تأملات في سورة هود
د. خضر محجز
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)﴿44﴾
ستزول الأرضُ من مدارها، وتهوي الكواكبُ من أفلاكها، وسيرثُ الناسُ أجملَ الأغاني والأشعار من الأجيال القديمة، وسيحفظونها في ألواحٍ من الذهب والمرمر والماس، وسيتسابقون في أيِّ ذلك الأجمل ويتجادلون، ولكن لن يأتي زمنٌ يستطيع فيه مخلوقٌ أن يكتب كلاماً يقترب من هذا المستوى من الجلال والجمال، سمواً وبلاغة وتكثيفاً وروعةَ الخلود، لا حرف يزيد ولا حرف ينقص، ولا يتجاوز اللفظ معناه، فلا يزيد الصوت في المعنى، ولا ينقص المعنى من الصوت، مع ألفاظٍ مُمَوْسَقَةٍ تتراقص دون وَضاعة، وتسمو دون رقاعة، فتقيم بناءً من الكلمات يعجز الكون بما فيه، عن الإتيان بعشر معشاره. فلو قيل إنّ آية واحدةً أعجزت المخلوقين لقلنا: هذه.
لن يستطيع زمن ولا كونٌ أن يأتي بعبارةٍ يسجد الذوقُ الفطير أمامها مسبحاً، لما لا يعلم أسبابه، ويمرغ الذوقُ المثقف أنفه في التراب حسيراً، وهو يعلن خاسئاً أن لا قدرة للمخلوقات على مدى الدهر ـ لو اجتمعت ـ أن تأتي بهذا الحسن والحق، في كلمات هي أجمل من كل اللوحات والمعزوفات.
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾:
لم أكن قد بلغت من العمر والفن ما أستطيع أن أتذوق به الجمال، حين كنتُ أستمع إلى هذه الآية، أو أقرؤها، فأشعر بأن العالم من حولي يتغنى ويضيء ويسبح! أيُّ جمالٍ! وأيُّ روعةٍ! وأيُّ مزمار هذا، لا تُقارن به مزامير داود لو بقيت!
لا يمكن شرح معاني هذا.. لا يمكن.. ولا حتى التفكير في التعبير عن شيء من هذا يمكن.. لا.. لا معزوفةٌ ولا سيمفونيةٌ ولا ترتيلٌ ملائكيٌّ يستطيع أن يبلغ هذا.. وإني لأظن أن سيأتي يومٌ يقف فيه محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السماوات يتلو هذا، يمجّد به العليَّ القدير على مسامعنا، فتزداد السماوات بهاءً، بهذا البيان الإلهي الأعظم.
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾: ثمة ها هنا ما قيل، وقد قيل، دون حاجة إلى تسمية القائل. ولو قد سَمَّىٰ البيانُ القائلَ لانتقص البهاء. وأيُّ شيءٍ لا يعرف من قال هذا؟ فما هو إلا أن قيل ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ حتى علمت الأرضُ من قال، فَلَبَّت وخضعت واستكانت وابتلعت ماءها.
لقد علمت الأرض أن عليها أن تبتلع ماءها، ولو تفجرت، فابتعلته ساجدةً تُسَبِّح من هول الأمرِ وعظمةِ آمرٍ لم تُسَمِّهِ الكلمات.
وما هو إلا أن قيل: ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، حتى أوشكت السماءُ أن تتمزق كِسَفاً من الرَّوع، وقد علمتِ القائلَ وفهمت المقول، فاستكانت وأقلعت، وقد كانت مغيظة من جحود الغارقين، تَوَدُّ أَلّو استمرت تهطل فوقهم إلى يوم القيامة. لكنها أَذِنَتْ للآمرِ، فصدعتْ وحُقّتْ وأقلعتْ وسجدتْ لأمر من تسجد له الأشياء.
قال الله: ﴿ابْلَعِي﴾، وقال الله: ﴿أَقْلِعِي﴾؛ فابتلعت نابعٌ، وأقلعت هاطلٌ.. ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾
يقولون: إنه لا يَغِيْضُ الماءُ إلا لما انتابه من فعلِ فاعلٍ قاهرٍ غاضَ به فغاض. وأقولُ: بل غاض بذاته ينفذ ما أُمِرَ به. فإن قيل: إنه مبني للمجهول فَحَقٌّ، ولكنه بُنِيَ لأمرٍ سَمِعَه فَلبّاهُ، فكيف لَبّاهُ إلا أن يكون قد وُهِبَ وعياً؟ لقد وعىٰ الماءُ الأمرَ فغاض. فلما أنْ ظنَّ ظانٌّ أن الماء فَعَلَ بذاته، قال التنزيل العزيز بأنه فُعِلَ به، إشارةً إلى أنه لا يستطيع إلا أن يُلَبِّي وإن لبّى طائعاً. فالممنوحُ وعياً ها هنا والمُسَيَّرُ المُجبَرُ، يستويان: لهولِ الأمرِ، وعظمةِ الآمرِ الذي جَلَّ وعَزَّ وتَنَزَّهَ أن يُسمَّىٰ.
﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ هكذا ـ ببساطة شديدة ـ صدر الأمرُ من الآمرِ الأوحدِ، لا إله إلا هو، فحدثَ ما أمرَ بهِ الأمرُ، دون ذكر للآمرِ ـ ومتى كان غائباً ليحضر، أو منسياً ليُذْكَر؟ ـ من حيث لا يحتاج أن يُذْكَرَ اسمه ليُقضىٰ أمْرُهُ، بل يُقضىٰ أمْرُهُ فور أن يصدر أَمْرُهُ، فلا يَبِين عن ذاته بكلام، إذ علمت أشياءُ رَبَّها وما قال.
وأما هذا التكثيف المروع في جملة ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فلا يمكن لكل لغات الأرض أن تشرحه، بما يكفيه من العبارات. فقد ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ونَفَذَ الوعد، وهلكَ الهالكون، ونجا الناجون، وغاض ماءُ الأرض في الأرض، وأشرقت بنور ربها الأرضُ، فظهرت جَلِيَّةً بَهِيَّةً وَضّاءَةً، لا يُرى عليها إلا أولياءُ الله، وهم يخرجون من السفينة.
قد ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وتَهَلَّلَتِ السماءُ مستبشرةً ضاحكة، تضيء كوناً بكراً جديداً، لم يشهد معصيةً. فالأرضُ فرحةٌ والسماءُ، والسفينةُ راسيةٌ هناك على الجوديّ ـ الذي يبدو أنه جبلٌ أو تلٌّ أو ما شابه ـ والمؤمنون ينزلون بهدوء، والله ينظر إلى أهل الأرض راضياً، وقد أحبّهم.
قد زال كل ما كان من قبح الكفر، طوال تسعمائة وخمسين عاماً، بجملة من كلمتين: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾. فيا لأَرَضٍ لولا خشيةُ التَّألِّي على الخالق لقلتُ: إنها توشك أن تشبه الأرضَ التي سينزل عليها الجبار يوم القيامة!
قد ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فلما ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ﴿واسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾
استوت السفينة على الجوديّ، بفعل صدور الأمر. وماذا يهمُّني أن يكون الجوديُّ هذا: جبلاً أو تلاً أو شيئاً مما لا أعلم من خلق الله!.. ثم ما يهمُّني إن كان هنا في الجزيرة العربية، أم في آخر مجاهل العالم، مما سوف يُسَمّىٰ ـ فيما بعد ـ أمريكا، أو استراليا، أو أي مكان على الأرض!..
ماذا يهمني من المكان أو المرتَفَعِ، والسفينةُ الآن مستويةٌ ينزل منها الأولياء!
قد اسْتَوَتْ سفينةُ الله عَلَى الْجُودِيِّ فكفاني. أليست هي الآن مستويةً بعد اضطراب؟ أليست راضيةً بعد طول غضب؟ أليست فخورةً بما أُوْكِلَ إليها من مهمة، قامت بها على أكمل وجه؟ ألا يخرج منها عبادُ الله الآن ساجدين مُهَلّلين مسبحين حامدين؟
فما يهمُّ سفينة هذا شأنها أن تكون نزلت على هذا أو ذاك، مما لا نعلم نحن، فنحاول أن نعلم نحن، ما لا ينفعنا نحن، المخلوقات الأكثر جدلاً فيما لا يفيد؟
إنّ ما ينفعنا هو أنّ السفينة استوت، وأنّ الاضطراب سَكَنَ، وأنَّ السماءَ أقلعت، وأنّ الأرض جَفَّت، وأن الأزهار بدأت تخرج من أكمامها، وأنّ المؤمنين الآن يبدأون مرحلة جديدة من الرضا والعبادة.
﴿وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
وعلى نفس النسق السابق لا يُصَرَّحُ بالقائل، لأنه الأسمىٰ ـ من ناحية ـ فلا ينزل إلى مستوى تعريف نفسه؛ ولأنه المعروف لكل المأمورين من ناحية أخرى: معروفٌ للسماء، ومعروفٌ للأرض، ومعروفٌ للماء، ومعروفٌ للسفينة والجوديِّ، وللمؤمنين والظالمين.
وكلهم يعرفونه، ولا يُستبعَدُ منهم ولا يُلعَنُ إلا الظالمون.
قد غرقتِ الأرضُ بكل من فيها وكل ما فيها. فإن وُجد أطفالٌ، فقد علم الله أنهم سيكونون كفاراً، بما قال: ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً﴾ (نوح/27). وإن وُجد من لم تبلغه الدعوة لبعد المسافة، فقد هلك ويُبعث على نِيَّتِهِ.
قد أماتهم الذي قضى على العباد بالموت، وليس موتُهم بالطوفان عقوبةً لهم، فهم سيموتون بالطوفان أو بغيره، ولكن شتان بين موت العاصي، وموت الذي لم تبلغه الرسالة! فهو في رحمةِ مَنْ لن يسأله عما فعل غيرُهُ. ثم متى كان ممنوعاً على الله أن يُميت من لا ذنبَ له، وفي كلِّ وقتٍ يُميتُ الله من هؤلاء ـ بأسباب وبغيرها ـ عدداً لا يُحصى؟
الخلق عباده، والملك له وحده، يفعل فيه ما يشاء، حسب حكمته العالية، فهو الحكيم الخبير.
هذا ما قلناه من كيسنا في كلام مولانا، الذي يستحيل أن يوفيه المخلوقون حقه، ولكن دينونتي لجمال القائل والمقول، هو ما أنطقني. وأستغفر الله العظيم من تقصيري.
ولكن هل يمكن الانتقال من هنا دون تسجيل ما قال سيد بلاغة التفسير جار الله؟ لا أظننا ننتقل من هنا دون نقل كلماته، إلا كرجل ذهب إلى البحر ثم عاد من دون الماء. فاللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان:
قال رحمه الله: “نداء الأرض والسماء، بما يُنادىٰ به الحيوانُ المُمَيِّز، على لفظ التخصيص، والإقبالِ عليهما بالخطابِ من بين سائر المخلوقات، وهو قوله: ﴿يَا أَرْضُ﴾ ﴿وَيَا سَمَاءُ﴾؛ ثم أَمْرُهُما بما يؤمرُ به أهلُ التمييز والعقل من قوله: ﴿ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ و﴿أَقْلِعِي﴾ من الدلالة على الاقتدارِ العظيم؛ وأنّ السماوات والأرضَ وهذه الأجرام العظامَ، منقادةٌ لتكوينه فيها ما يشاء، غيرُ ممتنعةِ عليه، كأنها عقلاء مُمَيِّزون قد عرفوا عظمته وجلالته، وثوابه وعقابه، وقدرته على كل مقدور؛ وتَبَيَّنوا تَحَتُّمَ طاعتِهِ عليهم، وانقيادِهم له. وهم يهابونه، ويفزعون من التوقف دون الامتثال له، والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث. فكما يَرِدُ عليهم أَمْرُهُ، كان المأمورُ به مفعولاً، لا حبسَ، ولا إبطاءَ… ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول، للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمورَ العظامَ لا تكون إلا بفعل فاعلٍ قادر، وتكوينِ مُكَوِّنٍ قاهرٍ. وأنّ فاعلها فاعلٌ واحدٌ، لا يُشارَكُ في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، ولا أن يقضي ذلك الأمرَ الهائلَ غيرُهُ، ولا أن تستوي السفينةُ على متن الجوديِّ، وتستقرُّ عليه، إلا بتسويته وإقراره”.
هذا والله أعلم بمعاني كلماته.
إنه لا يفلح من نسب إلى الله ما لم يقل.
اللهم أَقِلْ عثراتي في تفسير كلامك، فإنما أنا مخلوق يفسر كلاماً أزلياً. وهيهات هيهات.