ثعلبة.. وجوه في طريقي (4)

منى مصطفى | روائية وكاتبة تربوية مصرية

كنت أقتات على رسائل رضا ومكالماته الهاتفية، غير أنه في آخر شهرين لم يرسل أي رسالة فكدتُ أُجَن، وأَضرب بقيودي عُرض الحائط، وأسافر إليه مهما كانت النتائج، غير أن والدي أخبرني عندما سألته عن انقطاع رضا، قائلًا: لقد تم استدعاؤه للجيش ثلاثة أشهر، لا تَقلقي سينتهي بمجرد عودتك!

دخلت الريبة في نفسي، فلا أحد يُكلمني عنه، ولا مصدر للاطمئنان عليه، حتى هاتف بيتهم معطَّل، يومًا بعد يوم فقَد قلبي الأمان، كثُرت هواجسي، ترسَّخ في عقلي أن هناك أمرًا عظيمًا قد حدث والجميع يُخفيه عني، كنت لا أنام ليلًا ولا نهارًا، وكلما هتَف بي هاتف أنهم يكذبون، رددت بيتين لبهاء الزهير قائلة يا من أسمعت سارية الجبل صوت عمر رغم البعد فأسمعه صوتي حيث كان: سلوا دمعَ عيني عن أحاديث لوعتي *** لتُعرِب عن تلك الشئون شؤوني

حلفتُ لكم ألا أخونَ عهودَكم ^^^وأعطيتكم عند اليمين يميني

ثم تنهشني الأسئلة والشكوك: أين عساه أن يكون؟!‘هل نسيني؟ هل أحب غيري….

كل خاطر ممكن أن يخطر على قلب إنسان قد خطر لي على بال، كنت أتصور أنه لو مات، فسأَدفن نفسي معه، ولو كان مريضًا فسأعيش تحت قدميه أو أَفديه بروحي، كل خاطر طرق باب عقلي إلا الحقيقة لم تخطر لي على بالٍ؛ لأنها من تدبير وتنفيذ الجن لا البشر!!

بقيتُ أُصبِّر نفسي بأنه في الجيش فعلًا، وأطرد وساوسي، وأُغلق قلبي على أحزاني، فلا أهل هنا ولا صديقات، وغالبًا كل إنسان لاهٍ بنفسه، لا أحد يسمع لأحد، وكعادتي منذ جئت كل مبلغ – صغيرًا كان أو كبيرًا – أُحوِّله إلى والدي؛ حتى يرضى، ويجهز لزواجي الذي سيكون عند عودتي إلى مصر كما كان الاتفاق، وفي آخر شهرين من العام اشتريتُ قليلًا من الذهب للزينة، وبعض احتياجاتي التكميلية للزواج.

عدت للسكن بعد آخر يوم في العمل وأنا أحلم بلقائهم غدا، وكنت أدعو الله أن يكون رضا حبيبي هو أول مَن تقع عليه عيناي عندما أصِل مصرَ، ولكن لم يكن ذلك، وجدتُ أبي وحده، جاءني يستقبلني مع أُختَيَّ، كان لقاءً كما كان الوداع، بقينا نبكي من المطار حتى وصولنا البيت، أتحسَّسهم ويتحسَّسونني، وكأني في حُلمٍ أستعيد به الأمان بقُربهم، وصلت البيت أَركُض وأنادي على أمي؛ لأرتمي في حضنها؛ حتى أُصدق فعلًا أنني عدت، بدأ قلبي يستعيد الحياة، أخذت أشلاء رُوحي تترمَّم، غير أن هناك سؤالًا على لساني، والكل ينتظر أن أسأله ويهربون أيضًا مني حتى لا أسأله، لم أُطِق انتظارًا، أين زوجي يا أمي؟! صمتت وتكثَّفت دموعها، ارتَجف قلبي، أبهِ شيءٌ؟! صارحوني أرجوكم!

احتَضنتْني أختي وهي صامتة، ثم قال والدي: ليس لك زوج، سيَرزقك الله أحسنَ منه، لا تَحزني! ماذا حدث يا أبي؟! لا أريد أحسن منه، أريده هو، أين رضا يا أبي؟! هل أصابه شيء؟!

الجميع في صمت، منهم من يبكي بعيونه، ومنهم من يبكي بقلبه، غير أنهم لا يتكلمون، أخذني أبي إلى غرفته، وقال: لقد اكتشفنا مَعدنه السيئ بعد أشهرٍ من سفرك؛ حيث جاء يطلب مني أن يقاسمني المال الذي تُرسلينه إليّ، يقول: أنا زوجها شرعًا ولي حقٌّ في هذا المال، حاولت إقناعه أن هذا المال كله سيعود إلى بيته ومعه أنتِ؛ حيث إنني أُجهزك به له، فلم يقتنع ووصل الأمر أن هدَّدني وأساء الأدب معي!

ركَعتُ على رُكبتي، ونزَلت على يد أبي أُقبلها وأعتذر له، متوسِّلة إليه بصوت لا أعرف إن صدر عن حياة أم صدر عن موت: سامِحه يا أبي لأجلي، لا أريد شيئًا من هذا المال، أريد فقط زوجي، أتذلل لك يا أبي سامِحه، هو أخلاقه عالية وحتمًا هناك مَن أوقعه في هذا الفخ، حتى لو فعل فاعْذِره يا أبي، النفس البشرية لا تَسلَم مِن طمعٍ، وكثير ما يَجذبها الطينُ الذي خُلِقت منه، إلا أن رُوح رضا نقيَّة وتستعيد نورها سريعًا، أرجوك سامحه!

في كلمة واحدة حسَم أبي الموقف، نقلَني بهذه الكلمة من الأحياء إلى الأموات، آخر ما سمعته: لقد طلَّقتُك منه وتزوَّج بأخرى، وانتهى مِن سِجِلِّ حياتنا!

لم أستفِق بعد هذا الخبر إلا في المشفى وبجواري أمي، لم أعرفها إلا من صوتها، فقد تبدل حالها حزنًا علي، مع الوقت تماثلت للشفاء، وقبل أن أعود إلى بيتنا أصررت أن أذهب إلى بيت رضا، هناك شيء في قلبي لم يُصدق كل هذا، لا أريد أن أُسلم بسذاجة تقديري لشخصه، رضا إنسان نبيل، ألهذا الحد أنا غبية في تقييم الناس؟! وإن قصَر عقلي عن تقييمه أيَقصُر قلبي كذلك؟!

قلما يخيب حدسُ المرأة فيمن تُسلمه قلبها، ربما يَخيب في حسابات الدنيا، لكنه على الأرجح لا يخيب في حسابات القلوب، عرَضت الفكرة على أمي، فكانت بين نارين؛ لا تريد أن تعيدني إلى غيبوبتي برفضها، ولا تريد لي مواجهته كذلك، تأكدتْ لي شكوكي، طلبت من أختي أن تَصحبني إلى بيته، قالت لي: هل تحتملين الذهاب إلى بيته وتقابلين زوجته، قلت: لن أواجه ما هو أصعب مما واجهت، اذهبي بي إلى هناك، وبالفعل ذهبنا!

فتحت لنا الباب زوجته، إني أعرفها، إنها إحدى قريباته، طأطأت الرأس، وسمحت لنا بالدخول مرددة في أسف وتعاطف: الحمد لله على سلامتك، تعجبت من أسلوبها، لا يبدو أبدًا أنهم جنوا علي، تتعامل معي برفق غير متوقع، جاء رضا، فانسحبتْ هي وتركتنا معه، ذهب الكلام وتحوَّل لساني إلى مُضغةٍ، نابت عنه الدموع، تَحشرج صوتي وزاغ بصري، أكاد أرى كل شيء ضبابي بلا لون، ابتلع غُصته هو أيضًا وقال في صوت مقتول ألَمًا: الحمد لله على سلامتك يا سعيدة، متى وصلتِ؟

أجابت أختي: اقتربت من أسبوعين، ولكنها عندما صُدمت بخبر زواجك نُقِلت إلى المشفى، وها هي قد أصرَّت أن تخرج من المشفى إلى بيتك، لا أعرف ماذا تريد!

كل هذا ولم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة، حاولت كثيرًا أن أسأله ما الذي حدث؟! لكني حقًّا عجَزت! ولكنه فهِم من دموعي، فتطوع قائلًا: لا أعلم ما الذي وصلك وأنت لا تتحدثين؟! لكني سأُجيبك على كل ما يدور في عقلك، ولا أعلم إن كانت أختك هذه تعلم الحقيقة أم لا؟! فهي تعتبر زواجي كان قراري أنا وهو السبب فيما وصلت إليه الآن، لكني سأترك زوجتي هي مَن تخبركما بالحقيقة، نادى بصوت مرتفع: أماني، احضري معنا قليلًا لو سمحتِ!

أتت أماني وجلستْ في مواجهتي، وقالت: تعلمين أن رضا مِن أقاربي، وقد عشنا معه الأحداث خُطوةً خطوةً، فقد كان في مثل حالتك الآن، أوشك على الهلاك، ولم يتبقَّ منه سوى شبح ماتت رُوحه، لكنه لا يَملِك إفناء جسده، نظرتُ إليها بتعجُّب، وكأنما أردت أن أتبعها بحدقة عيني، أردفتْ قائلةً: جاءت لنا ذات يوم خالتي أم رضا تشكو وتبكي أن ابنها أوشك على الهلاك، لا يعرف كيف يتعامل مع والدك الذي هدَّده بالسجن إن لم يستجب لمطالبه، قال له: سأشكوك بعقد الزواج والمحكمة ستحكم لابنتي بكل ما اتفقنا عليه من ماديات، هذا غير النفقة ومؤخر الصداق، إن أردت أن تتجنب هذا كله، فطلِّقها فورًا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى