الحضور والغياب في رواية (الكراكي) لـ “حسن حميد”

سميح محسن | فلسطين
(تعوّد، يا بني ألا تقلق عندما تغيب النساء، لأن طبع النساء هو الغياب، وليس الحضور). هذا ما قاله الأب الراعي طنوس لخطيب ابنته /عبودة/ (ص268) عندما تأخّرت /ماريا/ عن العودة من (الخالصة) التي سافرت إليها لشراء مستلزمات الزواج.
اختار القاص والروائي حسن حميد اسم طيور (الكراكي) عنواناً لروايته التي صدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019، تلك الطيور التي تعيش على المسطحات المائية وفي محيطها، ويُعرَفُ عنها ارتباطها بالمكان. وتدور أحداث الرواية، في معظمها، في الشمال الفلسطيني الذي تزيّنُه بحيرة طبريا وجباله العالية، وناسُه الطيّبون المحبّون.


يقتحم الراوي عتبة روايته بعدما حطّم قفل صندوق جده( إلياس الشمندوري) الذي عاش في الأزمنة الغابرة، وقد تهيّب ما يزيد عن أربعين جداً من فتحه لأنهم تعاهدوا واحدا بعد واحد على عدم فتحه حفاظا على ما فيه من أسرار. وقيل إنّ فتحه سيجلب اللعنة على الأسرة، فتحيّد الجميعُ فتحه.في الصندوق وجد كتاباً، عديد صفحاته بالية، فشرع في إعادة بناء ما جاء في الكتاب، لتكون هذه الرواية.
تبدأ الرواية بالحديث عن الكنيسة، وراعيها (الأب طنوس) الذي نذر نفسه لخدمة الكنيسة وسكان المنطقة بعدما فقدَ زوجته التي خطفها خيالة الطرق، ومن معها من النساء، وكانت ابنته (ماريا) في شهورها الأولى. شكّل غياب تلك المرأة التي لم يعشق إمرأة سواها، انقلاباً جذرياً في حياته، فاختار طريقه للكنيسة ليصرف باقي عمره في خدمتها، وخدمة المحتاجين إليها.
هناك العديد من القضايا التي تثيرها رواية (الكراكي) وفي مقدمتها علاقة الإنسان بالمكان، وطالما أنّ أحداثها تجري في محيط بحيرة طبريا، فإن الكاتب يؤكد على متانة هذه العلاقة التي لا تنفصم. وفي تصديره للرواية ينقل الكاتب حسن حميد على لسان الرواي (عبودة) أنّ جده (إلياس الشمندوري) نقل عن سيده أن هذه البلاد “ستعرف مطاردات كثيرة، …، وإن غمرها الزمن بالأيام والسنين، وإن جاءت بالكواره، والأذيّات، والحرمان، والقهر، وأن هذه البلاد ستظل لأهلها، وإن ادلهم ليلها! لن يكون وجود الغرباء فيها حضوراً، مهما امتدّ، سوى لحظة تشبه رمشة الهدب”!
حسن حميد، المهموم بقضايا الوطن، يفصّل في العلاقة بين سكان المنطقة، وعاداتهم، وتقاليدهم، وحرفهم، ومصادر عيشهم، ويمرّ على تعداد أشجار وطيور وتضاريس العديد من بلدات ومدن فلسطين. وعندما يتحدث عن مدينة الله (القدس) تعلو اللغة الشاعرية الممزوجة بدرجة عالية من العاطفة الجيّاشة تجاهها. وكما بدأ الرواية بالإشارة إلى أنّ وجود الغرباء فيها لا يكون حضوراً، يسدل الستار على واقع المدينة في الحاضر على لسان (عبودة) الذي فقد (الأب طنوس) بالموت، وفقد حبيبته (ماريا) التي خرجت للشام لشراء مستلزمات زفافهما، وأمّه (هندولة) التي خرجت للبحث عن والده (عزيز)، ولم تعودا، بالقول: “الآن، قل لي، يا إلهي، ماذا أفعل؟! وقد غدوت وحيدا ، وحيدا .. تماما! والجنود الشقر على الجسور، وفي مفارق الطرق، وفي القرى.. والمدن؟! فهكذا تُرِكت فلسطين وحيدة، وليس (عبودة) لوحده.

الحضور والغياب
تحفل (الكراكي) بالعديد من قصص العشق (المجنونة) التي تنتهي بالغياب. ولتأكيد قدسية علاقات العشق المتعددة في الرواية، فقد ذهب إلى ابداع قصة لتسمية بحيرة طبريا. جاءت إليها “صبية مع أهلها، أحبّت، فحال الغياب بينها وبين محبوبها، فهوى جسدها، وقل ضوؤها، وغار زيتها، للعلاج في مياه البحيرة، كان اسمها ريّا”. وبعدما تماثلت للشفاء وعادت إلى قريتها، سأل سكان القرية عن الطبيب الذي عالجها، فقلن صاحباتها اللواتي رافقنها أن اسمه: “طب…ريا”. وهنا نحت الكاتب اسم (طبريا) من هاتين الكلمتين. لكن المزيونة (ريّا) ماتت “وهي تنتظر معشوقها الذي سمّته الغياب، وحين أحست بدنو أجلها، قالت لصاحباتها: إن جاء من بعدي، قلن له: إنني انتظرته طويلا “!
(عبودة)، الشخصية المحورية في الرواية، عشق ابنة راعي الكنيسة الذي اعتنى به بسبب مرضه منذ ولادته، وأخذ على عاتقه تربيته، وتعليمه، ورعايته، إلى درجة أنه ظنّ بأن (الراعي طنوس) هو أبوه الحقيقي، لشديد اعتنائه به وبوالدته، وعدم انقطاعه عن زيارة والدته في بيتها، وبخاصة أنّ (عبودة) ولد في غياب والده. عشق (عبودة) ابنة الراعي (ماريا) التي تكبره بالسن، وعلمته فنون الموسيقا والرسم، وعندما وافق الراعي على تزويجه إياها، ذهبت إلى (الخالصة) لشراء مستلزمات الزواج، وفي الكنيسة هناك حدّثنها الأخوات عن أسواق الشام، فسافرت إلى هناك بصحبتهن، وانقطعت أخبارها. تعددت الروايات عن سبب غيابها الذي ظلّ مجهولاً، فقرر (الأب طنوس) الذهاب إلى الناصرة والقدس برفقة (عبودة) للبحث عنها، ولكن دون جدوى.
وعندما عادا إلى البلدة، اكتشف (عبودة) غياب والدته (هدلة) التي سافرت إلى حيفا للبحث عن والده الذي ذهب للعمل في مينائها، ولم يعد، فخرج للبحث عن والدته وحبيبته، ولكن دون جدوى. وفي مواجهة غموض حالات الغياب يسأل عبودة الأب طنوس قبل غياب الراعي الأخير: ” فهل الغياب، يا أبي، رب من أرباب الإغريق أو الرومان؟! أله هذه السطوة العجيبة التي تجعل منا، أنا وأنت، كائنين لا يعرفان سعادة الحياة ولا طمأنينتها ولا هدأتها، ولا يريان جمالها، ولا يحسان بمسراتها”.
وأما (الزهروري) الذي عشق (فضة) الغجرية، التي غادرت البلدة وتركت قلبها عند شاب صياد، طويل، عَفِيّ فقد أمضى العديد من سنيّ عمره في انتظار عودتها، ولم يدخر جهداً في البحث عنها، إلا أنها لم تعد. “حين غيّب الضباب أحدهما عن الآخر، بكت فضة حتى بللت قميص الزهرور الكتاني، وبكى الزهروري حتى بلل بدمعه كلمات فضة الموشومة على رسغه: الغجر أوفياء.. ويعودون”! ظنَّ الزهروري أن الحياة غادرته حين غادرت فضة. ظنَّ أنه نبات وهي نبات، وأن بمقدور أحدهما أن يعيش من دون الآخر.لكن الظنّ ظن! ولفكِّ أسرار هذا الغياب لجأ (الزهروري) إلى (الحاج عباس)، وهو والد صديقه (قدورة) الذي عشق غجرية، وذهبت في الغياب، فقال له: “أنت تحتاج إلى دورة أخرى من البحث لأنك لا تعرف الغجر..الغجر لديهم قناعة أنهم طيور الله، وأن الأرض ليست مكانهم، ليست قراهم أو مدنهم، مكانهم وقراهم ومدنهم هي في السماء، وأنهم هبطوا إلى الأرض إثر غلطة اقترفها أحد أجدادهم”.
وفي ليالي (القصل)، والتي من أعرافها “ألا يخيّب أحدٌ أحداً في طلبه أو أمنيته أو حلمه، وإلا ستفسد ليالي القصل، وستفسد المواسم القادمة، وتحلّ اللعنة على البلدة وأهلها”، كان (نجيم)، وهو صاحب وجه مجدور، كلما حاول الاقتراب من (عوفة) جميلة القرية، وطلبها للرقص، تهرب منه نافرة. وبعد انتهاء الموسم حلّت المصائب على القرية، وحمّل الأهالي (عوفة) المسؤولية عن ذلك، فبعد توقف الفيضان الذي حلّ، خرجت صارخة باكية، وتقدمت من (نجيم) وراحت تحتضنه، وتقبّل وجهه.” وقيل إن نجيم أخذها بين ذراعيه، وأخذته هي بين ذراعيها في عناق طويل طويل طويل، وكأن أحدهما عصر روح الثاني أكثر مما ينبغي، فلفظت الروحان أنفاسهما معا وهما في عناق وتداخل يشبه عناق الغيوم وتداخلها”.
وحتى (المبروك يحيى)، الذي كان يظهر في البلدة بين حين وآخر، ثم يختفي ليعود، احتارت البلدة وتشظّت الآراء بسبب غيابه المديد. “طوال أيام الثلج الذي غمر البلدة، لم يعرف أحد مصير المبروك يحيى، وطوال الأيام التي تلت ذوبان الثلج لم يعثر أحد على المبروك يحيى! ولهذا صدَّقَ الناسُ أن المبروك يحيى لاقى وجه ربه!…بكت (رجاء) ونوّحت وحيدة في ليل طويل مدلهم بارد حين صار للمبروك يحيى.. قبر”. وهنا يحمل بكاء (رجاء) على (المبروك يحيى) الذي غاب دلالة على وجود علاقة عشق بينهما.

خلاصة:
“قيل إنّ فتح الكتاب سيجلب اللعنة على الأسرة”… هذا ما نقله (عبودة) عن أجداده الذين تعاهدوا على عدم فتح الصندوق، وعندما فتحه، قدّم لنا الصديق الروائي حسن حميد أحسن قصص العشق التي انتهت بالغياب، بسرد مبهر، وبلغة شعرية مغرية للإيغال في جمالياتها. وتلك القصص التي أشرت إليها تجمع بينها نهاية مثماثلة، هي (الغياب)، كما تجمع بينها القدرة المدهشة للراوي في سرد الأحداث، وتوصيف الأمكنة، والعادات والتقاليد لربطها في المكان للدلالة على الارتباط الذي لم ينقطع بين المكان وناسه، هذا المكان الذي يحاول الغرباء الذين لا يعني وجودهم حضوراً تزييف روايته الحقيقية.
وفي النهاية، لا أدعي أنني أمتلك الشروط الفنية للنقد الروائي، ولكنني أجد نفسي ملزماً عندما أقرأ نصّا إبداعياً يدهشني أن لا أتركه وأمشي، وأحاول أن أقدّم قراءة انطباعية عنه، وبالتالي كانت تلك قراءتي لرواية (الكراكي) للكاتب الصديق حسن حميد الذي يدهشنا دائما بما يقدمه من جديد لنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى