أيامُ الحارة

عمر حميش | قاص فلسطيني

كان زعيم شلتنا القادر أن يتركنا مبهورين ..

من كان ينازعُ عبد المنعم؟

يسوسنا؛ فنترك مقاعد الدرس، وجحيمَ عصا معلم الحساب!

نصيرُ على خطّ الحدود .. يشيرُ مثلُ واعظٍ إلى البنايات في السهول المترامية .. يقولُ:

تلك بلادنا ..

نغرقُ في الحلم .. نغرقُ، نغرق؛ إلى أن توقظنا عرباتُ الدوليين .. نرى ذوي العيون الزرقاء؛ يبتسمون، وهم يلقون إلى الإسفلتِ أعقاب سجائر تبغهم المستوردة .. نلاحقُ شراراتها، ثمَّ نبدأ بالشهيق ..وننفثُ الدخان كما يفعلُ الكبار.

يسوسنا عبد المنعم إلى موقع القمامة .. نجمعُ علب التَّلة الفارغة كلّها، وأغطيّتها، ثمَّ نعود .. وفي الحارةِ نرقبُ يد عبد المنعم، وهي تصنعُ عرباتنا المنتظرة ..

وعبد المنعم كان القادرَ أن يمنحنا الشلنات .. يستخرجُها من جيبِه الدقيق الذي تحت الحزام، ثمَّ يوزعنا بها على حوانيت ذوي النظر الخفيف .. نخطو بشلنات المعدنِ متباعدين .. نشتري أيَّ شيء .. سجائر .. حلوى .. لا يهمّ .. كان المهم قبضَ الفكّةَ المتبقية … يوما قرر أن يكشفَ لي سرّه .. أخذني، وصنع أمامي المعجزة .. أخرج التعريفة الصفراء من جيب سرواله المرقّع، ثمَّ أسقطها في طبق التوتياء .. مشى إلى خزانة أمه ذات الباب المخلوع، وجاء منها بزجاجةٍ، ثمّ مثل عالمٍ سكب السائل .. عندها رأيت التعريفة، وهي تغلي، ثمَّ تصير شلنا أبيض ..

همس عبد المنعم، وهو بإصبعه يشيرُ، كمن يوّرث سرّه: ماء نار.

رأسي الدائخُ اهتزَّ .. أومأ رأسي كرأسِ تلميذٍ فاهم ..

في نهارٍ مرّت زينبُ، وعبد المنعم قال: كبرت زينب.

رأيتُه يدقق في الصدر العالي، وعندما مضتْ؛ قلّد بخترة مشيتها ..

في المساء جاءنا يجرُّ بوصة .. سار إلى آخر الزقاق، فتبعناه .. قال: نجلس.

ارتمينا على التراب تحت القمر، ولمّا علا شخيرٌ؛ قال: الآن.

مسح المحيط بعينيه، ثمَّ امتطى الجدار الواطئ .. سحب البوصة، وتباعد الجمعُ .. عزمتُ أنْ أرى؛ فصعدتُ حجرا، ثمًّ قفزتُ؛ حتى جاورتُه .. رأيت عنب عريشة الدار تدلّى؛ وقد لمع كما الذهب فوق أجسادِ النائمين .. البوصةُ مشت  .. في يد عبد المنعم طرفها .. وطرفها الآخر حام هناك .. رأيت جسد زينب.

صحتُ: لا!

قال: سأوقظها.

قلتُ : يا مجنون!

حاولت أن أمسك يده؛ لكنَّ البوصةَ مضت، لكز زينب في خاصرتها؛ فهبّت ممسوسة .. هويتُ أنا إلى التراب .. جريتُ، يتبعني ضَحكُ عبد المنعم، وصياحُه: يا جبان.

عبد المنعم الآن جاري .. أرقبُه وهو يتكوّمُ على حصيرة بابه .. أنفه خرطوم .. وعيناهُ ثقيلتان، يفتحهما؛ ليغلقهما .. أراهُ شيطانا قدمَ من منجم ..

أتمتم : أهذا عبد المنعم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى