إسرائيل وروسيا الجديدة!
توفيق أبو شومر
ما يجري اليوم في الساحة الأوكرانية ليس حربا بين دولتين، بل هو بداية تغيير جذري على خريطة العالم السياسية والاقتصادية والفكرية، إنه صياغة جديدة تجري في مصانع إنتاج السبائك الدولية، غايتُه الرئيسة التحررُ من الهيمنة الأمريكية على العالم.
من يتابع الأحداث يدرك بأن روسيا بوتن تضطلع بهذه المُهمَّة، هذه حقيقة يعرفها كثيرون، غير أن تفصيلاتها ماتزال غامضة.
تابعتُ آخر تصريح لوزير خارجية روسيا، سيرغي لافاروف، وهو عضو بارز في طاقم مصنع إنتاج سبيكة حكومة عالم جديدة، حين قال يوم 19-10-2022م: “ستُقلل روسيا عدد دبلوماسييها في الغرب، بسبب انتشار ظاهرة (روسيافوبيا)، فالأوروبيون لا يقبلون بالروس، فرضوا علينا الحظر، نحن لا نُجبرهم على حُبنا، هم لا يرغبون في وجودنا بينهم”
بدأت روسيا الجديدة خطواتها العملية في هذا الاتجاه قبل سنواتٍ عديدة وذلك بتشجيع دول التجمع الآسيوي، CICA في الأمم المتحدة المكون من 27 دولة على تأسيس كُتلة مؤثِّرة في العالم، بدأت روسيا تسير وفق عقيدتها الجديدة؛ التحرُّر من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية الغربية على الكنيسة الأورثوذكسية الشرقية، فالروس هم حاملو مفاتيح الأرثوذكسية الشرقية، هم القوة الجديدة، هم حماةُ (روما الثالثة) في مقريها موسكو، وكييف، وهذا يتوافق مع (النظرية الرابعة) للمفكر الروسي، ألكسندر دوغين، النظرية الرابعة الجديدة التي ستقام على حطام النظريات التقليدية الثلاثة؛ الليبرالية، والشيوعية، والنازية، سقطت النظرية النازية في الحرب العالمية الثانية، وانتهت الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي 1991م، ولم يبقَ سوى النظرية الليبرالية (الرأسمالية) بزعامة أمريكا، وهي اليوم ستزول على يد النظرية الروسية الرابعة، وهي نظرية (الأوراسيا) أي أوروبا وآسيا، نظرية التحرر الذاتي من طغيان الحضارة الليبرالية التكنلوجية، ما يعني عودة روسيا لموقعها الحضاري المدافع عن القيم الخلقية وعن حقوق الإنسان، وليس الخاضع لقيم التكنلوجيا الغربية!
اكتشف الإسرائيليون البراغماتيون منذ زمنٍ بعيد خطة روسيا الجديدة اكتشفوا أيضا أن مستقبل العالم مرهونٌ بالصين حليف روسيا الصامت، لذا فقد استعانوا بالشركات الصينية وعقدوا الصفقات معها، هذا التعاون الصيني الإسرائيلي دفع الأمريكيين إلى الاحتجاج عليه. أدركوا أيضا أنَّ هذا التغيير سيقلب موازيين إسرائيل كلها، لذلك فهم اليوم كامنون، يمارسون طقسهم الزائف (الحياد)، كثيرون منهم يعتقدون بأن مشروع بوتن الجديد سينجح، لذا فهم يطبقون البرغماتية السياسية ببراعة! هم اليوم يجهزون لمواجهة قوة إيران في الحلف الروسي الجديد، لأن إيران لا تدعم روسيا في أوكرانيا فقط، بل هي شريكٌ في مشروعها!
أما عن الموقف الإسرائيلي الرسمي فهو كما ورد على لسان رئيس وزرائهم، يائير لابيد في مقابلة مع رئيس تحرير صحيفة جورسلم بوست، يعقوب كاتس، سوف تُنشر المقابلة كاملة بعد نشر هذا المقال، يوم 28-10-2022م قال: “نحن نُجرى التقييم ثم نفعل ما تقتضيه الظروف، نحن شجبنا ضم روسيا للأقاليم الأوكرانية الأربعة، وزودناها بالدعم المدني وأنشأنا مستشفيات فيها، أما عن الدعم العسكري فإننا ننطلق من سياستنا الأمنية، وهي أن هناك اتفاقا مع روسيا على أن تواصل إسرائيل قصف المواقع الإيرانية في سوريا”!
أما الإعلامُ الإسرائيليُ فقد عمد إلى تشويه زعيمي نظرية الأوروآسيا، الرئيس بوتن، ولافاروف اتهمهما باللاسامية لهدف زيادة عدد المهاجرين اليهود لإسرائيل، نشروا أقوال لافروفوف في مؤتمر صحفي، أكتوبر 2022م حينما قال: “روسيا تحارب النازيين في أوكرانيا” سأله صحفي: “كيف تقول ذلك ورئيس أوكرانيا يهودي؟!” رد عليه لافاروف: “لا تنسَ أن الدماء اليهودية كانت تجري في شرايين هتلر”!
لم يكتفوا باتهام لافاروف بأنه لا سامي، بل إنهم قالوا، على لسان الصحفي، ألكسي بايار، يوم 20-10-2022م: “إن النظام الروسي كلَّه يُنكر (اللاسامية) في روسيا ويطويها تحت البساط، ولا يعترف بقتل ستة ملايين يهودي، ويدعي أن القتلى كانوا روسيين ومن أجناس أخرى، إن معاناة الروس من النازيين تشبه معاناة اليهود”!
إن الدول التي أعلنت انضمامها الصامت إلى هذا الحلف كثيرة، وعلى رأسها باكستان والهند وتركيا وماليزيا، بالإضافة إلى كثير من الدول الأخرى مثل فنزويلا وكثير من الدول الإفريقية!
أما دولنا العربية التي أدركت حجم الخداع الأمريكي لها خلال عقود طويلة، أعادت هي الأخرى التفكير في مصالحها، فحين أقدمت المملكة العربية السعودية على تخفيض إنتاج النفط كانت ترسل رسالة في هذا الاتجاه، كما أن زيارات وفود الأحزاب الفلسطينيين إلى موسكو تصب في هذا المجرى وأبرز الخطوات هي إعادة علاقة حركة حماس بالرئيس السوري حافظ الأسد، كل ما سبق يصب في مجرى نهر هذا التوجه الجديد بقيادة روسيا!
غير أنَّ مصير هذا المشروع محكومٌ بانضمام (التنين) الصيني إليه، كما أن انضمام الصين عسكريا سيبدأ باستعادة جزيرة تايوان بالقوة، وهذا سوف يُحدد مصير العالم كله!