خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله الأنور (1)

فتحي محفوظ | ناقد مصري


لا يحتاج الشاعر الكبير السماح عبد الله إلي تقديم، فمثله لا يقدم له، هو من مواليد محافظة سوهاج،ويعمل في وزارة الثقافة مديرا لبيت الشعر العربي، له سنة عشر ديوانا، من الشعر، ومن بينها ديوان أحوال الحاكي، الصادر عام 2002 والذي حصد به جائزة الدولة التشجيعية في الشعر في نفس العام، ما يميز أسلوب السماح عبد الله عشقه للبساطة في نماذج ولا أروع، وكلها نماذج كفيلة بإثارة الدهشة.
لا بد وأن تعتمد نظرتنا إلي أشعار السماح علي رؤية القصيدة بعين المشاهد لإحدى اللوحات المجسمة، لأنه ينفرد بكونه شاعرا من الشعراء الذين يتمتعون بملكات عديدة، البساطة المتناهية، والروح الإنسانية،والقدرة الفائقة علي الإيجاز في التعبير علي الرغم من ضآلة مساحة إنشاده في العديد من القصائد، وأزعم أن قدرته علي البناء التعبيري لا يكاد ينازعه فيها شاعر آخر.
علينا أيضا أن نتخيل موضوعات قصائده وهو يحيطها بالعناية, حتي أنه كثيرا ما يضع مفرداتها داخل إطار يجيد تشكيله، وهو ما أطلقنا عليه بالحيز. دائما وأبدا يستخدم السماح عبد الله إطاراته المحددة لإنشاء حيز داخل موضوع مغلق علي مساحته، وهي تلك المساحة الحاوية علي حيز ضيق، ومن ثم فالإدراك للقيمة الجمالية لنصوصه هو إدراك ينبع من طريقة النظر إلي موضوعاته، وفي هذا الشأن فنحن ننظر إلي تلك القصائد كمن ينظر الي لوحة معلقة علي حائط، ولوحاته لا تحتمل الوضع السكوني لأي منها. بل إن عناصر الحركة الدائبة هي من السمات التي يمكننا تمييزها. إن خشيته من الزمن تكاد أن تصبح قاسما مشتركا في أعماله الرائعة، ونحن بدورنا قد اطلعنا علي جانب منها من خلال تعرية تكويناته الرائعة للجملة الشعرية الضخمة المحددة لإطار النص، وهي الجملة التي ترتبط بأساسيات السرد، فهو أيضا ذلك السارد العظيم. ولعل مزج الشعر/ التكوين بالخصائص السردية كان هو الحافز الذي قام بمنح نصوص السماح تلك الحيوية الفائقة باعتبارها تكوينات، وهي تلك التكوينات التي تمثلناها من خلال خواص تكاد أن تنفرد بها، كالاهتمام العميق باللفظ والكلمة، وخلق الصور الموازية للدلالات العميقة، والقدرة علي التجسيم اللغوي، وهي الاعتبارات التي تتعلق بقدرة اللفظ بمفرده مدفوعا بقوة استطراد ما سبق من الإنشاد علي تكاتف الجمع اللغوي وقيامه بالإيحاء، وهذه ملكة من ملكات الخلق الفني لدي شاعرنا الكبير. إن تداعيات المعاني والتصاق الكلمة بالجملة والتصاق الجملة بالنص باعتبار أن النص يمثل في حد ذاته جملة كبيرة طبقا لما يراه رولان بارت ربما أتاح له تلك المقدرة علي إيجاز التدفق السردي واختصاره في لمحة أو كلمة أو حتي لفظة أو إشارة، ناهيك عن استخدام مساحات الفراغ للتعبير عن اللحظة بكل ما تحمله من شجن أو قسوة أو غضب، وهو ما يعنيه إفساح المجال لعالم الإشارات في بلورة النص بكلمة أو إيماءة أو إشارة، وفي هذا ما يخفف الأعباء الوظيفية لدي القارئ الفاحص لتلمس كل كلمة أو لفظة أو إشارة لقياس تداعيات المعني.
من بين خصائص التكوين لدي شاعرنا كما ذكرنا هو تسخير قدرته علي السرد نظرا لما يتمتع به من موهبة تختص بالقص والسرد والحكي، وهو ما يساعد علي تتبع الخيوط الدرامية للأحداث المروية بطريقة سلسة. تنتظم مجموعة أعماله الضخمة في العديد من دواوين الشعر،وقد تم اختبارعشرين قصيدة منها، كما هو موضح في فهرس السياق.

التعريف بنصوص الدراسة

    كان الزمن في قصيدة اعتراف هو ذلك الزمن القناص، والقنص نموذج للاختيار فيما بين المخلوقات. إنه الزمن قبيح الوجه، والذي يعاني منه الشاعر فيقوم بتتبعه داخل أناشيده، فهو يتمثله كحركة إيقاعية تتردد داخل نظام صارم شديد القسوة، والحركة الإيقاعية للزمن هي المعول علي استمرار الدورة الزمنية بين حدي الحياة والموت. يقوم الزمن بتتبع الطفل وهو يحبو إلي أن يصبح كهلا خطه الشيب. الزمن في قصيدة التحرق يصنع الموت الذي لا مفر منه، ولا يبدو الموت في ثياب مختلفة، ولكن النص يقوم بتجسيم حركة الانتقال من الحياة الي الموت، وذلك عن طريق خلق صورة مجسمة لمصعد كهربي يتصاعد تدريجيا إلي السماوات العليا في حركة انتقال رائعة، وليقوم المصعد بدوره في تجسيم الزمن حرفيا، وفي قصيدة طلاب خمر الليل، الزمن يتجاوز حركته الإيقاعية، فيمتد ليشمل وجود الكائنات قاطبة، ولكنه يفرض آثاره علي شكل وجع يعاني الإنسان منه الأمرين، والأسباب تعود إلي مأساة الفقد والإزاحة من سجل الحياة لكل هؤلاء الذين وجب علينا نسيان وجودهم بمعاقرة الخمر كوسيلة ترمز إلي النسيان علي حد تعبير النص . وفي قصيدة القرويون في ليلة رأس السنة، يقوم النص بوضع حاجز مكاني بين النخب من المبتهجين بقدوم عام جديد، وبين أولئك القرويين الذين يلوذون بالطابق العلوي كفئة ناشزة تقوم بالبكاء والعويل بمناسبة انقضاء عام، وهو العام المليء بحسرة فقد الأحبة، وفي قصيدة المقابر يبدو الزمن كمحنة لا يمكن الوقاية منها. وفي قصيدة خاطف البهجة يقيم النص توازناته لحادث الموت الذي يتعين علينا جميعاأن نقوم بانتظاره، وفي قصيدة غرام يتبني النص مطالب العاشق، ليظهر ما يكنه من توق للمقابلة مع الحبيبة، وهو التوق الذي ينشده كل عاشق، ولكن النص يخلق من الزمن أسطورة يتمثلها العاشق بالمتابعة، والمتابعة الزمنية تبدأ وفق ناموس الطبيعة قبل مرور عامه العشرين، وهي متابعة سوف يكون لها آثارها منذ انقضاء زمن العشرين وحتي نهاية العمر، وفي قصيدة الخريف يواصل الزمن في متابعة مشواره علي الرغم من وجود تذمر علي سريانه، ولكن الحقيقة الناصعة تبدو في ذلك الذعر الإنساني، فالرجل وامرأته وهما في خريف العمر يقومان بالاستعداد لمواجهة سريانه في محاولة لرصد القدوم لموت محتمل. إنه الزمن الوحشي الذي لا يقيم وزنا لحالات الحزن من فقد الأحبة. ولا تمثل أحبولة الزمن نهاية المطاف في رحلة الإبداع عند شاعرنا الكبير السماح عبد الله، فالتكوين الدرامي المتصاعد دوما يأخذنا في جولات ممتعة علي صعيد البناء المحكم في قصائد السماح عبد الله: في قصيدة الحفل يطالعنا ذلك التباين العميق بين رحلة الذهاب والإياب الي الحفل، والتباين مرهون بحالة التناقض الظاهري بين مشاعر الغبطة والمرح في رحلة الذهاب، في حين يسود الهم والحزن في طريق العودة من الحفل، وما يقيم أسس التناقض في المشاعر هو خلق حدث فرعي، يقيمه النص عبر استدعاء المتنبي لحضور الحفل ليقدم شكواه المريرة لوجود خصوم تحول بينه وبين مولاه سيف الدولة. في الدراما الاجتماعية في قصيدة في انتظار النهر تتعدد المشاهد والرؤي، وهي تلك المشاهد التي تضع حدودا فاصلة بين الوعي الفردي والوعي الجماعي. تتعدد الإرادات والآراء والمعتقدات فيكون الصراع الحتمي بين تلك الأطراف. يحدث ذلك عندما يقومون بانتظار النهر. في قصيدة الاستغماية من الروعة ما يعجز المرء عن بيانه، فاختفاء طفل في لعبة الخفاء يتحول بقدرة النص من حالة من حالات العبث الطفولي إلي عبث فلسفي وسياسي واجتماعي، وتقديم النص للأسس الداعمة لذلك تعتمد علي تحويل إطار اللعبة من حالة الخفاء الطفولية الي حالات الاختفاء القسري، وتحول البحث المضنى عن حالة الخفاء الطفولية من وضع العلامات الدالة لتحويل اللعب بالخفاء إلي جريمة الإخفاء. في قصيدة حين جا وأشعل الحريقة يتغنى النص بالسلوك الإبداعي عندما يقوم قائد الجماعة بإلقاء جسده في النار، وهو موضوع يقوم فوق دعائم الموقف الفانتازي, حيث يلتمس القائد الجانب الجمالي للنيران المشتعلة، ويظل الموقف علي تلك الحال حتي تقوم الجماعة باتباع نهج القائد بتلمس القيمة الجمالية للنيران المشتعلة. في أربعاءات الشقة الضيقة ينفذ النص الي الجانب السلوكي لرجل يحصر وجوده في يوم ويحصر مكانه في شقة ضيقة ليقوم بتجسيم مشاعر الوحدة الخانقة التي تفرضها عليه أحداثيات الزمان والمكان وخاصة بعد هجران الرفيق.
في قصيدة إجابة لا ينبني الموقف علي سؤال مطروح فالإجابة تبتعد عن صيغة السؤال، إنها في واقعها تقدم الطموح الإنساني عندما يكون الفعل ممثلا لطموح لا سبيل الي رده، وهو الطموح الثقافي، والذي يتبدي عندما يرغب قروي في غزو العاصمة.

يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى