كهف كاميليا.. المدينة الحجرية تترنح من الرقص يا “قطمير”
أ.د. كاميليا عبد الفتاح | الإسكندرية
“يمليخا”، أحدُ الفِتية في مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، و أولُ من اكتشف الهوة بين الزمن الذي ينتسب إليه والزمن الذي استيقظَ فيه – مع رفيقيه – من الرقاد في الكهف.. تجوَّل يمليخا في مدينة “طرسوس”، وأنكرَ كل مارأى: الشوارع ، والناس، الثياب، الأطعمة، فأدرك الحقيقة، وهُرع إلى رفيقه: مشلينيا، و مرنوش.
وفي حوار مكثفٍ قوي الدلالة – دار بين الطرفين، طرح توفيق الحكيم شعور “يميليخا” بالاغتراب، الوحشة من الزمن الجديد الذي فوجئ به بعد خروجه من الكهف، وغير ذلك من دلالاتٍ تعلقت برؤية توفيق الحكيم الفلسفية لإشكالية الزمن.
يقول “يمليخا ” لرفيقيه:
_ أنتما البقية الباقية بعد أن مضى كل شيءٍ كحلم، وانطفأتْ عصورٌ وأجيالٌ في شبه ليلة واحدة.. لو رأيتماني وقد أحاطت بي ناسٌ في ثيابٍ غريبةٍ وعلى وجوههم ملامحٌ عجيبة وهم ينظرون إليَّ نظراتٍ كاد قلبي ينخلعُ منها. وكأنهم يتفحصون أمري تفحصَ من يحسبني من عالم الجنّ.. ألفيتُ كلبي قطميرا كذلك قد أحاطت به كلابُ المدينة وطفقت ترمُقه وتشمّه كأنه حيوانٌ عجيبٌ ، وهو يحاول الخلاص من خناقها ..”
أمّا أنا، فكثيرا ما أتساءلُ مُحدّقةً في صورتي في المرآة: أو مرّتْ عدةُ قرونٍ على رقادي في كهفي ؟ هل هرولتْ فوق صباي وشبابي عصورٌ وحقبٍ دون أن أشعر ؟! مالي أُنكر أشياء كثيرة – تفوق تلك التي أتقبّلها – هل تقدمتُ في العمر إلى هذا الحد ، أمّ أنّها مدينتي : اندثرت أثناء رقادي ، وأنا أتجول في أخرى، أُنكرها، وتُنكرُني؟! وهل تحتمل الروحُ هذا التوزّعَ بين مدينتين، إحداهُما حُلمية، والأخرى كابوسية ؟!
آنستني – في طريقي إلى الكهف – رائحةَ قماش المريلة، والبذلة الجَبردين – و السموكن – في المرحلة الإعدادية والثانوية – والزحام في محلات الخياطين، والهرولة إلى “زنقة الستات” لعمل (العَراوي)، وشراء الحذاء الجلدي الأسود والحقيبة، وحذاء الألعاب، والشراب الأبيض والفيونكات البيضاء، والمناديل القماشية المُطرزة، والسهر عند المكوجي، التهنئة بالعام الدراسي الجديد تنطلق من مذياع كل مقهى وبيت. يزفُّنا إلى المدرسة شعور بالزهو والأهمية. كيف لا ، ونحن نشرب الشاي باللبن ونشرب – دون أن ندري – عشقَ مصر من شدو نجاح سلّام، وشدو جيلها العظيم – موهبة ورسالة – :
إنتي بلادي الجميلة / حصن السلام والأمان
وانتي الحضارة الأصيلة / قبل التاريخ والزمان
نعيش لمصر / ونموت لمصر م يا أغلى اسم في الوجود يامصر .!
يصحبناو صوت سعاد مكاوي على مدار الطريق :
على مدارسكو / المولى حارسكو / بنات وبنين
إنتو عمادنا / وكنز بلادنا / ونور العين . !
طابور الصباح، تحية العلم: أصواتنا تهدر، كتبٌ في أيدينا وسبورة وطبشور، وقلمٌ أزرق وواجب مدرسيٌ- والقلم الأحمر في يد المُدرس أعنفُ من العصا – ومجلس آباء ، وأنشطة ، وحصة تطبيق، ومسابقات بين المدارس ، وسانويتش – فلافل وفول وجبنة رومي – في الفسحة ، وعم محمد في جنينة المدرسة .
* الطبقة متوسطة، ورواتب الآباء متواضعة ، لكن أبي يشتري لنا الجرائد القومية الثلاث كل يوم ، وجريدة الشرق الأوسط، و”الحياة”، ومجلة ميكي وسمير كل أسبوع، ومجلة حواء وروز اليوسف وآخر ساعة والإذاعة والتليفزيون كل شهر – وطبيبك الخاص التي كنا نخجل منها – و مجلة الشعر وإبداع و “العربي” و…. ، أما الروايات العالمية وروايات نجيب محفوظ وإدريس و…، فهي مفاجأة كل نزهة على البحر في محطة الرمل، مع الآيس كريم والفيشار وصيحات النوارس .
* حين تمددتُ على أرض الكهف الصخرية الحانية، تراءتْ لي – على جداره – قاماتُ – كثير من – أساتذتي في الجامعة، مكتبة البلدية، دور النشر الكبرى التي تربينا على إصداراتها ، الإعلام، الأفلام، برامج التذوق الموسيقي، والسينمائي، والأدبي.
استعصى عليّ النوم، فدقاتُ أكف جيراني تتواصل، لا على باب الكهف، بل على باب بيتنا القديم: بطبق شهي، وزيارة دافئة، وسؤال ملهوف، ودعوة للمشاركة في صنع كعك العيد وعمل البسكويت بالماكينة المُثبتة على الطبلية الخشبية. أصواتُ الرجال – والشبان – صاخبة، وهم يكنسون شارعنا الطويل معا: الموظف والصحفي والمهندس والمدير العام وخطيب الجمعة والميكانيكي..، لا يجلسون على مقاعدهم قبل أن يرش كلٌّ منهم الماء أمام بيته، تصطف مقاعدهم، تعلو أصواتهم بما يقرأون من الصحف، ممتزجة بصوت أكواب الشاي وتقليب الملاعق، وصوت محمد عبد المطلب يدندن:
يا اهل المحبة /إدُّوني حبّة/ من سعدكم
أسعد فؤادي / و ابلغ مرادي يوم زيّكم
يا اهل المحبة ..المحبة ..إدوني حبّة
مشلينيا، مرنوش:
كلما خطوتُ خارج كهفي، أحاطت بي وجوه غريبة تتفحصني في دهشة، ناس لا تحمل بين أكفها كتابا، ولا طبقا شهيا للجار، ناسٌ لا ترفع صوتها بتحية العلم، لا تخفض رأسها حين تمر الجارة، أو يتكلم شيخٌ كبير، وبعضُها لا ينصت عند قراءة القرآن. يحيط بي غرباء يتقافزون كالقرود – شبه عرايا – في الأفراح، وعلى خشب المسارح، وما يسمونه بالحفلات الغنائية – ومواقع التواصل – المدينة اكتظّت يا “مشلينا” بعدد كبيرٍ من النساء العرايا، وكل منهن تتأبطُ بعلا يتبختر بها أمام المقاهي مزهوا بعُريّها. كثير من شباب المدينة لا يعرف القراءة رغم مهارته في التكنولوجيا..، كثير من الفتيات يرقصن في كل مناسبة، على الرغم من عجزهن عن تذوق روائع الموسيقى. المدينة الحجرية تترنح من الرقص يا “قطمير”، وتواصل تمزيق ما بقي من ملابسها في غير حياء.. البناياتُ الإسمنتية تتعملقُ وتلتهمُ زرقة البحر وخضرة الحقول، وأرجوانية الشمس، وتلألؤ القمر.. البنايات الإسمنتية حجبتْ عن أعيننا وثبةَ الطفل واحدودبَ العجوز يا “قطمير” ..! “