فقراء اللغة العربية
خالد رمضان | كاتب تربوي مصري
الفقر والغنى طرفان متقابلان، وإن كانا متقاربين، فالفقر يعني العوز والحاجة، والغنى يعني الاستغناء والاكتفاء، وهما غير قاصرين على الأموال، والممتلكات، وما شابهها، ولكن يمتد المعنى لما وراء ذلك بكثير .
قد يكون الفقر في العلم، أو العمل، أو الدين، أو اللغة، وهذا ما نود الحديث عنه، وتُشحذ الأفكار إليه .
وهانحن نُعدّ المحابر، والأقلام لنخط بأناملنا ما أفاء الله به علينا من مكنونات الألفاظ، وذخائر المعاني ما يثلج القلوبَ، ويريح النفوس، وما تحفل به لغتنا الزكية من أرائج تفوح مسكا، وعنبرا .
إن لغتنا المعجزة في قرٱنها، الأبية في مفرداتها، وعلومها لتحمل بين طياتها لآلئ ودررا قلما تجد لها مثيلا، لا يحرزها إلا الهائمون بها، المشغولون بمعانيها، ومفرداتها.
هؤلاء هم المهرة البررة، الذين يستطيعون الغوص في بحارها، يخرجون كنوزها، ويكشفون أسرارها .
إن لغتنا العربية تحتاج إلى ابن بارٍ بها، يخطب ودها، ويدفع مهرها، فليس لها سوى ذلك الولد الحاني، صاحب السليقة، والفطرة السليمة، فإذا أُعجم لسان ذلك الولد، وانعقدت خيوط لغته، وتفلتت أسرار بيانه، فأصبح وكأنه غريب عنها، لا يعرف لها وصفا، ولا رسما، فمن يكون لها؟!
إن الأجيال السابقة كانت أحرص ما تكون على اللغة لفظا، ومعنى، فكانوا ينشّئون أبناءهم على اعتدال ألسنتهم، واستقامة لغتهم .
هذا الخليفة عبد الملك بن مروان كان يرفض أن يكون ابنه الوليد خليفة من بعده، لم ؟
لأنه لا يحسن النحو، ومن هؤلاء من خطب خطبة كاملة تخلو من حرف معين، تخيل هذه القدرة العقلية التي تنتقي كلماتها ارتجالا مفلترا هذه الكلمات قبل أن تنساب على شفتيه، وكيف له أن يلملم أفكاره، وألفاظه في جعبة واحدة فتخرج في قالب محكم لا تشوبها شائبة .
كيف استطاع رجل مثل الخليل بن أحمد الفرهودي أن يجمع حروف اللغة كلها في بيت واحد من الشعر :
صف خلق خود كمثل الشمس إذ بزغت
يحظى الضجيع بها نجلاء معطار
وذلك الرجل الذي يرسل لك بيتا من الشعر جميع حروفه غير متصلة، فيقول :
زر دار ود إن أردت ودودا
زادوك ودا إن رأوك ودودا
كانت اللغة عند هؤلاء طيعة لينة، فهم لا يتعثرون، ولا يتلعثمون، فملأت أقوالهم الدنيا حتى جابت عنان السماء.
ذلك الجيل، والرعيل الأول الذين حذقوا اللغة، وأتقنوها، ورعوها حق رعايتها، فٱتت أكلها ضعفين، وردت لهم جميلهم، وحفظت لهم صنيعهم، فأنزلتهم المنازل، وأوردتهم المناهل، فكانوا الخطباء، والشعراء، والأدباء، ومن رقت لغتهم، ولمعت أسماؤهم في سماء العلم، والأدب، فكانوا النجوم التي أضاؤوها، والريايحين التي عطروها .
فإذا وصل بنا المطاف إلى محطنا الأخير، وتأملنا حالنا، وما ٱل إليه مٱلنا من انحدار، واضمحلال، وكيف أصبحنا في ذيل القافلة، بعدما كنا قادتها تلعثمت ألسنتنا، وضاقت أفكارنا، وتجمدت ألبابنا، فصرنا كهشيم المحتظر، أو كسراب يحسبه الظمٱن ماء، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لحقنا بركب الحضارة فاعوجت ألسنتنا، وتغيرت لكناتنا، وانصب اهتمامنا على لغات غيرنا، فتعلمناها، وعلمناها، فتاهت لغتنا منا، ولو على أعتاب بابنا، فنجد اللحن في الخطابة، والأخطاء في الكتابة، فلا فصاحة، ولا بلاغة .
حقا أصبحنا فقراء لغة، بعدما كنا أثرياء الكلمة على ظهر البسيطة.
إذا كنت متصفحا للمواقع التواصلية، أو بعض الصحف الاستثنائية فستجد بونا شاسعا بين ما كان، وبين ما هو الٱن .
إنك لتعجب كل العجب إذا رأيت هذه الأخطاء تنسب لمن يدعون الثقافة والنباهة، فكأنهم أطفال مبتدئون، أو عجم يتلعثمون .
أين أبناؤك أيتها العربية ؟!
أين من يغوصون، ويبحثون عن مدفوناتنا، وكنوزنا، وأخبارنا، وأشعارنا، فيخرجونها لنا في صورة بهية، حديثة عصرية .
نريد الكتاب، والخطباء ، والفصحاء، والعلماء ، والقصاص، والمبدعين.
نريد اللغة في ثوبها الجديد، فلا تقليد أعمى، ولا تحديث أعيا، إنما نأخذ من خطوط لغتنا العتيقة فننسج إبداعا يأسر الأسماع والأبصار والعقول .
نريد جيلا ينهل من معين الأجيال السابقة، يقتفي أثرهم، ويسير على خطاهم، فلا نوصف بالفقر اللغوي، أو الشح الأدبي فنعود بلغتنا إلى عهود القوة كسابق عهدها القديم .