])
وقول الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
وأبيات هذا الفصل كثيرة وجميلة، ومنها قول الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع)[38])
ويختم “جعفر بن شمس الخلافة” كتاب الآداب بالباب الخامس وعنوانه: “باب أعجاز الأبيات” وهو باب – على شاكله ما قبله- زاخر بالأشعار التي تتضمن مثلا كقول الشاعر:
يكفيك مما لا ترى ما قد ترى
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَل)[39])
والشطر الثانى من قول المتنبى:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وهكذا يمثل هذا المجموع الأدبى في كتاب الآداب الشخصية الأدبية لمؤلفه؛ “جعفر بن شمس الخلافة”، وتعبيره عن ثقافة غزيرة تعد ظاهرة الأدب بمفهومه الواسع في عصره.
الهوامش:
([1]) جعفر بن شمس الخلافة، كتاب الآداب، مكتبة الخانجى، القاهرة، الطبعة الثانية، 1993، ص2.
([14]) السابق، من ص 39 إلى ص 61.
([22]) السابق، من ص 65 إلى ص 74.
([23]) السابق، من ص 74 إلى ص 84.