سرديات الخراب وانقلاب القيم.. النزعة التسجيلية في رواية (غرابيل) لأبي عراق علي نكيل

د. سمير الخليل

تضعنا رواية (غرابيل) لأبي عراق (علي نكيل) الصادرة عن دار الرفاه للنشر- بغداد، 2021 إزاء واقع مأزوم ومحاصر بكابوسية الحرب والقمع والاعتقال وأجواء الخراب والتشظي وانقلاب الموازين، ويظل هذا الهاجس كبؤرة مركزية لكل الفضاء السردي ومكابدة الشخصيّات وتراكم الهم الاجتماعي وهيمنة منظومة القبح بكل أشكاله وسحق الإنسان وتلبّد الأزمات التي تحاصر الجميع وبذا فإن الروائي (أبو عراق) قد سعى منذ ارهاصات سرديّته إلى الاشتباك مع الواقع وتصويره تصويراً واقعياً مؤطّراً بعفوية دالّة وبنزعة تسجيلية، وتعدّ هذه الرواية أنموذجاتً من الروايات التي تمزج الواقع بالرؤية الكابوسية وتمزج الواقع بالحلم وتعقد مقاربة تجسيديّة للحرب داخل الإنسان ولم تصوّر الحرب بصورة الخنادق والسواتر، بل ترصد تأثيرها العميق وتأثيراتها المقيتة في الإنسان وقمع أحلامه ومسخه واغتيال كينونته وتحويله إلى حقل لتجارب العنف والقبح والنكوص بكلّ صوره وضياع الحقيقة وهيمنة المجهول على مجمل الحياة، ولم يسع الروائي إلى نمط من الروايات التاريخية المحضة، بل زاوج عدّة اساليب ومستويات ليصل إلى نص روائي عميق ودال وفق مزاوجة ذكية لرصد هذا الكم من الحطام والعدمية وسادية السلطة وهمجية الحرب. ولا يمكن إغفال قدرة الكاتب على التصوير الواقعي وتوثيق مرحلة تاريخية وسياسية من تاريخ العراق وتحديداً العقد التسعيني من القرن الماضي الذي شهد ذروة الخراب والتأزم والتشظّي واختيار هذه المرحلة ينطوي على دلالات ومقاربات وقصدية في وعي الرصد التاريخي فذلك العقد يختزل (التراجيديا) العراقية ويفضح هوس السلطة ونزوعها العبثي في تدمير كلّ شيء وغياب أي ملمح للعقلانية ووجود رؤية إنسانية للحفاظ على الإنسان والأرض وإشاعة القيم الحقيقية.
إنّ رواية (غرابيل) هي فضح وتعرية نظام استبدادي استغرق في التوغل في ظلامية غرائبية وكأنه انتحار قصدي، والتسعينات تمثّل دالّة ومساحة تجمع بين التراجيديا والفانتازيا.. فما زال الإنسان والوطن يحاول التخلص من آثار وفجائع حرب الثماني سنوات وإذا الجنون الدكتاتوري يقرر في ليلة دامسة الظلام للولوج في مغامرة الكويت وبكل إصرار قروي لتبدأ مرحلة هي من أشد المراحل قسوة وعدميّة فلقد اقترن العنف بالضياع والجوع وانطفاء الحياة وتوقف كل أشكال التنامي وموت الأحلام وتفكّك أبنيّة السيوسيولوجية وتوزع الناس بين نفي داخلي ونفي خارجي… وحرب مزدوجة ضدّ الداخل والخارج.. هذه (البانوراما) الغرائبية جعلت الكاتب يختار هذا العقد الزمني (السوداوي) والغارق في أزمات ليس من السهل تجاوزها أو مقاومتها، واستطاع الكاتب من رصد كل تفاصيل هذا الخراب وانهيار النسيج الاجتماعي وتحوّل الحياة إلى مواجهة مع المجهول وتشظّي كلّ شيء. مزيّة هذه الرواية بهذا الزخم العفوي والتسجيلي – الواقعي – جسّدت الكثير من الوقائع الفجائعية ونظراً لتوغلّها في المفارقة فقد تحوّلت إلى حكايات فانتازية تثير الأسى والدهشة لما تفعله الحرب والقمع وجنون السلطة من فظاعات تفرز واقعاً غرائبياً تجمع بين المكابدة ومشاهد تفتقد إلى المنطق تماماً.
يضعنا استهلال الرواية إزاء لحظة مأزومة وبداية مباشرة لتصوير الإنسان أو البطل الرئيسي وقد وضع تحت مراقبة السلطة وأجهزتها الأمنيّة وهو لا يملك سوى مكتبة لبيع الكتب في منطقة العشار في مدينة البصرة وتنضوي مهنة بيع الكتب ووجود المكتبة على رمزيّة ثقافية وإنسانيّة لاسيما وإن المكتبة تشهد تجمّع المثقفين من الكتّاب والشعراء والنقاد وهم يلتقون فيها ويعقدون الجلسات لمناقشة الكثير من أمور الفكر والواقع السياسي آنذاك وهذه الفرضيّة بكلّ زخمها الواقعي ورمزيتها تضعنا إزاء ثنائية الصراع بين المثقف والسلطة بين المعرفة والنزوع الاستبدادي بين الوعي وبين التوجّه السلطوي… بكلّ أشكاله البغيضة من قمع ومراقبة والسير بالوضع نحو كوابيس تاريخية ومأساة مركبة قلما شهد التاريخ لها مثيلاً.
ويمثّل بطل الرواية أو الشخصيّة المحورية أنموذجاً للمثقف المستهدف من قبل السلطات القمعية دون غيره وهذا يعكس التصوّر الذي يسكن عقول المتسلطين وتطيرّهم من طبقة (الإنتلجنسيا)، طبقة المفكرين والمثقفين التي تشكّل هاجساً مخيفاً لكلّ سلطات الإنفراد والتضخّم التسلّطي عبر التاريخ، “لم يستمر طويلاً لتتحقق مخاوفي، كنت على يقين أن دائرة الأمن أو منظمة الحزب سينتبهان إلى تردد الكثير من مثقفي البصرة على مكتبتي في مركز المدينة، وسيعتبران الأمر مهدّداً بكلّ تأكيد ويطالباني بتوضيح الامر إذا لم يقوما باعتقالي، فليس من المعقول أن يتغاضيا عن تجمّع لرجال فكر وأدب وفن بشكل متكرر وهم في أغلبهم من المشتغلين بالصحف والمجلاّت ويصدّرون كتباً أدبية في الغالب وفي اختصاصات أخرى، فهم قادة رأي ولهم تأثير واسع في الناس وتحديداً الشباب منهم، الذي يجعلهم في دائرة التأثير فهم في أغلبهم من التنويريين والديمقراطيين والكثير منهم قد اعتقل في أوقات سابقة” (الرواية: 4).
ينتظم السرد في الرواية منذ هذا الاستهلال وحتّى نهايتها على السرد الذاتي المتمثل (بضمير المتكلم) الذي يمثّل الشخصيّة الرئيسة وهو أديب وشاعر ومحور الجلسات والعلاقات القائمة على الوعي وهذه الشخصيّة المزدوجة سردياً هي الشخصية المهيمنة وهو السارد والمشارك في الحدث في الوقت ذاته ويقوم بتقديم الشخصيات عبر الرصد والإستذكار والتوثيق وقد منحت الرواية بعداً سيرياً واقعياً ومقاربة من الخطاب الإعترافي والبوح (السايكولوجي) القائم على الدّقة والمراقبة وسرد الوقائع ومتابعة سير الآخرين، ولذا نجد المفارقة السردية أو الترتيب الزمني في الرواية يقوم على تقنية الاسترجاع والاستشراف وفق مزج بين الماضي والحاضر أو اسلوب التتابع والتراتب ومزج الأزمنة وكأنّ الراوي يضع ذاكرته كبؤرة سردية لمتابعة ورصد كلّ شيء مما يحدث في الواقع المتكلس المليء بالأحزان والإحباطات والنكسات وما ينتج عن ذلك من توثيق لمشكلات حقيقية، “وتطرح الممارسة الروائية الكثير من المشكلات وإذا كان هذا الالتزام على مستوى الكتابة الروائية، وإنما تطرحه من مشكلات، يتم بنزاهة كافية، وبحرية غير مشروطة فيكون التزاماً يشمل كل أنواع الالتزام الممكنة، بحيث يستطيع عالم النفس أو الفيلسوف في اتخاذ الرواية حقلاً لأبحاثهما، مثلما يستطيع السياسي بالمعنى العام للكلمة، أي الذي يهتم بحياة المدينة أن يعثر فيها على مواقف تؤيد تحليلاته”( ). أي أن الرواية الواقعية والحقيقية تمثّل مرجعاً تحليلياً للواقع عبر تصوره وتتماهى معه إلى حد الإستغراق في التفاصيل المجهرية التي تمثّل النسخ الداخلي الذي يسكن الحياة بكلّ تجلياتها الظاهرة والكامنة وتزداد الحقيقة سطوعاً والوعي رفاهة حين تكون المرحلة التي تسعى الرواية الاشتباك معها مرحلة مكتظّة بالخراب والوجع والنفي اللاإنساني بكل صوره الإستلابية المتوحشة، ما جعل هذه الرواية تحتل مساحة من التميّز والاستثناء كونها تضمنت أكثر من مستوى ولم تتصف بسعي أو مقاربة أحاديّة فهي رواية حرب ورواية واقع وفيها اشتغال واقعي – تسجيلي – ورصد (سايكولوجي)، وهي تمزج بين الحدث والأفكار… وتقدّم تأملاً للشخصيّات والأحداث وما يسود المجتمع من فكر وتأمل لاسيما وإن أغلب شخصيات الرواية تنتمي إلى طبقة المثقفين إلى جانب شخصيّات واقعيّة يمكن تسميتها بالشخصيات الشعبية المسحوقة المهمشة ولكن تمتّعت بدور مؤثر في نسج احداث الرواية كشخصيّات: (سكينة) و(سامية) و(رياض) وغيرها… وكل الشخصيّات تتعرض لهذا الهاجس (العدمي) للسلطة وسيرتها المضطربة وهي تسعى إلى واقع سادي يكتنفه الغموض والموت، “طبول الحرب تتسارع ويرتفع ضجيجها، الحياة تزداد تعقيداً وتشنجّاً يبدو ذلك واضحاً على حركة الناس ووجوهم وهروع البعض من أصحاب الدخول العالية للتزود بالمؤن والوقود وحتّى الماء، التصريحات المهددة تزداد سخونة وحركة الجيوش تسمع عن بعد، والخطابات الحماسية تترى ولا تتوقف أبداً والتلفاز لا يكفّ عن بث صور الرئيس وهو يزور الوحدات العسكرية ويتحدث عن الصمود وهزيمة أميركا والحلفاء. مع كلّ هذا كان البؤس والفاقة يتجولان في كل دروب الوطن بحريّة تامة”. (الرواية: 26).
هذه المفارقة التراجيدية التي توثّق هوس السلطة وطبول الحرب وانتكاس حياة الناس وتحوّلهم إلى الاستجداء بكلّ صوره استجداء الرغيف واستجداء الأمن واستجداء الأحلام التي تهددّها سرفات الدبابات والبيانات العسكرية والتهام مواليد السُوق العسكري، فالعقد التسعيني لم يكن عقداً عادياً فهو يجمع بين الحرب بشكلها العسكري (الميداني)، وبين حدوث مجاعة الحصار مما جعل الرواية توثّق حالة البؤس واضطرار الناس إلى بيع شبابيك وأبواب بيوتهم لكي يحصلوا على لقمة أو سدّ رمق يجعلهم يواصلون الحياة ويبقون على قيد الوجود. ومن الممكن القول إنّ توثيق هذه الصوّر والتفاصيل هي ما تميّزت به هذه الرواية.
يزداد القمع والعنف الحقيقي والرمزي في محاولة لمسخ الإنسان وزج الواقع في أتون العدمية المطلقة النابعة من السلطة الانفرادية المطلقة، “وقد تصوّر بورديو بأن كل أشكال العنف الرمزي مرتبطة بالدولة فليس من الضروري أن تكون كل أشكال السلطة الرمزية متصلة هي الأخرى بالدولة، فهناك أطر من السلطة بعيدة عن هيمنة الدولة وتأخذ آفاقها طبقاً لاشتراطات اجتماعية تتعلق بالدور والمركز الاجتماعيين وأخرى نفسية تبعاً لشخصية الخاضع ومن يخضع له”( )، وفي المجتمعات التي تنعدم فيها الدولة بشكلها الحقيقي يكون الفضاء مهيئاً لبروز سلطة الزعيم الأوحد. ويرصد الكاتب عبر الراوي الرئيسي والمحوري حركة الناس وحركة الاعتقالات وصور الموت التي تنتشر في كل مكان وعلى الرغم من أن المكان المركزي في الرواية هو مدينة البصرة غير أن السارد يذكر الكثير من الأخبار والتصورات والأحداث التي تتحدث عن كلّ المدن والقرى من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال فالوطن أصبح مساحة مملوكة السلطة المنفردة بكلّ القرارات وهي معزولة بطبيعة الحال عن الناس. أو قد عزل الناس عنها.
نلحظ مفارقات الرواية وتجلياتها الواقعية والتسجيلية أنها تسرد وقائع حقيقية قد شهدها المجتمع البصري إبّان القمع والذروة المأساوية التسعينية وذلك ما يتعلق بمقتل الشاعر البصري المعروف (محمود البريكان) فقد وثّقت الرواية حكاية مقتله وإن لم تذكره بالاسم، “كان لا يملك إلاّ قوته اليومي، ما وجّه أصابع الاتهام واعتقال جماعة من معارفه، بسبب حرصه الشديد الذي كان يحيط به نفسه. على نحو مفرط، وكما أشارت التحقيقات أن الذين تورطوا بقتله هم من الدائرة القريبة منه، كان حدثاً مأساوياً بحق اهتزت له فرائص المدينة وبقتله ازداد عدم الشعور بالامان”. (الرواية: 195)، وكانت مقدمات الحادث “أن خبر مقتل أحد كبار شعراء المدينة غدراً، من الأخبار التي تتفاعل في الواجهة إذ دخل بيته أفراد عصابة من أقاربه ومزقوا جسده النحيل الواهن بثماني عشرة طعنة للحصول على ما وصله من أموال قبل أيام من الحادث وعلمهم بنيّته لشراء بيت وكان المبلغ مرسلاً إليه من أحد اقاربه في السعودية”. (الرواية: 18)، وتوثيق قصة الشاعر الذي اغتيل بهذه الطريقة تكشف عن الواقع الملتبس والضبابي الذي أصاب الحياة وفكك قيمها وبهذه الصورة المروعة ومقتل شاعر لا يجيد سوى مهنة القصيدة يقدّم صورة صادمة لمجتمع فقد كل منظومته القيمية والإنسانية والرواية وفق توّجهاتها الواقعيّة فإنّها تتوغل بذكر التفاصيل الصادمة.
وترصد الرواية تفاصيل وتراجيديا الاغتراب والخراب نتيجة محاصرة الإنسان بالحروب والجوع والفقر ونفي الذات ويكون الاغتراب عن الذات وعن المجتمع وتأتي افرازات هذا الاغتراب على شكل بحث محموم للبحث عن الذات أو البحث عن البقاء ولذا نجد أن الشخصيات كلّها شخصيات متشبثة بالحياة وبأي طريقة فهناك من ينتفض وهناك من يرحل وهناك من يسجن وهناك من يتحول إلى قربان وهناك من يسلك سلوكاً غريباً ليحتال على نفسه وعلى الحياة، “ينشأ الاغتراب في صراعات الوعي (العبودي) فالوعي يسعى إلى الحرية، وهذا السعي ينتقل إلى الصراع إلى التناقض، وفي هذا الخضم من المتناقضات تظهر تطلعات حماسية ومعاناة عميقة وانفعالات مضنية”( ).
وهناك من يعبّر عن احتقاره لكل ما يجري بأسلوب التهكم والسخرية والتعمق بالوعي وقد رصد الكاتب سيرة حياة القاص (محمود عبد الوهاب) من دون أن يذكره بالاسم – فكان موقفه هو موقف المثقّف من سلطة الاستبداد ومحاولة الاستهانة بالسلطة عبر السخرية والتعمّق المعرفي وهو الاحتجاج الثقافي ضدّ السلطة التي تتصف بالجهل والتفاهة والقمع، والتمركز حول العنف والعبث وانعدام العقلانية وتحويل المكتبة إلى (وكر ثقافي) على حد تعبير رجال الأمن، ويصف الكاتب سيرة (محمود عبد الوهاب) بقوله: “صديقي القاص الشيخ الوسيم وهو يحث خطاه المتعبة نحو المكتبة ويبتسم كعادته، رجل في الثمانين، خفيف الظل، أبيض البشرة لم تستطع سنينه الثمانون من القضاء على وسامته العثمانية، كان يهتم كثيراً باناقته على الرغم من كونه يعيش وحيداً، فهو غير متزوج قطعاً وشقيقته التي كانت تسكن معه توفيت قبل سنتين وهي الأخرى ماتت من دون أن تتزوج اقترب كثيراً منّي وتحوّلت ابتسامته إلى قهقهة وقال بروحه الفكهة:
– حاصرنا المطر واقعدنا في البيت ونحن كما تعرف ليس لنا القدرة على مقارعة مثل هذه الصعوبات.
قلت له :
– أهلاً أستاذ لقد أخفتنا كثيراً بغيابك، أقلقتنا قالوا إنّك اختفيت منذ يومين..
– كان شعوراً لا يحتمل خصوصاً أنّ الأمر جاء.
– مع مقتل صديقنا الشاعر.
قطب جبينه المجعد وغزته غمامة من الخوف لكنها لم تستمر طويلاً وأجاب بخفّة دمٍ وهو يحث خطاه نحوي:
– لا تقلق يا صديقي أنا لم أزل حيّاً أشرب، وعزرائيل يخشى أن يقترب منّي فأنا معتّق برائحة الكحول…
– ودلف إلى المكتبة بخطى وئيدة”. (الرواية:20).
تشهد المكتبة التي تمتلكها الشخصية المحورية حضور هذه الشخصيّات الاستثنائية وهي تحمل الوعي والثبات على المعرفة والسخرية من كل شيء لاسيما السلطة الغاشمة وهو سلاح المثقف إزاء السلطة التي تتصف بالجهل وتجد أن المثقف هو العدو الداخلي الأول لها، ونلحظ أن الرواية ترصد مثل هذه الظواهر وتصف ظاهرة (ثقافة الاستنساخ) التي شاعت في تسعينات الحصار نتيجة انقطاع الكتب والمطبوعات وكثرة المنع وحظر الثقافة فيلجأ المثقفون إلى استنساخ الكتب المحظورة التي يتم تهريبها من الخارج… وتلك دالة معرفية وتاريخية وقد سعت الرواية إلى توثيق هذه الظاهرة وغيرها من ظواهر السلوك الثقافي المؤطر بالوعي – الإحتجاجي – كنوع من المقاومة والاستعانة بالوعي والتنوير ضدّ القمع التسلّطي.
تستغرق الرواية في احصاء أساليب السلطة واعتقال وتغييب المثقفين وهو تناص سردي مع مكابدة بطل رواية (المحاكمة) لكافكا الذي كان يساق إلى محكمة مجهولة وغامضة ولا يعرف سبباً حقيقياً لاعتقاله ومحاكمته، وقد تجسّد هذا النمط من القمع والاستلاب الكافكوي في الرواية مما جعل شخصيات أخرى تبتكر ممارسات غرائبية كمعادل احتجاجي ضد السلطة، ومن الظواهر الغرائبية ما كانت تعمل به شخصية المرأة (سكينة) التي تبيع الأجهزة العاطلة المنهوبة من الكويت وهذه الظاهرة شاعت بعد احتلال الكويت وحدثت ظواهر وسلوكيات ومواقف حملت روح المأساة بإطار فانتازي، وكانت سكينة تبيعه الأجهزة والمعدّات بل كثير من الناس عثروا على أجهزة لم يعرفوا ما هي لجهلهم العلمي، وكانت تبيع سلعها في عمق الهور غير آبهة بالمخاطر ورعب المكان الذي يشهد صراعاً بين السلطة و(المعارضة) وسكينة هي “أرملة قضى زوجها في الحرب العراقية – الإيرانية لكنها لم تزل تمطر أنوثة وفتنة وتحوم حولها الكثير من القصص على الرغم من أولادها الثلاثة، وعمرها الذي تجاوز الخمسين فضلاً عن شراستها… والشائع والمتداول أن لها عشيقاً يصغرها كثيراً… وهي ترعاه كثيراً”. (الرواية:42).
ونجد اقتراباً تصويرياً لحياة المرأة في هذه المرحلة القاحلة وقد تحولت إلى كائن ضعيف وأشبه بقربان الحروب وهي تسعى للبقاء والبحث عن حريّتها والبحث عن أي شكل من أشكال البقاء ضد مخلفات الحرب والحصار المضني وشغف العيش المر وقد كشفت (سامية) صديقة (سكينة) بأنّ الأخيرة قد قتلت، “سكينة ماتت قبل أيام قتلها الجماعة الذين كانت تبيع عليهم الأجهزة وظلت جثّتها في الهور كما قتلوا صاحبها جبار”. (الرواية ص42)، حين اكتشفوا أن الأجهزة التي تبيعها عاطلة تماماً. أغرب الحكايات والمواقف الفانتازية المجتلبة من الواقع ما كانت تعمل به (سكينة) وصديقتها (سامية) من بيع جثث الذين قتلوا في الجانب الإيراني وتركوا في الأرض الحرام والحقيقة المرة والغرائبية أنهما كانتا تجلبان الجثث من مقبرة الصابئة وجعلهم من بقايا الحروب تروي سامية:
“فبعد أن تجلب سكينة قائمة بالأسماء المطلوبة تذهب إلى مقبرة الصابئة القريبة من بيتنا ليلاً أنا وأولادي وننبش القبور القديمة ونخرج العظام والهياكل ونضعها في أكياس بيضاء ونكتب عليها الأسم المطلوب ونوصلها مع سكينة إلى قريتهم الواقعة في الحدود الإيرانية ومن ثم تقوم هي بالباقي لجني الكثير من المال رغم أنّ لسكينة حصة الأسد.
قلت لها: – كيف تفعلين مثل هذا وأنت امرأة عاقلة وصاحبة أولاد.
أطرقت حياءً وقالت: ماذا نفعل الجوع كافر”. (الرواية:44)، وظاهرة بيع الجث هي من افرازات الحرب ضد الإنسان وهو لا يجد سبيلاً للعيش إلاّ بامتهان السلوك الغرائبي، المثير كنوع من التشبث والتماهي مع سلطة لا تجيد سوى إشاعة الموت والعدميّة والخواء والضياع.
تلجأ الرواية إلى (التشاكل – التناصي) – التاريخي إذ تقارن بين بصرة التسعينات والبصرة والعراق في زمن الحروب القديمة، “ولا عجب في هذا في زمن الحروب… ألم تقرأ المسعودي في مروج الذهب، وماذا فعل الجوع بالبصريين إبّان (ثورة الزنج) إذ قضوا على الكلاب والقطط وجثث الموتى بعد أن أكلوا كلّ ما يؤكل”. (الرواية:47) هذا ما يرويه (علي السعدي) الذي يكتب رسالة دكتوراه عن تاريخ البصرة وهو من شخصيّات الرواية ويضيف “كان الحصار شديداً على العراقيين، فعل بهم ما لم تفعله كل الحروب سحقهم الجوع وأذلتهم الفاقة فابتكر بعضهم طرقاً جديدة وغريبة عن المجتمع للحصول على ما يقيهم شرّ الجوع فانتشر الغش واللصوصيّة والجريمة والترّدي الاجتماعي وبفعل القمع الضاري الذي حوّلهم إلى سلاحف استوائية”. (الرواية:47)، وفانتازيا الفاقة والعوز هي بكلّ تأكيد من افرازات الحرب واستراتيجيته المحو الشامل التي تكفلت بها سلطة الامبراطور القروي.
المستوى السردي والفني كان فيه خط السرد يتدفق من دون توقف عبر تقنيّة الاسترجاع والاستشراف وتوظيف لترتيب الزمن السردي وتقنيات تبطئ السرد أو تعجيله وتسارعه وقد تكفل الراوي الذاتي – المركزي – بتقديم الشخصيات وسيرتها وتحدّث عن عملها ومعاناتها ومصائرها في لغة اختزالية شفيفة تحمل كثيراً من العفوية والوعي والرصد التفصيلي، وتعدّ رواية (غرابيل) بكلّ هذه التوصيفات والتوجهات من أعمق الأعمال الإبداعية التي وثقّت مرحلة التسعينيات في العراق وإنّها مرحلة فاصلة تراكمت فيها كل سلوكات السلطة الجائرة وتراكمات التاريخ الدموي ومثّلت مساحة قاتمة عكست هوس وتداعيات النظام (الشمولي- القروي) نظام الحزب الواحد والمستبد الواحد.. نظام الحروب والحصار واغتيال الإنسان وحريته، نظام الخروج من المنطق باتّجاه التشظّي والوجع والدمار الذي اتسق مع سيناريو المحيط الخارجي وافرازات الاستبداد الدولي الذي تناغم مع الاستبداد الداخلي وكأنّنا نستذكر مقولة د. علي شريعتي الشهيرة “لا فرق بين الاستعمار والاستحمار سوى أنَّ الأول يأتي من الخارج والثاني يأتي من الداخل”.
إن مدينة البصرة مثّلت المكان المركزي في الرواية وتحوّلت وفق هذا الاحتدام إلى مكان (ديستوبي) يتّصف بكل الشرور مكان من الصعب التعايش معه كما يصورها الكاتب، وقد تشظت المدينة إلى أماكن مغلقة كالسجون والبيوت القاتمة، وعلى الرغم من أنَ (الهور) كفضاء جغرافي مفتوح غير أنّه تحوّل إلى مكان ديستوبي أيضاً لما شهده من قتال واحتراب بين السلطة وبين المحتمين بمياه الهور وأحراشه وينطبق التوصيف على كل ساحات وشوارع المدينة وقد تحوّلت إلى خنادق للقتال إبان قمع الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في (آذار 1991) وأشّرت تضعضع النظام وإفلاسه وأعلنت نهاية صبر الناس على جنون واستهتار دولة الإنفراد والقمع، دولة الحروب والخراب والسير نحو اللاّمنطق واللاّعقل واللامستقبل، وينطبق التوصيف المذكور حتى على سوق العشار الذي تقع فيه المكتبة أو (الوكر الثقافي) ومن المفارقات أنَّ مرحلة النهب والفرهود شملت كل أركان المدينة كالمحافظة والمؤسسات لكنّها لم تشمل المكتبة، فالمكتبة آمنة من جميع اللصوص وممتهني النهب والسلب لأن الكتاب لم يعد له أي أهميّة في زمن التكالب والجوع والتشظّي (الفانتازي) .
اعتمدت الرواية بشكل أساس على تقنيات سردية متنوعة وتمركزت حول تقنية (الوصف) “ولكي يوجد الوصف لابدّ من وجود شخصيّة يعوّل عليها في الإدراك ولابدّ من أن يتوافر لها وضع مادي، ونفسي، وفكري يحفزها عليه ويجعلها تعنى بالمدركات ومدعوة إلى ملاحظاته وذكر صفاته، فينطلق وصف الشخصيات الروائية في الثنائيات الضدّية التي تتميز بها كلّ رواية ومن خلال علاقته بالشخصيّة يمكن أن نرى في وصف الشخصيّات نوعين معروفين هما الوصف المباشر الذي يقدم الشخصية في شكلها الخارجي والداخلي والوصف غير المباشر، وهو على العكس من الأول إذ لايهتم بالشخصية مباشرة، وإنما من خلال المكونات الأخرى مثل المكان والأشياء المتعلقة بها، التي تكتسب قيمتها الأصلية بفعل ارتباطها بالشخصية” ( ).
زاوج الروائي بين الشكلين من الوصف الخارجي والداخلي، المباشر وغير المباشر، وبين تضاعيف (البنية الوصفية) استطاع تمرير تقنيات السرد الأخرى ووفق السرد الذاتي الذي أتاح له أن يمتلك حرية انتقاء التفاصيل وتحولاتها والانتقالات على مستوى الحدث والتصاعد وفق مساحة اقتضتها أهميّة الحدث والفكرة والتوثيق.
حفلت الرواية بروح الالتقاط للحكايات الطريفة ذات البعد الدلالي مثل شخصية (أم سالي) المسيحية التي كانت تمارس الكرم والعطاء رغم ضنك الحصار وتتضامن مع جميع أطياف المجتمع من دون تفرقة وتلك الومضة هي جزء من دلالات أكدت تناغم وتآزر المجتمع في زمن المحنة وهو نوع من التوحّد ضدّ توحش السلطة وضد منطق حروبها وأزماتها وهذه الصورة الإشراقية للشخصيّات تنبئ عن استشراف موضوعي فهناك في زمن المحنة والتصحّر والحروب تبرز ثنائية التناقض السلوكي بين الناس، فتظهر شخصيات إيجابية وأخرى سلبية، وهناك من يقوى بالمعاناة وهناك من يعف ويستسلم وهذا هو المنظور الواقعي لمفهوم البطولة بعيداً عن النزعة التعبوية والمبالغة والافتعال في صنع أبطال وهميين وورقيين لا وجود لهم إلاّ في مخيّلة شاحبة وليس لهم جذور في الواقع وهذه النظرة أو المفهوم الموضوعي وهو ضد كل أشكال الافتعال والصناعة الوهمية، “أم سالي امرأة مسيحية تسكن في محلّةٍ كل سكانها من المسلمين، منذ زمن بعيد ولدت في هذه المحلّة التي تقع في قلب المدينة، وكان سكنها تنوع من المسيحيين واليهود إضافة إلى المسلمين، ومن خلال وجودي بالقرب من منزلها وجدت أنها من أكرم وأكثر نساء المحلّة إيثاراً وتضحية؛ تدعم كل من يحتاج لها وتساعد الجميع بكل ما تقدر عليه” (الرواية: 97)، ونلحظ في الرواية اهتماماً واضحاً بتوثيق سير وحكايات مؤطرة بمنطق استثنائي وتلك الشخصيّات توجّهها الغرائبي تعدّ دالة من دلالات التأشير والانتقاء وإنّها -كمعنى سيري- تكشف عن أفق أو ومضات غير مألوفة، إذ تضعنا إزاء نماذج إنسانية متوهّجة ومحلّقة وتعكس جانباً مهماً من جوانب الحياة بكل زخمها وتناقضاتها، وتحولاتها ومن بين تلك الحكايات ذات النسق الغرائبي تلك الشخصيّة الهندية التي عشقت فتاة من مدينة البصرة، “حكاية بالغة الحزن تمطر أسى عن أحد الهنود الذين تخلفوا عن حملتهم أو تسربوا من الجيش البريطاني هذا الرجل الهندي عشق فتاة بصرية سمراء وتدلّه في حبّها كثيراً، وبعد أخذ ورد مع عائلتها استطاع الحصول على الموافقة وتزوجها وعاشا طويلاً مغرمين ببعض واشتغل ببيع (السمبوسة) وأصبح أشهر بائع في المدينة وصار بصريّاً بالضرورة وانتمى إلى عشيرة زوجته غير أنّهما لم يخلّفا أولاداً ولم يضعف عدم الانجاب حبَّه لها ولا هي فكرت أو حاولت البحث عن السبب. عاشا طويلاً كعاشقين وظلّ مغرماً بها حتّى توفيت لإصابتها بمرض عضال” (الرواية: 118)، وقد دفن هذا الهندي بعد أن حزن على موت عشيقته وزوجته في مقبرة الحسن البصري في الزبير إلى جانب قبرها، هذه الحكاية هي ضمن الحكايات ذات الطابع الغرائبي، وقد مزجت بـ(المبنى السردي) الروائي ضمن تقنية التضمين.. ومجموع الحكايات وهي عبارة عن (موتيفات) درامية تحمل الكثير من التوثيق الواقعي والتأطير الرمزي، فالبصرة وفق حكاية الهندي العاشق تدلّل على أنّها مدينة (كوزموبولتية) فهي ميناء تلتقي فيه كل جنسيات العالم وتختلط فيه كل الأجناس والأصول مما يجعله مجتمعاً شديد التنوع ويتطرق السرد بتقنية الوصف ويستفيض في وصف (سوق الهنود)، “وليس هو الهندي الوحيد الذي عشق تراب العراق وانتمى له وحين تتصفح الوجوه وأنت في سوق العشار مركز المدينة ترى الكثير من هذه الوجوه تحمل ملامح مختلفة ملامح هندية وباكستانية ومن بلوشستان وهناك سوق (الهنود) أسس منذ 100 عام يقع في قلب المدينة تباع فيه التوابل الهندية والعطور والسكائر والاكسسوارات التي هي على شكل ورق ملفوف كانت البصرة مستودعاً للتنوّع الجميل، فضلاً عن وجوه إيرانية وأفغانية” (الرواية: 119)، هذا التضمين الحكائي والتعمّق في وصف المجتمع البصري (المتروبولي أو الكوزموبولتي) يؤشر إلى حقيقة أنثربولوجية ونشوء نوع من (المواطنة) العالمية وهو ما يكون كظاهرة إنسانية في أغلب الموانئ ومدن السواحل والحدود. الاستطراد الأفقي لوصف حقيقة المجتمع وكذلك التجانس داخل نسيجه الاجتماعية يعدّ جزءاً من توثيق المكان ومنحه السمة الإنسانية مما يعمّق الإحساس القادح به، حين يتحول إلى مكان يفقد الأمن والاستقرار ويتحوّل من (مكان أليف) إلى مكان (معادٍ) بحسب تقييم (جاستون باشلار) وتحولات المكان هي إشارة إلى تحوّلات الإنسان وقلق المرحلة وانتشار العنف والتسلط والخراب الذي يجعل أفراد المجتمع يفكرون بالخلاص والنجاة عبر الرحيل والهروب أو التصدّي للسلطة عبر الاحتجاج والانتفاض أو التستر على الغضب والتعامل مع السلطة بروح الاستخفاف والتهكم واللّجوء إلى الانتظار وكتم الغيظ حتى تشهد الحياة تحولات تضع المتسلطين في زوايا التهميش والاندثار.
يضمن الروائي بعض الحكايات الأخرى ذات الطابع التراجيدي ومنها ما حدث لشخصيّة ذات طابع غرائبي هي الأخرى وهي شخصيّة (مرجان) واسمه الحقيقي (تومان) – منادي الأفلام- وقد أُستهدف (مرجان) من بعض المجموعات التي اعتقدت أنه خارج المألوف واتّهموه بالعمل مع السلطة والحزب فقرروا الإجهاز عليه وقتله إبّان الحراك، وأيام الوثوب على السلطة “مرجان هذا الرجل الأسمر الذي يعمل في السينما ربّما اعتراضاً على مشيته الراقصة أو قبّعته الأمريكية التي تشبه قبعة رعاة البقر فكانت ردة الفعل للرجل أن ينظر بدهشة كبيرة، مستفسراً بنظرات حادة عمّا يقولون، وانتظم منتصباً بقامته الفارعة خارجاً عن إيقاعه الفوضوي شبه الراقص ودخل في الصف متسمراً في مكانه، وعلامات الاستفهام كبيرة على وجهه وهو يغطيّه بقبّعته والرجل يكرر بحماس: “هذا المجرم .. هذا المجرم، والتفت (مرجان) للحشد الذي يبدو كتلة واحدة من الزحام، وقال لهم بلهجة الواثق من نفسه وبهدوء : – هـا أنا جئت معكم هارباً من القمع للبحث عن مكان آمن كيف أكون مجرماً وأنا لا أقول أفا إلاّ للناي لم أخاصم أو اعتدي على أحد.. أغلبكم يعرفني جيداً.. كلّ يوم ترونني وبعضكم يتحدث معي وآخرون يشاركونني الغناء.. كيف أكون مجرماً.. من أين يأتي الجرم وأنا المسالم جداً ، لم أدخل في عراك طوال حياتي ولم تمتد يدي لضرب إنسان” (الرواية: 124).
وهذه الصورة الدرامية والمأساوية التي تنطوي على التناقض وما حدث من التباس وغموض إزاء الاحتجاج الكبير فاختلطت المقاييس واختلطت الأفكار والتوجّهات وذهب (مرجان) ذلك الفنان الفطري وغريب الأطوار والمسالم ضحية ذلك الصخب الهادر. والحكايات الدرامية التي تضمنت في تضاعيف التتابع والسردي عمّقت من الأداء الدرامي للرواية ومثّل التضمين نوعاً من الاستشراف الأفقي وما يحدث في قاع المجتمع البصري من حكايات المسكوت عنه وفضح الخراب والقبح الذي استشرى في أركان وأعماق المدينة وتعدّ حكايات (سكينة) و(سامية) و(العاشق الهندي) و(مأساة مرجان) موتيفات حكائية امتزجت بالسرد وأصبحت علامات فارقة للكشف عن الواقع الاجتماعي، و(السايكولوجي) وتراجيديا الضياع التي استحكمت بوطأتها على الحياة وتحوّل الناس بمختلف طبقاتهم إلى ضحايا وقرابين مرحلة التسعينيات الشرسة فاقترن لأول مرّة الجوع بالقمع وقد عزل المجتمع تماماً عن إيقاع الحياة وإيقاع الخارج وتحوّل الوطن إلى (منفى داخلي) ليس فيه غير الانسحاق والرعب والحصار بكل تجلياته الاقتصادية والنفسية والسياسية واستهدف الجميع من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ولم يفرّق النظام آنذاك فقد أصبح عدواً لكل إنسان بغض النظر عن آيديولوجيته وتطلعاته، وهذه التقاطة ذكية للروائي في وصف النظام الشمولي – الاستبدادي فهو يحارب شعبه ويقمع جميع التوجهات المتدينة أو العلمانية لأنه يستهدف وجود المعنى الإنساني للحياة ويصبح الجميع ندّاً له وهذا التخبط (السلطوي) يعكس همجية وبربرية الأنظمة الخارجة عن منطق وسياق التاريخ.
تمكنت الرواية من استثمار هذه (الموتيفات) الحكائية ودمجها بما يشكل بنية درامية عميقة ومؤثرة على مستوى التأسيس والتلقي، “وقد عبّرت الرؤية الدرامية عن نفسها في الرواية العربية الجديدة بطرق وأساليب عديدة أبرزها شيوع الرؤية الداخلية الذاتية واستخدام (ضمير المتكلم) في سرد الأحداث، في كثير من الروايات العربية، وثانيهما: استخدام الرؤية الذاتية إلى جانب الموضوعية لتحقيق الرواية ذات الأصوات المتعددة، ولخلق ظاهرة جديدة في الرواية العربية وأساليبها، وهي ظاهرة (تكافؤ السرد) إذ يعمد معظم كتّاب الرواية اليوم إلى رواية الأحداث من منظورات وزوايا مختلفة ومتناقضة أحياناً من شأنها أن تحدث تشويشاً معيناً يتطلب من القارئ أن يقحم نفسه في العملية الإبداعية وهي بهذا، أي الرواية تقترب من المسرح الملحمي، كما تقترب مما يسميه الناقد البنيوي (رولان بارت) (بالنص القابل للكتابة) وأن لم تحققه بصورة كاملة( )، وإلى جانب ظاهرة (التكافؤ السردي) فإنَّ الرواية استطاعت توظيف الحوار باللهجة الشعبية بتعميق الحس الواقعي والعفوي في تطوير الشخصيات لاسيما أنَّ الحوار كتقنية تعبيرية يعبّر بها عن وعي الشخصية وتفاعلها مع الأحداث والوقائع وصورة لتجسيد انفعالها الداخلي ويعدّ الحوار إلى جانب وظائفه في تصعيد الحدث وتعميق مسار التطور السردي فإنّه يعد علامة للكشف عن نمط الشخصيّة وأفكارها وانتمائها الطبقي وقد زاوج الكاتب بين نوعين من الحوار الفصيح والعامي.
قال جاسم وهو صديق الراوي الرئيس: “لا تخف من يفكر بسرقة الكتاب، ليس هناك أي سوق للكتب في هذه الأيام، هناك ما يغري أو يشجّع على النهب والسرقة من يهتم بالكتب الناس مشغولون بالحصول على الخبز والنهب” (الرواية: 96). واستثمار الحكايات وبكل زخمها الدرامي وحوارها وزجها في منظور السرد الذاتي (ضمير المتكلم) يعد تقنية لتعميق المسار السردي وإضفاء النسق الدرامي ودمجه مع النسق السردي، فكانت رواية (غرابيل) أنموذجاً لتوظيف هذه التقنيات واستطاع الكاتب أن يوازن بذكاء بين الثقل والتأثير المتوازي للشخصيات والحدث والأفكار، واهتم بتنشئة التفاعل بين هذه العناصر واستثمار (المبنى الحكائي) وصولاً إلى (المتماثل حكائياً) على حد تعبير (جيرار جينيت)، “يكافئ السرد بضمير المتكلم تبعاً لجينيت ليكون السرد متماثلاً حكائياً إذ كان الراوي هو الشخص نفسه (متماثلاً) بوصفه بطلاً على مستوى القصّة (الحكاية)، إذ كان الراوي بضمير المتكلم هو البطل الرئيس، فإنَّ جينيت يسمّي هذا ذاتي الحكاية، السرود بضمير المتكلمين (نحن) التي تكون الذات التي فيها عضواً من أعضاء المجموعة لكنّها تتميز لوحدها بوصفها راوياً تكون متماثلة حكائياً جزئياً في السرد الحواري يمكن أن تكون هناك حكاية متماثلة أو ذاتية جماعية” ( ).
واستطاع الروائي تقديم نص اعتمد تعدد المستويات وتنوع التوظيفات التقنية والارتكاز إلى رؤية مزجت الواقعي بالتأطير التسجيلي وتعمّق الحس الإنساني تبعاً للسرد الذي كان تياراً متدفقاً للبطل أو الراوي الرئيس المشارك بالحدث فقدّم رؤية (بانورامية) وكشفت عن أزمة الإنسان إزاء ظروف معقدة ومركّبة ورصد ردود فعل الشخصيات إزاء الأحداث والظروف والوقائع المتناقضة، “وقد صارت الأحلام والكوابيس التي كانت تسيطر قديماً على ذاكرة الإنسان العربي، اليوم أكثر قتامة وتجذّراً، فلم يكن هناك بد من التعبير عنها كحقيقة إلاّ بتقاطعها مع ما هو خارج الحس حيث عالم الحلم والتخيّل واللاّوعي والحدس والهذيان المنظم، وهي عوالم تتداخل وتنتسج ضمن العمل الفني للتعبير عن الحس الكابوسي المهيمن ، بالإفادة من طرائق سردية تترك المتلقي حائراً بين الحقيقة والوهم” ( ).
استطاعت الرواية أن تقدّم رؤية عميقة لواقع مأزوم وشائك ، وبقدر السعي التوثيقي كان هناك البعد الإنساني الشفيف لتقدم الصراع الأزلي للإنسان وهو يكافح من أجل كينونته وتطلعاته وتمزقه بين الحلم والكابوس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى