فلسفة المصافحة بالكف الأيسر

د. أسماء السيد سامح | مصر

    حكى لي ابي يوماً أن هناك أسطورة تقول أن هؤلاء الذين نصافحهم بكفنا الأيسر لا يعودون! يتحولون لطيور نورس مهاجرة تغادر سماءنا للأبد دون عودة تاركين خلفهم بعض الصدى الذي يزول صوته مع تعاقب الأيام وندبة خفيفة في القلب لا تلبث أن تشفى مع الوقت.
(إذن لا أصافح بالكف الأيسر أبداً)! بحماس طفلة تخاف الفقد.. قلتُها له لتعانق الابتسامة تجاعيد وجهه مع جوابه الحكيم: (بعضهم ستحتاجين أن تفعليها معه!)

ابتسامة شبيهة تطوف بملامحي الآن بعد كل هذه السنوات وأنا أتذكر كلماته بينما أدور ببصري في بعض الصور والمحادثات القديمة.. صدق الرجل! بعضهم أحتاج لمصافحته بالكف الأيسر!

    هؤلاء الذين طعنونا بالغدر.. دهسوا زهور الود بقدم قاسية لا تبالي.. وأمعنوا في الضغط على جرح أحدثته أيديهم.. وانتزعوا من أحداقنا دمعة كانت ترقص لهم فرحاً ليغرسوا بدلاً منها دموع حسرة.. حلالٌ لهم مصافحة كف أيسر!

    هؤلاء الذين لا تمنحنا صور مراياهم إلا انعكساتنا المعيبة فلا يبدون لنا إلا كل انتقاص كأنهم هبطوا من السماء ملائكة فضاقوا بثقل خطايانا.. يتحسسون لنا حصى الزلات فيرونه كالجبال ويغفلون عن شموس عطايانا مغمضين بالجحود أعينهم.. حلالٌ لهم مصافحة كف أيسر!

    هؤلاء الذين أضاعوا طريقنا عمداً ثم جلسوا على قارعة طريقهم يبكون بدموع التماسيح. . مزقوا بتلات زهورنا فلم يبق لهم سوى أشواكها.. أفلتوا نجومهم من مدارات أفلاكنا فهوت محترقة وتركوا أثر خدوش أظافرهم فوق نفس الكتف الذي احتواهم يوما عناقه.. حلالٌ لهم مصافحة كف أيسر!

    هؤلاء الذين يولون وجوههم شطر قِبلة المصلحة.. أقنعتهم جاهزة في جيوبهم يرتدون أيها أكثر ملاءمة للطقس الجديد.. تتحسس جلودهم من شمس الوضوح وهواء الصراحة.. فقط يجدون راحتهم في ضبابية الأجواء.. فلا يسندون ظهراً ولا يقيلون عثرة بل أقدامهم لا تبالي بدهس أي شيء كي تصعد – ما تراه – سلماً!.. فحلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

   وحتى هؤلاء الذين أحبونا بصمت.. لكن حبهم بقي ككنز مدفون رضوا بأن يكون “أسلم” تحت التراب من أن يكون “أثمن” فوقه.. بخلوا علينا بأعناب الحب وطيب ثماره قانعين بأن يلقوا لنا كسرة من خبزه الجاف لا تسمن ولا تغني من جوع.. أخفوا لحننا النابض في صدورهم وتركونا نسد آذاننا خوفاً من نعيق الغربان.. جبنوا عن منحنا عناقاً يحتوي خوف صدورنا فاستحقوا التفات ظهورنا.. حلالٌ لهم مصافحة بكف أيسر!

   يوماً ما.. ربما في عالم آخر.. سأخبر أبي أن مصافحاتي بالكف الأيمن كانت أقل كثيراً مما رجوت لكنه أجاد التشبث بمن أيقن أنه لن يفارق ولن يخون.. بينما لا يزال كفي الأيسر عاكفاً على مصافحاته المؤلمة – والمنصفة – فلا أحد يستحق أن يحلق في سمائنا إلا من رسم شمسها وقمرها ومحا غيومها وكدرها وألقى على القلب عذب السلام فاستحق يُمن السلام!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى