بماذا تتميز مبادرة الإنقاذ.. وهل تملك فرصة للنجاح؟
هاني المصري | فلسطين
أطلق ناصر القدوة، ومعه مجموعةٌ من الشخصيات، مبادرةً للإنقاذ الوطني بعنوان “هيئة انتقالية لإنجاز التغيير وإعادة البناء”، ووجدت المبادرة اهتمامًا جيدًا عبّر عن نفسه بتغطية إعلامية واسعة، وتعليقات ومقالات ومقابلات غلب عليها الطابع الإيجابي، هذا إذا وضعنا الذباب الإلكتروني جانبًا، الجاهز لمهاجمة أي عمل أو مبادرة إذا جاءت من الغير، ومِمَن يمكن اعتبارهم من الخصوم السياسيين.
وجدت المبادرة اهتمامًا على الرغم من ملل الفلسطينيين من كثرة المبادرات التي تنتهي قبل أن تبدأ، أو تكون مجرد لافتة لا تحمل أي مضمون، أو تتبنى نقطة واحدة وعدم تحقيقها يحكم على المبادرة بالفشل، وخصوصًا إذا كان تحقيقها ليس بيد دعاتها، فمثلًا الدعوة إلى إنهاء الانقسام كانت محور مبادرات عديدة، وأفشلها أن الكل مؤيدٌ لها؛ أي لا يكفي للتقدم التجمع على شعار عام مثل إنهاء الانقسام، لدرجة تدفع إلى التساؤل عن من المسؤول عن الانقسام واستمراره وتعمقه وخطر تحوله إلى انفصال دائم، فلا بد من التجمع على كيف يمكن إنهاء الانقسام، وعلى أيّ أسس، والشيء نفسه ينطبق على شعار الانتخابات، فيجب الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات، وأن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها.
ما الذي أدى إلى فشل الحوارات والمبادرات الرسمية وغير الرسمية؟
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أن كل مبادرة أو تحرك غير رسمي يستهدف الإصلاح أو التغيير أو إنهاء الانقسام أو إجراء الانتخابات … إلخ، يستحق التقدير، بغض النظر عن فرص نجاحه، ومدى قدرته على إحداث تأثير إيجابي، فهو يعكس نوايا حسنة، وحرصًا واهتمامًا بالمصلحة الوطنية، وتعرّض أصحاب هذه المبادرات للخسارة من القوى النافذة ومن أصحاب المصلحة باستمرار الوضع الفلسطيني السيئ المنقسم على نفسه بعمق على ما هو عليه، ولكن كما يقال الطريق إلى جهنم مبلطة بذوي النوايا الحسنة.
وإذا استعرضنا المبادرات التي سعت كما أعلن أصحابها إلى إنقاذ القضية والشعب والمنظمة، سنجد أنها تندرج ضمن فئتين، في المقدمة المبادرات الرسمية التي أخذت أشكال الحوارات الفلسطينية الرسمية، وانتهت إلى اتفاقات وقعتها الفصائل، وكانت كلية أو جزئية، من وثيقة الوفاق الوطني في العام 2006 وحتى حوارات الجزائر التي لم تستكمل في العام 2021، مرورًا بإعلان صنعاء 2008، واتفاقية المصالحة بالقاهرة 2011، وإعلان الدوحة 2012، وإعلان الشاطئ 2014، واتفاق القاهرة 2017، وحوارات موسكو 2019، وتفاهمات إسطنبول 2020.
مآخذ على الحوارات والاتفاقات
المأخذ الأول: تجاهلت الحوارات والاتفاقات أهمية الاتفاق على البرنامج السياسي الوطني، بذريعة أن وقته سيأتي لاحقًا، على الرغم من أن من أهم العوائق التي تحول دون إنهاء الانقسام الموقف من الهدف المركزي ومن اتفاق أوسلو والتزاماته، وشروط اللجنة الرباعية، والمقاومة وسلاحها، والمفاوضات وشروطها ومرجعيتها.
المأخذ الثاني: ركزت الحوارات عمومًا على الجوانب الإجرائية والشكلية على أهميتها، مثل: تشكيل حكومة وفاق أو وحدة وطنية حينًا، أو الذهاب إلى الانتخابات حينًا آخر، أو عقد وتشكيل المجلس الوطني حينًا ثالثًا، وتجاهلت القضايا الجوهرية، مثل: طبيعة المرحلة، والنظام السياسي الفلسطيني، وأهمية مراجعة التجارب السابقة قبل أوسلو وما بعده، والوصول إلى العبر والدروس الكفيلة بعدم تكرار الأخطاء، فمثلًا: هل كان صحيحًا الدمج بين مرحلة التحرر الوطني ومرحلة البناء الديمقراطي؟ وهل كان صحيحًا تشكيل سلطة تحت الاحتلال مقيدة بقيود غليظة تمنعها من الحركة إلى الأمام، وتحكم عليها بالتحرك إلى الخلف أو المراوحة في المكان نفسه؟ وإذا كان من الخطأ إقامة السلطة، فهل الحل حل السلطة القائمة أو تغييرها أو تحولها إلى دولة أو استمرارها أقل من حكم ذاتي وسلطتين متنازعتين؟
المأخذ الثالث: كانت الاتفاقات محكومة لطرفي الانقسام والمحاصصة الثنائية؛ حيث تتفق حركتا فتح وحماس أولًا، ثم موافقة الفصائل الأخرى تحصيل حاصل، ولعل ما حدث عند توقيع اتفاق القاهرة يكفي لتوضيح هذا الأمر، فقد طُلِب من الفصائل الأخرى أن توقع على اتفاق لم تشارك في التوصل إليه، وعندما اعترض البعض قيل له وقّع، وسجل ملاحظاتك، فيما وصف أحدهم الوضع بـ”شاهد ما شفش حاجة”.
المأخذ الرابع: أن الاتفاقات والحوارات محصورة بنفس الأشخاص والفصائل، على الرغم من أن غالبية الفصائل المشاركة في الحوار لم يعد لها أو لم يكن لها وجود يذكر منذ زمن بعيد، وتستثنى حراكات ولجان ومبادرات وفعاليات مهمة من داخل الوطن وخارجه، كما يستثنى الشباب والمرأة والشتات الذي لا يمثل بحجمه مع أنه يشكل نصف الشعب الفلسطيني.
المأخذ الخامس: تجاهلت الاتفاقات معالجة جذور الانقسام وأسبابه، واتفقت على حكومة أو إجراء الانتخابات من دون ربط ذلك ببرنامج سياسي معين ولا بإنهاء الانقسام، وهذا يعني إدارة وتعميقًا للانقسام، والأهم شرعنته وإهمال أهمية معالجة الفردية والتفرد والهيمنة والفئوية والإقصاء، وأن إنهاء الانقسام يتم من خلال إقامة شراكة كاملة؛ حيث لا تكون ولا تبقى “حماس” تحكم غزة منفردة، ولا “فتح” تحكم المنظمة أو تحكم السلطة باسمها في الضفة. أما المقاومة فشأن وطني ليس خاصًا بفصيل أو منطقة بعينها، بل لا بد أن تخضع لإستراتيجية واحدة وقيادة واحدة، وكذلك العمل السياسي والمفاوضات.
كما أن السلطة بوزاراتها وأجهزتها الأمنية لا يمكن أن تحكم من خلال حزب أو أحزاب، وإنما عبر جبهة وطنية بحكم مرحلة التحرر الوطني، وعبر برامج القواسم المشتركة، وتخضع لسيادة القانون؛ حيث يجب أن تكون الأجهزة الأمنية تحديدًا مهنية، وتحكمها عقيدة وطنية بعيدًا عن الحزبية. فالذي يريد أن يبقى عضوًا في جهاز أمني لا يجوز أن يكون عضوًا، وخصوصًا قياديًا في فصيل؛ لأنه سيخدم الفصيل لا الشعب والوطن، وإذا حصل خلاف فسيستخدم السلاح لصالح الفصيل وليس للدفاع عن المصلحة الوطنية.
مبادرات للمناشدة بلا قدمين
إن الحوارات والمبادرات التي أطلقتها مراكز الأبحاث أو مؤسسات المجتمع المدني أو الفصائل أو الشخصيات المستقلة أو خليط منهما تكرر نفس أخطاء الحوار الرسمي؛ حيث ركزت تارة على إنهاء الانقسام أولًا، وتارة أخرى على إجراء الانتخابات أولًا، وتارة ثالثة على تشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني أولًا، أو على اختيار أو انتخاب المجلس الوطني أولًا، أو نفض اليد من كل ذلك.
كان يغلب على معظم هذه المبادرات المطالبة والمناشدة، مع أن بعضها تحدث عن الضغط المتواصل والمتراكم، وكأن المستفيدين من استمرار الانقسام سيتخلون عنه طواعية وليسوا مجبرين، فتبسيط الانقسام وتجاهل جذوره وأسبابه لا يساعد على إنهائه، فالانقسام أوجد بيئة وبنية اقتصادية سياسية اقتصادية ثقافية أمنية اجتماعية ليس من السهل التغلب عليها وإنجاز الوحدة من دون تفكيكها وبلورة بيئة وبنية مناقضة.
تغيير ميزان القوى
للتغلب على الوضع السيئ الذي نعيش فيه، يجب أن نعرف بأنه لا يوجد حتى الآن ميزان قوى قوي قادر على تغييره، وهذا يتطلب ليس اليأس والاستدارة ومشاركة العازفين بأن الانقسام وجد ليبقى ولا سبيل لإنهائه، بل العمل على أن يكون للمبادرات قدمان تسير عليها على الأرض حتى لا تبقى محلقة في السماء.
ولمن يطالب بإنهاء الانقسام أو إجراء الانتخابات أولًا، أو إجراء تغيير جوهري في الوضع السياسي الفلسطيني، عليه أن يعمل لتوفير ميزان القوى القادر على فرض ما يريد، ولن يمكن ذلك إذا حصر التركيز على نقطة واحدة، فهي تهم قطاعات، ويمكن الأغلبية، ولكن ليس إلى الدرجة التي تدفعهم إلى الانخراط في خلق الحقائق على الأرض التي تساهم في بلورة ميزان القوى المطلوب.
وإذا سلمنا جدلًا أن هناك إرادة شعبية كافية لفرض إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، ولو بالحد الأدنى أولًا، أو تشكيل الحكومة أولًا، أو إنهاء الانقسام أولًا، أو إجراء انتخابات المجلس الوطني أولًا، فلماذا نكتفي بتحقيق بند واحد، خصوصًا أن التجارب علمتنا أن أي تقدم في اتجاه بند وحده معرض للفشل كما حصل سابقًا، فكم دعوة أطلقت للانتخابات، لدرجة إصدار مراسيم في مواعيد محددة، وكذلك شكلت حكومة وحدة وحكومة وفاق وانهارتا.
ولمن يطالب بالثورة والإطاحة بما هو قائم، نقول له إن الثورة ليست على الأبواب، كما أن خصائص الوضع الفلسطيني تجعل إعطاء الأولوية للإطاحة أقصر طريق للحرب الأهلية، إضافة إلى أن الثورة ليست قائمة ولا ناضجة للقيام بالإطاحة. أما المقاومة فهي إحدى الإستراتيجيات الضرورية لمواجهة التحديات، وهي مستمرة، ولكنها وحدها من دون رؤية وإستراتيجية لا تقود إلى وحدة، ولا إلى تغيير، فهي محاصرة، وعلى الرغم من صمودها وبطولاتها فإنها من دون استثمار سياسي. فالمطلوب لكي يتم التغيير المطلوب وحدة، ولو بالحد الأدنى، في الفكر والبرامج والإرادة والعمل.
وإذا توفر ميزان القوى القادر على فرض الانتخابات على سبيل المثال، فلماذا يتم الاكتفاء بإجراء الانتخابات فقط، ولا تُربط بتغيير السلطة وتشكيل حكومة وحدة وبقية الرزمة، لا سيما أنها ستكون وحدها مهددة بالإفشال والتعطيل والتزوير في ظل الشيطنة المتبادلة والتحريض المتبادل، ووجود سلطة بكل أدواتها بيد فريق هنا وأخرى هناك، وكل واحدة منهما مستعدة لمنع سقوط الطرف الذي تنتمي إليه، كما أن الاحتلال يقف بالمرصاد لمنع انتخابات حرة، وإذا جرت وجاءت نتائجها في اتجاه لا يرضاه الاحتلال، فسيصادر نتائجها مثل سابقاتها؛ حيث تم اعتقال عشرات النواب، وتعطيل المجلس التشريعي. كما تم تشكيل “وطنيون لإنهاء الانقسام”، وأخذ يهتف الجميع هذا الهتاف الجميل ولم يتغير شيء.
ما الذي يميز مبادرة الإنقاذ؟
في هذا السياق، ولحل هذا اللغز، جاءت مبادرة الإنقاذ لتقدم رزمة شاملة تأخذ بمعالجة جذور وأسباب فشل المبادرات السابقة بالحسبان، وتتضمن ضرورة الاتفاق على البرنامج الوطني، والحكم الرشيد، والانتخابات، وإعادة بناء المنظمة، وتغيير السلطة.
أهم ما يميز المبادرة أنها واقعية وثورية في الوقت نفسه، وليست واقعية فقط، بعيدًا عن الخضوع للواقع أو القفز المغامر عنه، وتسعى للجمع ما بين المبادئ والمصالح وأخذ موازين القوى بالحسبان، وتهدف إلى تحقيق أقصى تغيير ممكن، وتتسع لكل من يوافق على خطوطها العامة، بما في ذلك المجموعة المتحكمة التي لن توافق طبعًا إلا بعد ضغط سياسي وجماهيري وكبير ومتصاعد؛ أي إنها لا تهدد بأخذ السلطة من أحد لصالح طرف آخر، ولا تسعى لأخذ حصة، بل تهدف إلى إقامة سلطة تشاركية يكون فيها مكان للجميع تعتمد على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية.
لماذا تملك المبادرة فرصة للنجاح
إن المأزق العميق المتفاقم للحركة التحررية الفلسطينية بمختلف مكوناتها الأساسية الوطنية والإسلامية والقومية واليسارية يهددها باستكمال انهيارها التام، فالمشروع الاستعماري الذي يستهدف الفلسطينيين لا يوفر المعتدلين والمتخاذلين، وحتى المتأسرلين، ويستهدف الوجود الفلسطيني كله بمختلف مكوناته.
كما لا يملك طرف وحده المخرج أو الحل على الرغم من كل العناد والمكابرة، فلا استقلال وطنيًا لا في الضفة ولا القطاع، ولا تنمية حقيقية ولا حكم رشيدًا في ظل الانقسام وتحت الاحتلال، ولا تطرح القوى النافذة سوى سياسة البقاء والانتظار، سواء بالضفة أو القطاع، على الرغم من التباينات في الظروف والدوافع والأهداف.
يكمن الأمل الوحيد لإحياء القضية الفلسطينية، ووقف انهيار الحركة الوطنية، في إنهاء الانقسام، ضمن سياق إعادة بناء الحركة الوطنية، وإحياء المشروع الوطني ومؤسسات المنظمة، وتغيير السلطة لتخدم مهمات التحرر الوطني الديمقراطي، وليس المراهنة على المجهول وعلى الغيبيات تارة، وإنكار الواقع تارة أخرى، وتصور أن ليس بالإمكان أبدع مما كان، أو لا طريق للنجاة إلا بوضع الرأس بين الرؤوس وجعلها تحت رحمة قطاع الرؤوس، وما يمكن أن يجود به من سلام اقتصادي مقابل تعاون أمني أو تهدئه، أو الرهان على استيقاظ المارد القومي أو الإسلامي أو الأممي وتغير النظام العالمي؛ أي الرهان على المتغيرات الإقليمية والدولية، وهو رهان لا معنى له، وخاسر لمن لا يكون مستعدًا للاستفادة من هذه المتغيرات إذا كانت إيجابية، ودرء مخاطرها وتقليل أضرارها إذا كانت سلبية.
مبادرة نخبوية تفتقد إلى البعد الشعبي
ما تقدم لا يجب أن يخفي أن مبادرة الإنقاذ الوطني مبادرةٌ لا تزال نخبوية تفتقد إلى البعد الشعبي والدعم العربي والإقليمي والدولي، ولكنها تلبي حاجة فلسطينية حيوية وملحة، وإذا استطاعت أن تثبت أنها جدية وقادرة على الإقلاع والتوجه إلى كل القطاعات والنقابات والأفراد من أصحاب المصلحة بالتغيير، وستجذب أفرادًا وقوى إلى جانبها، وستنجح، وإذا لم تستطع ستفشل، وستكون مبادرة جديدة تضاف إلى الأرشيف.
أي حتى تنجح المبادرة، لا بد من أن تكون كما تحدث مطلقوها ليست ملكية حصرية للموقعين عليها، ولا تطرح حلًا سحريًا كاملًا جاهزًا، وليست مقدسة، بل ستكون منفتحة على الآخرين والمبادرات الأخرى، ومفتوحة للتطوير في الأيام والشهور القادمة، خصوصًا عند عقد المؤتمر الشعبي الذي سيعقد على أساسها بعد ستة أشهر كما تعهد مطلقوها، وهنا الاختبار، وعند الامتحان يكرم الإنسان أو يهان.