من مِشْكاة الُّنُبَّوة.. حديث موسى والخضر عليهما السلام
د.خضر محجز
وصلنا في الحلقة السابقة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ، لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ»:
حيث انبعثت الحياة من جديد، في السمكة المطهوة، بأمر الله. عز وجل ـ وجعل لذلك من الأسباب ماء الحياة في أصل الصخرة.
الآن نكمل إن شاء الله:
النص:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى، ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ (الكهف/62). قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ. قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً﴾ (الكهف/63). قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ فِي آثَارِهِمَا، فَوَجَدَا فِي الْبَحْرِ كَالطَّاقِ مَمَرَّ الْحُوتِ، فَكَانَ لِفَتَاهُ عَجَباً، وَلِلْحُوتِ سَرَباً”
الشرح:
قوله: «فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى، ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ (الكهف/62)»:
القائل هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكي ما حدث لموسى وفتاه. فالرسول ها هنا يضطلع بدور الراوي العليم، الذي يرى أكثر من الشخصيات. ويقول: «فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى» إلخ.
ومحتوى حكاية الراوي، أن قد وصل موسى ويوشع ـ صلى الله عليهما وسلم ـ إلى مجمع البحرين، وهو مكان واسع، الهدف منه الوصول إلى الصخرة، التي استراحا عندها قبل قليل، ثم غادرها دون أن يعلما أنها مكان اللقاء الموعود بالخضر عليه السلام. وقد علمنا هذا مما حدث بعد ذلك، إذ رأينا موسى نائماً يستيقظ، ويطلب من يوشع أن يأتي بالسمكة المطهوة ليتناولاها غداءً بعد كل هذا التعب.
قوله: «قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ»:
«النَّصَبَ» هو: التعب. «وَلَمْ يَجِدْ النَّصَبَ»: لم يشعر بالتعب. و«حَتَّى جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ»: ابتعد عن المكان الذي أُمر بأنه يقصده للقاء الخضر. والقائل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته الراوي. والقول ها هنا جملة تفسيرية من الراوي العليم، واقعة بين كلام موسى وفتاه.
ومعنى المحتوى الذي أدته لغة الراوي: أن موسى لم يشعر بالتعب، إلى أن ابتعد عن مكان الصخرة، ليعود باحثاً عنها، لأن ثمة سيكون الخضر، الذي جاء ليتعلم منه.
قوله: «قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً﴾ (الكهف/63)»:
جملة: «قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ» هي من كلام الرسول بصفته الراوي العليم، الذي يربط بين أقوال الشخصيات ومسيرة الأحداث. وما بعدها من الآية هذه وما قاله موسى، هو الحوار محكياً بلغتنا العربية كما عرضها القرآن. وإلا فإن موسى وفتاه لم يكونا عربيين، بل لم يكونا يتكلمانها، وربما لم تكن قد استوت على سوقها بهذا الجمال والكمال.
ومحتوى الحوار، أن قد أجاب يوشعُ موسى، فقال: أتذكر حين جلسنا عند الصخرة؟ فثمة قامت السمكة المطهوّة حية، ودخلت في الماء وانطلقت في طريقها في البحر، وقد نسيتُ أن أخبرك بهذا في حينه.
وهذا الكلام من يوشع، يدل على أن موسى نام هناك، ولم يشأ فتاه أن ينبهه للمعجزة، مُمَنِّيَاً نفسه بأن سيخبره بها حين يقوم. لكنه الآن يذكر له ما حدث، بعد أن ابتعدا عن المكان مسافة طويلة.
قوله: «قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ فِي آثَارِهِمَا»
القائل هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعيد صياغة الحدث بلغته. وقبل ذلك كان ينقل ما يدور من الحوار بين موسى وفتاه. فالآن يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن موسى وفتاه رجعا يتتبعان آثار أقدامهما، ليعودا إلى حيث كانا عند الصخرة. وبالإمكان الآن تخيل الراوي يرافق موسى وفتاه وهما يتتبعان آثار أقدامهما.
وفي هذا الخبر دلالة على أن موسى وفتاه الآن يسافران في الصحراء، فلا إشارات تدل في الطريق الخالي غير أثر الأقدام.
قوله: «فَوَجَدَا فِي الْبَحْرِ كَالطَّاقِ مَمَرَّ الْحُوتِ، فَكَانَ لِفَتَاهُ عَجَباً، وَلِلْحُوتِ سَرَباً»
«الطاقُ»: الفتحة المستديرة في البناء. قال عمرو بن حسان الكلابي:
بَنَى بالغَمْرِ أرْعَنَ مُشْمَخِرّاً
يُغنّي في طوائِقِه الحَمامُ
«مَمَرَّ الْحُوتِ»: بدل عن «الطاقُ» فهو طريق السمكة إلى البحر.
والقائل هو الراوي العليم الذي يسير مع المسافرين، ويصف المكان، ويعيد صياغة كل ذلك في حدث. وهذا الراوي العليم شخصية ابتدعها الرسول وسيلة قص، ليخبر من خلالها بمحتوى ما جرى بلغته.
فالآن يقول الراوي أن قد انفتح في ماء البحر مسربٌ، يشبه النافذة المستديرة، دخلته السمكة، وانسربت خلاله في طريق خاص في البحر. فَكَانَ هذا الطاق في الماء ليوشع عَجَباً، وَلِلْسمكة طريقاً.