خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (4)

فتحي محفوظ | ناقد مصري

القصيدة الثانية: خاطف البهجة

سكت الليلُ
وانصرف الناسُ
والنايُ أفرغ موّالَه
والكمنجاتُ قالت أنينَ المساءِ كما ينبغي للحيارى
وللمتعبين الذين يجوبون أقبيةَ الذكرياتِ
ينادمهم وهجٌ خافتٌ
وسَرَى النادلُ المتمهل
يحصي زبائنه
يتحسَّسُ آثارَ ليلتِهِ ويقاومُ غَفلةَ عينيهِ
والراقصةْ
سرقتْ نغْمتين من العازفين
انزوت في زوايا ذواكرها
أغلقتْ مقلتيها
وقامت تجرِّبُ رقصتها
فتساقطت السنواتُ العجافُ على مهرجانِ الخلاخيل
ظلتْ تدقُّ
تدقُّ
تذكَّرتِ القمحَ والفولَ والباحةَ المستديرةَ والقاتلَ المتمرِّسَ
ظلتْ تدقُّ
إلى أن تكاثرَ في رقصِها القمحُ والفولُ
ظلتْ تدقُّ
إلى أن رأتْ نفسها في فضا الباحةِ المستديرةِ
ذات نهارٍ بعيدٍ
إلى أن عوى في الظلامِ قطارُ المدائنِ
ينهبُ روحًا مشتَّتةً
وإلى أن تجمَّعَ في نغمِ الدقِّ قاتلُها المتمرِّسُ
مرتديًا نفسَ أحلامِهِ وملامحِهِ وفجاءاتِه
جاء من خللِ الوقتِ والذكرياتِ
إلى أن رأتْهُ بكاملِ هيأتِهِ وبلمعةِ عينيهِ
في ليلةٍ مثل هذي
وفي رقصةٍ مثل هذي
يمرُّ على طرقاتِ الحنينِ وحيدًا بدونِ مصادفةٍ وبلا موعدٍ
وتصاحبه في خُطاهُ الفراشاتُ أنّى يعرِّجُ
يخطفها من قطارِ المدائنِ
يمنحها وردتين معطَّرتينِ بخمرِ اللقا
لم تكن تستطيعُ ترى شفرةَ الموتِ بين أصابعِهِ
كان ذا مِرَّةٍ
فتطاولَ
ذا قلقٍ
فاحتمتْ في أصابعهِ العشرِ
سار بها لبحارٍ مهاجرةٍ ومدائن خربانةٍ
– وهي بين أصابعه العشرِ –
كانت تدقُّ برقصتها
وهي تشربُ خمرتها من شذا وردتين
ولا تبصر الشفرةَ المستحمَّةَ في دمها
وتدقُّ
ولا تستطيعُ ترى روحها وهي تنسلُّ من جسمها
وتغيمُ الرؤى في محاجرِ مقلتها
وهو ينسلُّ في خطوة المائلين
بطيئا كما ينبغي للمحاربِ حين يعودُ من الحربِ منتصرًا
وجميلا كما ينبغي لعشيقٍ قليلِ التجاربِ
يمشي الهوينى
تناديه: قفْ يا قليلَ الكلامِ
تناديه: خذني
وبعِّدْ مواقيتَ حزني
وطيِّبْ جروحي
ورتِّقْ مواعيدَ روحي
تراه يذوبُ مع الشجراتِ البعيداتِ خلف البيوتِ
تدقُّ
ترى قطراتِ دماها مُنَقَّطَةً في ارتباكةِ خطوتِه
وترى روحها مُتَسِرِّبَةً في شقوقِ عذاباتها
وترى جسمها قِطَعًا تتبعثر في جنبات الطريق
تدقُّ
وظلت تدق
إلى أن تعثرَ في رقصِها نادلٌ
يتحسّسُ آثارَ ليلته
ويقاومُ غفلةَ عينيه
في مرقصٍ في أقاصي المدينةْ.

تراجيدية الموت بين السرد والشعر

لوحة أخري من قبو الثلاثين وهو الديوان الصادر في عام 2010 للشاعر الكبير السماح عبد الله، كتبها قبل سبع سنوات من تاريخ نشره، والقصيدة بعنوان خاطف البهجة،وهي قصيدة تجمع بين السرد والشعر المرسل في وحدة تآلف . تمت كتابتها في يوليو من عام 1993، أما عن فعل الخطف، فهو الفعل الدلالي الذي يشير إلي وقوع استلاب بالسرعة التي تتناسب مع إيقاع الفعل.
وتقدم القصيدة عرضا حول قيام راقصة بالرقص في مرقص بإحدى البارات في أقصي المدينة، بمصاحبة فرقة موسيقية محدودة بناي وإحدى الآلات الوترية، وهي الفرقة التي كانت قد أنهت عملها في التو قبيل انصراف الناس في المساء:
” وانصرف الناس
والناي افرغ مواله
والكمنجات قالت أنين المساء”
قامت القصيدة بتحديد إيقاعات الرقص المنظمة بالاستخدام المتكرر لفعل الدق مع رنة الخلاخيل:
” ظلت تدق
تدق ”
وهو فعل يتكرر مع النغمات والإيقاع، ولا يتوقف حتي يصل إلي المشهد الأخير من العرض عند الساعات الأخيرة من الليل:
” تدق
وظلت تدق
إلي أن تعثر في رقصها نادل
يتحسس آثار ليلته
ويقاوم غفلة عينيه
في مرقص
في أقاصي المدينة ”
قدمت القصيدة علي شكل لوحة يتناسب تكوينها مع عناصر المكان الملم بأطراف موضوع، وهو الموضوع الذي يولي اهتماماته بعناصر الزمن والتاريخ بالقدر الملائم لنص يغلب عليه الانفعال ، وبالقدر الذي يوليه لتكوينات سكونيه لعناصر اللوحة.
يتحدد المشهد السكوني بوجود فرقة موسيقية، ومرقص، ونادل يقوم بالخدمة. يحصي الزبائن وهو يغالب النعاس من التعب، وراقصة:
” وقامت تجرب رقصتها
فتساقطت السنوات العجاف
علي مهرجان الخلاخيل ”
والسمات التشكيلية لهيكل الراقصة يتحدد من خلال مرور السنوات العديدة من عمرها المديد, تتساقط كما تتساقط أوراق الروزنامة، أيضا تتحدد كما تحدد رنة الخلاخيل إيقاعات الرقص. إنه الرقص في مهرجان صاخب يسوده الصليل، وتوالي السنوات من عمر الراقصة، هو توال يستجيب للطبيعة ولا يتوقف عند الصفات المدموغة بالجفاف من السنوات العجاف. إنه توال يتسابق في الوتيرة، حتي أنه وبمحض العمل الدؤوب، يقوم النص بإنهاء تلك الصفة، استنادا للتاريخ الشخصي للراقصة :
” تذكرت القمح
والفول
والباحة المستديرة
والقاتل المتمرس
ظلت تدق
الي ان تكاثر في رقصها القمح
والفول ”
أولا: إنه ووفقا للقواعد السائدة في النص، فاختزال الصفات هو أحد المكونات الرئيسية في التجسيم المعبر. رأينا من قبل أن الفرقة الموسيقية تتكون من آلتين،أحدهما آلة وترية، والأخرى آلة نفخ، ورأينا ملابس الراقصة، والتي قام النص باختزالها في خلاخيل للدق، كما أن الفعل الإيقاعي لحركة الرقص قد تم اختزاله في تعبير الدق واستمرار الدق، ومن ثم علينا ان نتقبل اختزال مفهوم الطعام ممثلا في القمح والفول، بحيث يمثل غيابهما نوعا من الإملاق والمسغبة،وهي الصفات التي سرعان ما انتهت بعد قيام الراقصة بمزاولة العمل
ثانيا: وجود قاتل متمرس داخل المشهد،إضافة
جديدة لها أبعادها. تتحدد صفة القاتل وهويته من خلالتكرار بياني أولاه النص الرائع اهتماماته بطريقته المختزلة، وإدرج انسياق للصفات الضرورية لبناء اللوحة، وهو بتلك الصفة المحددة بالتمرس علي القتل يضعنا أمام تساؤل. ما الجدوى من وجود قاتل متمرس في خضم مشهد مفعم بالموسيقي والرقص؟.
” لم تكن تستطيع تري شفرة الموت
بين اصابعه ”
وتكون أدوات القتل قد اختزلت بوجود شفرة للنحر، وهي الشفرة التي يقوم بإخفائها بين أصابعه التي تمرست علي النحر
ثالثا: تستدعي تلك اللوحة إرهاصاتها من أعمال ذات صلات بها، وهي تلك الصلات ذات القربي من الصورة المتكاملة لأجزاء اللوحة، وعلينا ألا ننساق إلي وجود صلات بالتبعية بين عناصر متشابهة، أو حتي صلات قامت علي سبيل التوازي المحض، إنما مرد ذلك هو تقريب الصورة المتكاملة من هذا الإبداع. المقابلة الآن بين صبي مقهي فانجيللي لرائعة محمد حافظ رجب في مخلوقات براد الشاي، وبين نادل المرقص، فكلاهما قد أصابه التعب من مشاق العمل. في نهاية الدوام، قام صبي المقهى بإعلان انتهاء العمل بركلة من حذائه فوق صينية التقديم، في حين غالب نادل المرقص رغبته في النوم بعد انتهاء الدوام بفعل لم يتجاوز قيامه بالتثاؤب. إنها مقابلة تتنوع في السلوك، ولكننا قصدنا بها إبراز المحتوي الدلالي بكافة تفاصيله. ثمة قطار يرتفع صوته أثناء الظلام. يطلق عليه النص قطار المدائن. من بعيد تبدو مجموعة متلاصقة من البيوت الواطئة التي لا تخفي الأشجار السامقة في أقصي نهاية اللوحة. يبرز المكون الحركي في تلك اللوحة، وخلافا لطبيعتها السكونية، لا ليؤازر افعال الحركة فقط، وإنما لينشيء تيارا داعما للبناء الدرامي، فالمقابلة بين سلوك الراقصة مع القاتل المتمرس، هو ذلك العصب الدرامي في آليات بناء النص، ولتوضيح ذلك، فإننا نشير إلي رائعة ارنست هيمنجواي في قصته القصيرة القتلة، وتحكي القصة عن رجل يرقد علي الفراش وهو يعلم أن جماعة من القتلة سوف يأتون إليه لقتله. ولم يكن قد نوي علي الفرار من مغبة هذا الوضع المؤلم. ظل فقط منتظرا موعد قدوم القتلة لإنجاز مهمة القتل، ثم يحدث ما توقعه في سكون تام، تلقي وابلا من الرصاص بنفس راضية بالقضاء، وما كان يعنيه هيمنجواي بعرضه الوافي لعملية القتل، هو بالتحديد ذلك المفهوم الذي يعنيه الإنسان وهو ينتظر بلا ضغينة قدوم الموت اليه، وانقضاء حياته الحافلة، وهو في الواقع يمثل نوعا رفيعا من دراما الحياة والموت وفي نفس الوقت،وهو كل ما أراد النص قوله في رائعة السماح عبد الله خاطف البهجة. فالعلاقة الوطيدة بين الراقصة والقاتل المتمرس، هي علاقة آسرة لا ضغينة فيها، فاستتباب الأمن النفسي جزء لا يتجزأ من التكوين:
“يمنحها وردتين معطرتين بخمر اللقا”
وعلي أساس أن تقديم الورود كسلوك لا يخلو من التآلف والحميمية.
رابعا: وكنتيجة لما سبق، فالقتل بالشفرة يتم من خلف ستار، فملاحظة القتل بالنحر أسلوب ابتعدت عنه التكوينات في اللوحة. وتكون المحصلة مجرد إشارة مختزلة أيضا لوجود علامات القتل بالنحر:
” تري قطرات دماها منقطة في ارتباكة خطوته
وتري روحها متسربة في شقوق عذاباتها
وتري جسمها قطعا
تتعثر في جنبات الطريق ”
مع وجود ذلك الحس الحي بوجود فعل لا يتم تقييمه عبر النص بالفعل الشائن، ولكن اختصار الأمور في بضع قطرات متساقطة من الدماء، وتسرب الروح من مكمنها يبعد عن النص / اللوحة صفات العذاب ولظي الفقد، كما يبعد عن النص توترات الأسي العميق، باعتبار أن النص / المشهد قد ابتعد بعدا كافيا عن الزخم الميلودرامي، بعده عن الوقع التراجيدي لأزمة الموت. دراما قوية تليق بنا أن نوليها استحقاقاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى