أنا الأديب الأدباتي..!

 أميرة عبد العزيز | القاهرة
نستكمل حديثنا عن الفن الشعبي برونقه وأسلوبه الفريد وطابعه الخاص الذي لا يُضاهيه فن من الفنون الأخرى لِما يتميزُ به من خصوصية.
ونقول: كان ياما كان منذ عشرات وعشرات السنين كان في الكثير والكثير من السير والملاحم الشعبية التي كان يرويها شعراء يُطلِقونَ عليهم (شعراء الربابة)، والربابة هي آلة موسيقية إستخدمها العرب والترك والفرس قديماً وتعود أصولها إلى ما قبل الميلاد وهي آلة ذات وتر واحد ويُصنع هذا الوتر من خشب الأشجار وباقي الآلة من جلد الماعز، يُطلق عليها آلة النغم والشجن بإمكانها أن تأسر خيالك وأنت تستمع إلى شاعر الربابة وهو يعزف عليها راوياً حكاوي سير الأبطال، وبالرغم من بساطتها إلا أن لديها القدرة الهائلة على تحريك أشجان الإنسانية المتجمدة من حياة يملؤها الجمود والصَخب وتنقلك في وقت قصير من دون إستئذان إلى حياة تسمع من خلال عزفها والملاحم التي يرويها شاعر الربابة مع العزف الموسيقي لصوت الحرية والأمل المتجدد في غَدٍ مشرق.
ولعل من أهم الملاحم والسير الشعبية سيرة ”  علي الزيبق “، إنها ليست ملحمة من الخيال بل هي شخصية لبطل شعبي حقيقي، وواحد من أشهر أبطال السير الشعبية العربية والمصرية.
يقول الشيخ أحمد بن عبد الله المصري مؤلف كتاب (قصة المقدم علي الزيبق) في مقدمة هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. الذي فضَّلَ الخلق من بني آدم على ساير المخلوقات أجمعين. وجعَلَ سير الأولين عبرة للآخرين. ليتعِظ بِسماعِها كل عاقل فطين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. أما بعد فيقول الفقير إلى مولاه. الراجي عفوه ورضاه. الحافظ أحمد بن عبد الله. هذا ما أثبتهُ من قصة العايق المشهور. والفارس المذكور. المقدم علي الزيبق. الذي تفرَّد بالشطارة والزلاقة على جميع من تقدم وسبق. وما جرى له مع المقدمين والعيار والعياق والشطار. الذين حافظوا بغداد ومصر وباقي الديار وضربت بعياقتهم الأمثال في ساير الأقطار فأقول وما توفيقي إلا بالله العزيز الجبار.
وبالطبع فيما بعد رَوت الأجيال قصة ” علي الزيبق ” التي اختلطت بالواقع حيث أنه واجه الإستبداد والفساد وظلم الحُكام في زمن الخليفة العثماني عندما كان يحكم مصر المماليك.
وبدأت حكايته بعد مقتل والده ” حسن رأس الغول ” على يد المقدم ” الكلبي ” بعدما حلَّ مكانه في منصبه، فأرسلَ ” الكلبي ” ” لرأس الغول ” جارية دسَّت له السم في الطعام فقتلته، فجاء علي بالحيل والألاعيب الفردية ليثأر لأبيه وللمجتمع كله من الظلم الواقع عليهم، وعُرِفَ بنصير الشعب الذي إنتَقَمَ من السلطة الظالمة التي سَرقت أحلامهم وقوتهم مما جعله يحتلَّ مكانة في قلوب المصريين ويُخَلَّد في الذِاكرة العربية.
ومن الجدير بالذكر أن الأماكن التي كان يتردد عليها شعراء الربابة هي القهاوي إذ أنهم كانوا على يقين بأن هناك جمهوراً كبير العدد مُهَيأ لتشجيعهم بشتى الطرق وهم يروون هذه السير الشعبية أحياناً بالقراءة وآخرونَ يحفظونها ويروونها عن ظهر قلب.
ولقد كان بعض الشعراء يتبِع الإسلوب الزجلي المرتجل ثمَّ يروي حكايته على أنغام طبلة صغيرة يدقُ عليها بقطعة من الجلد وأحياناً يتناول الحياة العامة بالسخرية والنقد والتجريح وكانت عادة تبدأ جملته الشهيرة: ( أنا الأديب الأدباتي ).
كان ” عبد الله النديم ” أشهر أدباتي في مصر والذي أصبح فيما بعد خطيب الثورة العرابية.
ظلت شخصية الأدباتي من أشهر الشخصيات في الأدب الشعبي المصري لفترة كبيرة من الزمن وساعدَ في بقاءِها أنها ظهرت في صفحات المجلات الفكاهية وكانت أيضاً تُكتَب باللهجة العامية المصرية.
ولعل من أهم الشخصيات الإرتجالية شخصية ” صاحب الأرغول ” الذي يبدأ حكايته الزجلية بالعبارة المشهورة قائلاً: ( الأولة آه.. والتانية آه.. والتالتة آه..! ).
وقيل أنَّ أول من كتب فن الأرغول الشاعر بيرم التونسي وهو فن من الفنون الشعبية كان يُقالُ إرتجالاً على القهاوي أو في وسط الجلسات الثقافية والأدبية، لكن بيرم التونسي جعل هذا الفن مكتوباً مثله كمثل قصيدة شعر أو قصيدة نثرية وذلك منذُ عام 1924 عندما كان في مرسيليا يعمل شيال هناك والذي كان في نفس الوقت في القاهرة توجد لجنة ملنر التي تعُدُ لإصدار ” تصريح 28 فبراير ” فكتبَ بيرم التونسي وقتها على الأرغول قائلاً:
الأولة آه.. والتانية آه.. والتالتة آه..!
الأولة.. بالبنادق سكتوا الثوار.
والتانية.. جا اللورد ملنر يربط الأحرار.
والتالتة.. تصريح في فبراير وأصله هزار.
الأولة.. بالبنادق سكتوا الثوار ومدافع.
والتانية..جا اللورد ملنر يربط الأحرار ويترافع.
والتالتة.. تصريح في فبراير وأصله هزار ومش نافع.
الأولة.. بالبنادق سكتوا الثوار ومدافع أهم فاضلين.
والتانية.. قام لورد ملنر يربط الأحرار ويترافع عن الغايبين.
والتالتة.. تصريح في فبراير وأصله هزار ومش نافع وقولوا آمين.
الأولة.. مين يمزق حجة الطالب في دين مغلوب.
والتانية.. مين بس يمنع حجة الغالب عن المغلوب.
والتالتة.. تسلب ولكن قال لنا السالب أنا المسلوب.
الأولة آه.. والتانية آه.. والتالتة آه..!
ويا له من فن شعبي بأسلوبه الإرتجالي الزجلي البسيط يستطيع الدخول بسرعة إلى قلبك..!
لقد استطاع بيرم التونسي أن يعطي فن الأرغول مساحة أكبر وأشمل بنقله إلى كل جمهور محبي أم كلثوم في أغنية مشهورة من أغانيها كتبها على الأرغول عام 1944 وقام بتلحينها زكريا أحمد والكلمات تقول:
الأولة.. في الغرام والحب شبكوني.
والتانية.. بالإمتثال والصبر أمروني.
والتالتة.. من غير ميعاد راحوا وفاتوني.
وهناك نوعاً آخر من الفنون انتشر أيضاً جنباً إلى جنب مع فن الأرغول له طابعه الخاص هو أيضاً فن من فنون الكلام إنه ( فن القافية )، وإذا ما وُصِفَ فستجد أنه
عبارة عن مباراة كلامية بين شخصين وممكن فيها أن يغضب ويثور أحد الشخصين ولذلك من أهم شروطها عدم الغضب وتَحمل الكلام الذي قد يكون في معظم الأحيان لا يُحتمل لِأنه قد يكون كلاماً لاذِعاً في وصف أحد الشخصين أو وصف الأشياء التي يدخلون فيها مع بعض القافية أوالمباراة الكلامية والأهم فيها ألا يغضب أحد الطرفين وإلا ستنقلب المباراة الكلامية إلى مشادة كلامية وهذا منافي لقاعدة القافية وفيها يقول الشخص جملة ويرد عليه الآخر بكلمة اشمعنى أي ماذا تقصد وهكذا تستمر المباراة الكلامية على هذا المنوال..!
أيضاً انتشرت هذه المباريات الكلامية في الإذاعة بشكل واسع وفكاهي بين الخواجة بيجو وأبو لمعة، كما بدأَ الفنان نجيب الريحاني مشواره الفني بالإتجاه إلى هذا الفن عندما كان يمثل شخصية كشكش بك في مباراة كلامية مع الخواجة بمشاهد تمثيلية ذات طابع كوميدي، إلى أن تطور هذا الفن وأصبحت له مكانة على صفحات المجلات الكوميدية ومن أشهر كُتاب هذه النوعية من الفن الكاتب ( حسين شفيق المصري ).
ولعل من أهم الفنون التي كانت أساس فن السينما هو فن خيال الظل.
لقد كانت مصر عامة والقاهرة على وجه الخصوص مركز إشعاع لكل نهضة في كل المجالات الأدبية والفنية والتي تستحق عن جدارة لقب منارة الفن في الشرق.  
     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى