دروس من الهجرة
د. طارق محمد حامد | أكاديمي مصري
كانت الهجرة فتحًا ونصرًا، فتحًا حيث وجد الإسلام بيئة صالحة خصبة في المدينة؛ لكي يزداد الأنصار يومًا بعد يوم، ويزداد المؤمنون يومًا بعد يوم، ونصرًا لأن المدينة كانت هي الدولة الإسلامية الأولي الناشئة الواعدة التي تحتوي جموع الأمة تحت لواء لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ومن حينها عرَف المسلمون معاني الاستقرار والأمان والعزة، وانطلقوا في شتي بقاع الأرض؛ دعوة إلى الله بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع قريش، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فتحققوا بأسمى معاني النبل في الدعوة إلى الله، حتى دانت لهذه الدعوة الغراء العرب والعجم، حتى قال ربعي بن عامر -رضي الله عنه- في عزة وشموخ المؤمن الواثق بربه، المطمئن إلى كفاية دينه، وسُمو رسالته، وقدسية دعوته لرستم ملك الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكانت نصرًا حين قال الخليفة العباسي الراشد هارون الرشيد للسحابة وهي تمر من فوقه في عزة ومنعة الإسلام آنذاك: أمطري حيث شئت، فإن خراجك سوف يأتيني، ومرورًا بالنصر العظيم لصلاح الدين -رحمه الله- في حطين ولقطز في عين جالوت، وتحرير الإرادة للشعب العربي المسلم في نصر العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973م.
عبادة الهجرة
الهجرة بمعناها الشرعي عبادة و هي الهجرة من دار الكفر إلي دار الإيمان قبل فتح مكة ائتمارا بأمر الله عز و جل و هي بمعناها هذا الإصطلاحي صارت من التاريخ و انتهت بفتح مكة(لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد و نية)، غير أنها متجددة مع كل توبة و كل هجرة من دار الظلم إلي دار العدل ومن السلبية إلي الإيجابية تجاه قضايا الأمة المصيرية (المهاجر من هجر ما نهي الله عنه).
ولأن الهجرة بمعناها الشرعي عبادة و عبادة دقيقة وعظيمة كذلك و لا تتكرر بالنسبة للأنبياء و حوارييهم إلا مرة في أعمار دعوتهم فيجب أن ننتبه هنا لأمر ربما لا ينتبه له كثير منا وهو أن النفقة فيها لا ينوب فيها أحد عن أحد ويتجلي هذا الأمر في إعداد الرواحل حيث قام سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه – بدفع راحلتين لعبد الله بن أريقط الدليل ليقوم علي تجهيزها حتي موعد الهجرة، حتي هنا الظاهر لدينا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو من قام بالإنفاق علي الرواحل، فأين إذا تعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنفقة من جهته علي راحلته؟!
والثابت لدينا أنه بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- و صاحبه و وصوله إلى المدينة المنورة دفع حصته من أجرة الرواحل لسيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لكي نعلم أن العبادات العظيمة المفردة لا ينوب فيها أحد عن أحد لعدم تكررها مرة أخرى بخلاف العبادات المتكررة كالحج ، كما يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعبد إلي الله عز وجل بالوسائل كما نتعبد إليه بالطاعات سواء بسواء ما دام هذا أمر من الله -عز وجل- وكل ما يؤدي إلى صحة العبادات فهو عبادة و نبل الغايات نصل لها بنبل الوسائل و المقدمات.
الوعي بالذات واليقين آلة لتوجيه النفوس نحو الإيمان في الهجرة النبوية
أتصور رجلا خرج قسرا من وطنه يرنو إليه قائلا: الله يعلم أنك أحب بلاد الله إلي الله وأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت،خرج مطاردا من أهل الشرك واللجاجة والعناد، كيف يكون حاله وكيف تكون رباطة جأشه وثباته ويقينه في موعود الله عز و جل، يطارده سراقة بن مالك طمعا في الدنيا ومائة من الإبل، فكان هناك تباين بين الأنفس ومرادها وغاياتها هنا وهناك، وشتان بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة والبون بينهما كما بين السماء والأرض، أخذ سراقة يمني النفس بالظفر بالنبي وصاحبه ليفوز بالجائزة، طارد النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلما اقترب ساخت قدما فرسه في الرمال ثلاث مرات حتي كاد أن يهلك سراقة فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم، ولنقف هنا قليلاً، من يطلب الأمان و من يعطي الأمان، الذي خرج من بلده مهاجراً لبلد آخر مطاردا أم الذي يطارد؟!
و لأنه الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي يملك الوعي بذات النفوس وجه سراقة نحو الإيمان و الإطمئنان قائلا له: ارجع ولك سوري كسري ولا تخبر عنا أحدا، أمر لا يتصوره عقل، كيف بالمطارد أن يعطي الأمان ويعد من يريد رأسه بسواري كسري أنوشروان الذي يسمع عنه فقط في الأساطير و لا يجرؤ أحد من العرب أن يطأ أرضه إلا بإذنه ويدخل عليه خاضعا ذليلا يقدم بين يديه الهدايا، و لكنها الوعي بالذات والثقة بموعود الله – عز وجل – التي قادت الكثير ـ ممن قدر له أن يلقي النبي – صلي الله عليه وسلم – في الهجرة المباركة ـ نحو الإيمان بالله و الدخول في دين الله أفواجا بدءا من سراقة بن مالك وعبد الله بن أريقط دليل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في الهجرة و مرورا بأم معبد الخزاعية وزوجها وكل من قابل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في هجرته ثم مهاجره في المدينة المنورة بعد ذلك.
فالداعية الذي يملك هاتين الخصيصتين ويمتلك أدوات الدعوة جيدا لحرى به أن يقود الدنيا كلها نحو الإيمان بالله تعالى دونما تكلف أو عناء.