في إعجاز القرآن (٣)

د. زياد العوف | سورية

…لا ريب،إذاً، في تعدّد وتنوّع مكامن ومظاهر إعجاز القرآن؛ وهذا يرجع إلى المدخل الفكري أو المعرفيّ الذي نعتمده للوقوف على هذا الإعجاز.
لكنّني أرى أنّ المدخل اللغوي والبيانيّ هو الأَولى والأنسب نظراً لاطّراده في كلّ آيات القرآن، ولثباته على مرّ الزمان. وذلك خلافاً لما يلجأ إليه بعض الدّعاة، في أيامنا هذه، من اعتماد التأويلات العلمية لبعض آيات القرآن بما يتماشى مع بعض النظريات أو المستجِدّات العلمية، وهم يظنّون أنهم يحسنون صُنعاً باصطناعهم لغة العصر لكسب الناس إلى جادّة الإيمان؛ إذ إنّ العلوم- كما هو معلوم للجميع- دائبةُ التجدّد والتّطوّر- وهذا يتنافى مع ثبات مفهوم الإعجاز القرآنيّ. على أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض القضايا العلمية التي تمّ التحقّق منها على سبيل الاستئناس لا أكثر.
نخلص ممّا سبق إلى أنّ إعجاز القرآن إنّما يتجلّى في لفظه ونظمه وبيانه، أو كما يقول صاحب” أسرار البلاغة” و” دلائل الإعجاز” عبد القاهر الجرجانيّ:
” وهو أنّه بديع النَّظم، عجيب التأليف، متناهٍ في البلاغة إلى الحدّ الذي يُعلَمُ عجزُ الخلق عنه.”
ففي هذا يتحقّق مفهوم المعجزة وضرورة توفّرها على الشرطين الآتيين:
١-أن تكون فوق طاقة البشر؛ إذ هي وسيلة لتبليغ الرسالة
١-أن تكون في مستوى إدراك البشر؛ إذ هي حجّة عليهم.
كما أنّ الوقائع التي واكبت الدّعوة تؤكّد ما ذهبنا إليه: بدءاً بالنبيّ الموحى إليه لحظة نزول الوحي عليه في غار حِراء، مخاطِباً إيّاه بأوّل كلمة في القرآن :” إقرأ” فيجيب النبيّ: ما أنا بقارئ، ثمّ لم يزلْ به حتى قرأ :” اقرأ باسم ربِّك الذي خلق، خلق الإنسان من عَلَق، اقرأ وربُّكَ الأكرم ، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم.”
إذ أخذه من وطأة الوحي ما أخذه من رَوع وفَزَع، وهرعَ إلى زوجه السيّدة خديجة وهو يردِّد: زمّلوني زمّلوني. لقد استشعر النبيّ، فضلاً عن وطأة الوحي، مغايرة هذا الكلام لأيٍّ من كلام العرب، ومفارقته لأيٍّ من أساليبهم في فنون القول، وهو ، على أمّيته، في الذروة منهم فصاحةً وبلاغة.
وكذلك كان الشأن مع فصحاء العرب وبلغائهم؛ إذ تبيّن لهم أنّهم إزاء نَظم من الكلام لم يكن لهم عهدٌ به من قبل، وأنّهم حِيال فنّ من القول ليس في مُكنتهم محاكاته أو مجاراته، هذا، مع إدراكهم له، كما أنّ تحدّي الإعجاز يتحقّق فور الإصغاء إلى آي القرآن. جاء في القرآن:
“وإنْ أحدٌ من المشركين استجاركَ فأجرهُ حتّى يسمعَ كلام الله، ثُمّ أبلِغْهُ مأَمنَه، ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون ” سورة التوبة، الآية،٦.

ولا شكّ في أنّ قصّة إسلام عمرَ بن الخطّاب متأثّراً بما سمع من آيات القرآن لممّا يندرج في هذا السياق.
وكذلك هو شأن الوليد بن المغيرة في وصفه للقرآن كما مرّ معنا في ثنايا هذا البحث.
ليس هذا الفضاء بالحيّز المناسب للخوض في خصائص البيان القرآنيّ، وفي سموّه عن كلام البشر، وفي مفارقته لما تواضع عليه فصحاء العرب في لغتهم من أساليب نَظم الكلام وبيانه، فهذا محتاجٌ إلى بحث معمّق مكانه معاهد العلم والبحث.
لكنّني أشير هنا إشارة عابرة إلى ما يمكن أنْ ندعوَه بالانفجار اللغويّ الذي أحدثه القرآن في مجال اللغة العربية دون مقدّمات أو مراحل انتقال. لقد ارتقى القرآن بهذه اللغة البدويّة، على فصاحتها وبلاغتها، ارتقاءً مكّنها من التعبير عن دقائق المسائل الغيبية والتشريعية والاجتماعية والاقتصاديّة وغيرها، فاختار لذلك كلّه المفردات والمصطلحات المناسبة مستبدلاً بالبيت الشعريّ الموزون والنثر المسجوع، الجملة المكتملة ذات البنية المرنة القادرة على استيعاب دقائق المعاني وجلائل الموضوعات.
ولا ريب في أن علماء البلاغة والكلام كالجاحظ وعبد القاهر الجرجانيّ والباقلّانيّ قد وقفوا على كثير من ضروب الإعجاز القرآنيّ، لكنّهم – فيما أرى- قد أنفقوا الكثير من الوقت وصرفوا الكثير من الجهد غير المطلوب في مقارنة كلام الوحي بكلام البشر من الشعراء والخطباء والبلغاء، لتأكيد وبيان امتياز كلام القرآن وتفوّقه على ما عداه؛ إذ يتعلّق الأمر بكشف أصول مفارقة البيان القرآنيّ لبيان البشر ومخالفته للمعهود لديهم، فههنا تكمن المعجزة، وليس في مجرّد تفوّق كلام الوحي على كلام البشر. جاء في القرآن:
” الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربّهم، ثُمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله…”
سورة الزُّمَر، الآية، ٢٣.

* -يدين هذا البحث لعدد من المصادر والمراجع التاريخية والبلاغية واللغوية القديم منها والحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى