لغة الفعل وإشارات التنصيص في شعرية الاتصال عند الشاعر الكبير أحمد غراب
عمارة إبراهيم | شاعر وناقد مصري
منذ بدايات اطلاعي علي الأداء الثقافي العربي عبر مناهجه الوهمية التي لم يتم إنتاجها من بيئة لغتنا ومن تنوع ثقافة منتجنا الإبداعي في شتي أشكاله وخاصة الشعر العربي وأنا في حيرة من أمري، ودائما ما أطرح علي نفسي أسئلة لم أجد لها إجابات صحيحة وقادرة علي تصحيح العوالق وازاحة الأوهام والمتاريس التي أوقفت مسيرات التصحيح وإنتاج دلائل علمية ومناهج تبرز قيمة وخصوصية الشعرية العربية،وهي تقف علي أرض الفوران الحالي من تعدد قضايا الأمة، وكان من أهم الأسئلة التي واجهت بها نفسي؛كيف نخرج من أنساق الاستعمار الفكري والمصطلحي الذي لازم حياتنا العربية منذ ولادة العصر الأموي وتوهج بضروراته وانفتاحاته علي الغرب تحديدا من واقع استعماره لأرضنا وبيئتنا التي كانت تحتاج إلي التواصل الإنساني والجمالي والانفتاح التمدني ومجاراتهم _ الغرب _؛ حتي نخرج من ثقافة الصحراء وحروبها ومنازلات القوة فيها بيننا؟
كانت هذه بدايات الخروج عن ملامح عربيتنا والنزول نحو بهرجة الحياة وتمدنها وعما كنا في حاجة إليه، لكننا لم نحسن وفادته الينا بسبب تسخيرنا لأدواته وتقنياته لصالح استهلاكنا واستنزاف وقتنا واقتصادنا
وأيضا عما كنا نميل نحوه.
كانت ثقافة التباهي والمدح والذم وكل روافد ثقافة الصحراء فينا وهي أصل منبتنا، لنترك لها مع هذه البهرجة المدنية الجديدة،لنصبح نحن ومنجزنا الثقافي والإبداعي مدمنين لها ولم نفكر في أمر الاستفادة منها ليكون الأمر في طوعنا وتحت إدارتنا، بل كنا من خضع وأصبح تابعا حتي بات الأمر علي واقعه إلي وقتنا هذا، مما كان له الأثر البالغ في توقف وربما في تشويش مسارات خصوصية البيئة وخصوصية الثقافة ومن ثم خصوصية النتائج في الإبداع والعلم في شتي مناحي الحياة العربية.
كنت في حاجة إلي هذه المقدمة التي حطت بأوجاعي مع أوجاع الشعرية العربية وهي ما زالت تعاني من الخضوع إلي ثقافتين؛حيث لا يزال الكثير من المهتمين ومن المبدعين الوقوف علي أطلال ثقافة التحجر؛ وهي ثقافة الصحراء التي أسس لها السلف والثانية هي ثقافة التمدن التي كان لابد لنا الاستفادة منها كي نقودها وننتج منها حاجاتنا العلمية التي تتناسب معنا في مناحي حياتنا وخاصة الشعر،لا أن نترك لها قيادتنا في كل حارات عربيتنا، لنصبح نسخا أو مسخا بعيدا عن احتياجات وجودنا في الأزمنة المستجدة.
والشعرية سمو وجودها هو خضوعها لبيئتها وثقافتها ومكونها الانساني من تعدد القضايا في العام والخاص، وعليها إبراز فقهها وتشريع مناهجها بحسب روافد بيئتها، لتقود مكونات أحوالها وأدواتها وتطورها واستنطاق محطات أدبياتها وبيانها الجمالي، ليكون الشاعر ابن حاله،واللغة أداته، يطوع منها مقادير فنونها ومحتواها، إذا ما قام بإنتاج أحوالها عبر لغة أفعالها،لتحويلها إلي أنساق جمال الإنسان والطبيعة والشجر والخضرة والمياه وما عن له وما اتسع من فيوضات واقعية حياة البشر والطبيعة ،ليحقق منها ريادتها وتطورها، حتى تتحول إلي تكاملية الوحدات في تعددية الأحوال، وفي بناء ينسجم مع كل ضروراتها حتي تتسق وتتوحد في عجينتها التي يتم تشكيلها.
وقد توهج الشعر العربي في زمننا رغم ضبابية حضوره بسبب الزحام والعراك الدائر بين رواد أشكاله وبين من يسعون إلي تأصيل ثابته الخام الذي لا يتوافق مع بيئتنا وثقافتنا والتطور الذي طرأ علي البشرية في عموم مناحيها،غير أن من لا يتوافقون في حياتهم مع ضرورات التحديث التقني والإنساني يقفون بشدة ضده،ويسعون الي استنهاض تجديدها وتطورها من خلال القضايا السياسية والاجتماعية وأحوال البشرية في عموم الكون،كي يستطيع الشعر العربي منح وجوده من تأثره بكل معطيات مستجد علاقات الذات الخاصة أو المتصلة بالعام ،والمتصلة أو المنفصلة مع المجتمعات،خاصة الحروب الاقتصادية والسياسية التي تدور في العالم الآن ،ليتفاعل معها الشاعر الشاعر ويحولها الي تواترات شعرية تنسجم مع واقعها ومع كل ما يخص أنسنة الحياة،ليحقق لها التطور والمستحدث والمرجو.
كان الشاعر المجدد أحمد غراب واحدا من أهم الشعراء الذين سعوا إلي ملامسة واقعية الذات وأثر هذه المعطيات في بناء شعري مغاير،وقد حقق من هذا التطور انسجاما وضرورة تحققت في تطوير أحوال وقاموس وتقنيات بنيته،ليمنح الشكل العمودي حداثته التي صعبت علي كل أجيال الشعر العربي قبله، ولم يستطع غيره استنهاض هذا الشكل من ركوده وتقليدية كتابته،ظهر ذلك في معظم أعماله الشعرية ليحقق لها ريادة حقيقية؛ يتعلم منها كل شاعر يريد أن يصعد بقصيدته إلي حلم التجديد والتطور إن أراد أن يستمر.
لقد اعاد إلينا قراءة الشعر في هذا الشكل بعد تطوره الذي توقف عند الشاعر محمود حسن إسماعيل.
كما أكد على أنه لايوجد شاعر عربي يكتب أحوال شعريته من دون الاتصال بعوالم المستجد من بيئته،ومن دون إبراز مساراتها المنحرفة عن الثابت في تراثنا الشعري،كي يسعي الي تجديد قاموس بنية وأدوات أحوال كليتها ،لأنه الجزء الأهم في مكونها.
.ونستعرض بعض ملامح هذا التطور الذي أحدثه الشاعر في معظم أعماله الشعرية،وكان محركا وباعثا لفيض طالع من مصبات الشاعر وهو يسعي فيه الي استنهاض أدواته وعوالمه المختمرة بداخله ليغرس بذور محتواه داخل الأرض التي اختارها وانسجم معها من زاوية حضوره وقناعاته الأدبية ومن زاوية أخري يري منها ذوائق جمالية ترتبط بتراثه الشعري الذي انصهر في بوتقة مراسم هذا الطلوع،لكن باستحداث يواكب حركية التطور الإنساني في كل المناحي الإنسانية.
طلوع بدفة الشراع الذي يتناسب معه وفق معطيات الشكل الذي يحقق له حداثته بطرق حداثة السرد السينمائي في إنتاج المناسب من معطي حال النص، وبحسب معطيات دفقة الفعل الذي يرسم عوالمه من حركية تقنية الحوار بين صوت الفعل وبيئته ونسبية حضوره، وبين اللغة المتوافقة مع احتشاد الدوال داخل مجمل دفقات أحوال القصيدة، وربما كانت هذه التقنية هي التي قادت اللغة في مضمار جديد علي مستوي البناء العام داخل القصيدة وغيرها الكثير من الاعمال الكاملة التي صدرت للشاعر
حيث حافظ فيها علي تقليدية البيت في صدره وعجزه؛ لكن بتحويل تقنية التشكيل العام الذي يرسم عوالم الأحوال المتصلة من الكلمة إلي الجملة إلي متمم البيت أو الشطر كي يصل بذلك إلي نتائج دفقة وحركية الأفعال القائدة باستخدام انضباطية سردية مستجدة تلتزم بوحداتها المتحركة والمصحوبة بإيقاع البحر الخليلي وصوره وتعريضاته المستحدثة بحسب الدفقة المتممة التي حققها عبر قصائده.
كانت هذه التقنية الجديدة ترسم أداءها من واقع خبرة الشاعر الواسعة ومن واقع حفظه للكثير من القصائد العمودية التي برز فيها ايقاع البحر الخليلي علي حساب الإيقاع الداخلي مما سهل عليه انتاج هذه التقنية الشعرية في عمل مثالي بين لغة الفعل وايقاع البحر وبين القاموس المناسب له، بعيدا عن نظم البيت ومن ثم النص.
علي سبيل المثال لو دققنا في تشكيل البنية العامة في بعض الأشطر من قصيدة ” انصهار” (1).
إسكنيني كما تريدين لكن
لاتكوني. زوابعا……….وغبارا
حيث يأتي الشطر الأول من أربع كلمات متصلة من دون فواصل كما نقرأ،ثم تتوقف دفقة الفعل عند “لكن” التي انهي الشاعر بها شطر البيت الأول ليستكمل بعدها بنية أحوال الشطر الثاني بدفقة الفعل المتممة لسياق الحال بجملة “لا تكوني “، ثم يضع نقطة لفصل مشهدية المعني المتمم دلاليا لدفقة حركية فعل الأحوال المتمم والمتصل بشطر البيت الذي يليه، ثم يستكمل بكلمة “زوابعا” ثم يتوقف بوضع نقاط “…..” وكأنها ترسم عوالم متممة في للدلالات التي أبرزها الشاعر في رسم التوصيل الذي تمم المشهد وتواصل دلاليا مع كلمة ” وغبارا ” التي أنهي بها الشطر الثاني ملتزما بتفعيلة بحر الخفيف “فاعلاتن، متفعلن، فاعلاتن” مثلما حافظ علي القافية ودوائرها حتي انتهاء القصيدة.
ليستكمل البنية العامة للقصيدة بهذه التقنية المستجدة علي أحوال الشكل العمودي وقد وجد فيه رطب زرع وديانه في صحراء هذا الشكل، ليحفر من جوف اللغة وبيئتها أبار الماء حتي تعيد له مستجد الخضرة.
يقول أحمد غراب:
أنت أحلى عصفورة حين تغفو
في ذراعي. تحيلني…. أشجارا
لملميني. حقيبة. من هدير
كى أراني. نوارسا ومحارا
إنني أقبل الوجود. كبحر
رافضا. أن أكون… يوما جدارا
فاكتبيني. قصيدة. من حنين
تمسح الدمع من عيون الحياري
كل مافيك. يكتب. الآن شعرا
ويغني…… ويعزف الأوتارا
ويلعب التنغيم الخليلي دورا مهما داخل قصائد أحمد غراب بماهياته الثابتة داخل القصائد؛ بعدما قام الشاعر بالحفاظ علي بنية تفعيلات البحر الصارمة التي استخدمها،ليمنحها بعض الأنساق الحالية التي لم تخل بنسق البحر في صرامة تفعيلاته،بل أضافت له درامية النسق الحالي صورا مستجدة في الشكل وفي حركية الفعل في تداخلهما التقني من دون الاستفادة من مجزوء وأعاريض البحر داخل القصيدة،ولو دققنا في البحر الذي بنيت عليه قصيدة انصهار علي سبيل المثال سنجد:
بحر الخفيف وتفعيلاته؛(فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن) تستخدم في صدر البيت وعجزه، ويجيء البحر تاما ومجزوءا، وأعاريضه ثلاث،وأضربه خمسة. غير أن الشاعر هنا لم يستخدم هذه الأعاريض ومجزوء البحر ليحافظ علي هذا النسق في معظم أشطر القصيدة
كما أن هذا الاستخدام التنغيمي قد ساعد الشاعر في اتساع دفقة الأحوال من سردية الحدث إلي أسلوب مسرحة الأحوال داخل القصيدة لخلق حوارات داخلية وتوليد الدراما التي تتناسب مع شحنة الدفقة الشعرية لتحولها الي نسق ممسرح داخل النص الشعري وكأنه يكتب قصيدة التفعيلة من الشعر الحر؛ حيث تعتمد هذه الكتابة علي هذا النسق التقني الذي يستخدم الفواصل والنقاط والأقواس وكل ماهو ليس كلمة أو جملة أقول يستخدمها متصلا أو منفصلا لاستكمال درامية السرد حتي تكون جزءا تعبيريا متمما لانساقه الدرامية التي يسعي إليها في نصوصه الشعرية، بأن حول كتابة القصيدة لديه من تقنية الشعر الحر إلي نفس أنساق التشكيل داخل الشكل العمودي.
ويستمر الشاعر في نحت تشكيلاته الفنية التي تتناغم مع عوالمه الكلية في قدرة لا يملكها غيره،بأن يستخدم علامات التنصيص من النقطة والفاصلة وعلامة التعجب والاستفهام، ليربط بهم العوالم الداخلية بأخري خارجية،تتمم له درامية الحدث في سياق حداثي، يؤكد منه علي مدي أهمية ارتباطهما في القصيدة،_ العوالم الداخلية،الخارجية_، بالعوالم المشتركة التي تربط الأحداث ودراميتها،هذه الاشارات المتصلةأوالمنفصلة،يتم توظيفها،لترتبط بأحوال النص وقت معايشته لها وقد حققت له مساحات جمالية تضاف الي ذات الأحوال العامة التي تعايش معها وارتبط بها ارتباطا عضويا فمنح الذات الشاعرة حقولا خصبة ترسم خضرتها وسط الوديان الصفراء الجرداء التي كانت تفتقر إلي الحياة وتحتاج إلي توافقها مع تحديثات البشر والالة، لتكون منتجعا،جمالياته متفوقة؛ يروض فيها اللغة الخام فيحيلها إلي لغة الفعل الذي أمسك اللجام وأنتج درامية السرد في مسار شعرية مغايرة، تجدها ممسرحة في قصائد، وأخري تحلق داخل فضاءات السرد الشعري بين سماوات لم يسبق لها الوجود في تشكيلات قصيدة الشكل العمودي ،كان ذلك نتاج دفقة أفعال اللغة التي تربط عوالم اتصال لغة الفعل بالعوالم الاخري غير ظاهرة، يتكئ فيها الشاعر علي لغة العلامات التي أضافها وحقق منها أنساقا دلالية جديدة،تمنحها الأحوال العامة مصباتها كسريان الماء داخل مجراه، بل تتجاوز نحو التشكيل في بناء الشطر، ثم الذي يليه،ثم مجمل أحوال القصيدة،بأن وضع علامات التواتر الدرامي التي تفصل دفقة الفعل في شريانها الدلالي عن ما قبلها أو بعدها، كي تحقق حضورا ما، يضاف أو يبتر دلالات أخري عن سردية أخري يضع مكانها هذه الاشارات حتي يتمم حضورها القارئ الذي يضع لمسته الفاعلة مع الشاعر،هذه الاشارات لم تبرزها لغة الفعل داخل سياق الشطر الشعري، بل منحته التواصل معها لإنتاج الدلالة التي يجدها مناسبة،وقد تختلف من قارئ لآخر،وهذا الاتجاه التقني في قصيدة الشكل العمود منح القارئ أو المتلقي مشاركة الحضور الميداني لأحوال القصيدة،وجعلك كأنك تشاهد فيلما سينمائيا يمتلك مع الحوار فواصل وإشارات متصله بكل ما يري بالعين في المشهد، بأن يصنع معه ما عن له “القارئ” من إضافات أخري يشاركه فيها أحوال الكتابة، ويجعله جزءا مكملا لهذه الأحوال التي تتعدد فيها دلالة الفعل ويجعل من ميدانها اتصالا مباشرا بين النص وبين قارئه.
يقول الشاعر في قصيدة ” مدينة شهر زاد” (2)
سل ذا الذي يجري كنهر عاشق
مازال يسأل….عن سفين السندباد
_هذا أنا من ألف عام في الهوي
أظمي من الكثبان.. في تلك البلاد
_من ألف عام
_ألف طعنة خنجر
إني جراحات…لها طبع العناد
جربت نيران الغرام جميعها
وعرفت كيف..أظل دوما في اتقاد
_كم مت؟
_مرات…. كجوع قصيدة
للحرف…؛ مرات…بلا ماء وزاد
وتتسارع معطيات حضور حداثة مصب مجريات العوالم الداخلية والخارجية التي أخذت بيد الشاعر لاستلهام منابع أخري يزين بها بنية الشكل ومنتج الدوال داخل البناء العام في النص بأن يجعل القارئ يعيش مخزونه الإنساني الشعري ويشاركه الفاعلية.
لنري مشهدا علي سبيل المثال من تعددية المشاهد المرئية التي أحدثتها هذه التقنية التي برع فيها كبار شعراء قصيدة التفعيلة وكان يصعب توظيفها في الشعر العمودي بسبب الإلتزام العضوي بعدد التفعيلات للبحر الخليلي ودوائرة المتصلة بالقافية حيث لا يمنح هذا الإلتزام الشاعر باتساع دفقة أحواله التي ترتبط بعدد محدد من الكلام داخل صدر البيت وعجزه، وسأنسخ كتابة الشاعر نفسها كمثال تضميني لرؤيتي،من دون تدخل أو إضافة:
سل ذا الذي يجري كنهر عاشق
ما زال يسأل .. عن سفين السندباد
يبدأ الشاعر الشطر من القصيدة بفعل الأمر “سل” المتصل بحرف الإشارة “ذا” يمد وصلهما باسم الوصل “الذي” ثم فعل المضارع “يجري” فيكتمل المعني الدال إلي أداة التشبيه الموصولة بكلمة “نهر” في بناء شعري تناغم مع تفعيلات بحر” الكامل” ليرسم بتقنية الفصل والتوصيل عبر القطع والاتصال مسارات حداثية جديدة، يكون البطل فيها فعل اللغة الذي أنتج تناغمية الصورة مع تجانسية الإشارات التي تضمنها البيت، أو الأبيات الشعرية مع إيقاع تفعيلة بحر الكامل مع البنية العامة للقصيدة وفق محدداتها في بناء شعري فخيم حقق اضافات جمالية ارتكزت عليها الأحوال العامة في القصيدة، لا يمكن لك كقارئ متخصص أن تصمد أمام هذه الحبكة الجمالية التي يتناغم فيها كل شيء من الحرف والكلمة والدلالة التي يمكن للقارئ أن يضيفها أو يشاركها في حوار ممسرح سندلل عليه في الأشطر التالية أيضا:
_ كم مت؟_مرات..كجوع قصيدة
للحرف…؛ مرات..بلا ماء وزاد
-إني أراك اثنين _إني سبعة
أنا مثل أخيلة المرايا. في ازدياد
أمشي وأهتف…أيها الظل الذي
يمشي.. معي رغم الزوابع لا ارتداد
والآن دعني كي أظل مسافرا
في الوهم…أبحث عن مدينة شهرزاد
وتتواصل مسارات التطور للشاعر المجدد أحمد غراب في أعماله الشعرية التي أنجزها علي مستويات التقنية المتعددة، حيث قمنا بذكر أهمها هنا، وعددنا أمثلة ميدانية من واقع بعض المقاطع لقصائده، دللنا فيها علي هذه المسارات ذات التطور التقني وارتباطها بتطور الأفعال، وحركيتها وإدارة أحوالها داخل قصائده؛غير أن قصيدة الماء (3) قد أبرزت لنا تقنية قيادة الذات لأفعال الأحوال في الشكل العمودي،التي حلقت عبر قاموس انحرف بشدة نحو علاقات هذه الذات بقاموس الطبيعة ليرسم منه عوالم تشكيلاته في القصيدة وكانت تقنية الماء التي منح بها القصيدة سيادة حضوره باعتبار الماء هو جوهر الوجود للإنسان والأرض والطبيعة وبقية المخلوقات، ليرسم في ملامح الوجه، أيضا يمنحه جينة الذات التي تربطه بالجينات الاخري المتوغلة في دمه ودم والده وأمه وأيضا البيئة التي منحته صك اللغة وثقافة التفاعل الإنساني،وقلبه الثاني الذي لا يقبل الشراء ولا يقبل أن يكون عرقه هو غير كحل الأرض أو رموشها الممهور من رابط هذه الملامح ذات السيادة من خصوصية الماء.
كان ذلك هو الرابط في عضويته واتسجامه ومعايشته مع العجينة الكلية التي تجمع بينه وبين انتمائه العضوي مع كل مسبباتها التي شكلت وجدانه حتي انطلقت منها وفيها لتعبر وترسم كينونته ومصيره، بعدما امتلأ بها وحط في شريانها صيرورة وكينونة مراسمها، ليجعلها وشما ونجمة شقراء فوق ذراعه لا يعلم الليل ولا تعلم الظلمة عنها شيئا.
بقول أحمد غراب من قصيدة الماء:
أنا لست كحل الأرض لست رموشها
أنا قلبها الثاني.. الذي لايشترى
أني انطلقت ففي ذراعي نجمة
شقراء عنها الليل يوما.. مادرى
وأنا ضجيج الصمت لاأدري متي
سكنت. سفوح دمي ملايين الورى
في التيه بعد التيه صاحبت الحصي
فغدوت رملي الملامح……. أغبرا
ولأن أمي من شقيقات الضحي
فالليل يقرأني….. نهارا أسمرا
ولأنني يوما. عثرت بجبهتي
أصبحت في الطرقات أمشى القهقرى
ولأن لي في كل أفق غيمة
أصبحت في كل المواسم ممطرا
يعدد الشاعر صور المكونات الإنسانية التي جمعته في عاطفة تعزز وجوده
وحضوره وفعله وعلاقاته ولغته ومستجد تطور كل هذه الضرورات الحياتية
في مسارات الفعل الإنساني المشترك علي الأرض، حتي أن الشاعر هنا أنسن كل شيء في بيئته،لينتجها قلبا ثانيا له،يعضد ويقوي ملامحه بجيناتها وملامح أرضه وأبيه وأمه وبيئته وثقافته ولغته،ليمثل حضورا دامغا وسيدا للذات الشاعرة والبشر والحياة
وأختتم هنا ببيت يلخص ما ذكرته، بأن تقنية استخدام مفردة الماء هي البطل وسيد النص الشعري الذي يربط ذاته الشاعرة بها، فيتسيدا “الماء، الذات الشاعرة” حقول وخضرة القصيدة.
يقول:
ماء على ماء ولست بخائف
فأنا. أسير. أجر. خلفي…..أنهرا
=====
إن الكتابة الشعرية تحدد ماهياتها من أنساق تعدد الأشكال وتطور طبيعة معطياتها عبر الزمن وفق محددات تتلخص في إنتاج الجديد من الادوات ومن التقنية، مثل توسيع رقعة القاموس بمستجد المفردات،أيضا حداثة السرد العضوي عبر تشكيل شعري متدفق في كل الاشكال، والشكل العمودي الذي تناول فيه الشاعر تجربته؛ لتبدأ وتنتهي القصيدة في مجري شعرية الأحوال التي لا تقبل رص الحروف لإنتاج كلمة وجملة ذات إيقاع حسابي؛بل تتوغل الأفعال بدفقاتها في حراك يدير كل المشاهد داخله وتواصلها،ليتحقق منها الدال والنتائج العامة للشعرية في بناء فخيم تزينه ملامح بيئته وثقافته كي لاتنتج الخلل الجمالي في المسعي التشكيلي في البناء الكلي للقصيدة وللتجربة، بعيدا عن رسم إيقاع البحر الذي تبني عليه كتابة النظم الذي أضر بشعريتنا وجعل كل من يقف من ناظميه علي منابرنا يتباهي، وكأنه صنع سمكة من البلاستيك ورمي بها في بحرها الواسع لتعيش وتتنفس!
نعم، نحن مع القصيدة التي تمتلك إيقاع البحر بقوانينه وتتفسح في بعض زحافاته والقليل من ضروراته،ليمنح الشاعر فيها دفقة الأحوال مرورا طريا ومساحات فوران تحقق إنتاج الدهشة وتتوافق مع احتياجات الشعرية من مستجد تطورها الذي يتوافق مع الثقافة الآنية ليكون زمن ومكان كتابتها متصلا مع واقعيتها، لتأصيل مجراها داخل مبناها العام، كما أن شعريه أحمد غراب لا تحتاج إلي دعم نقدي يفكك شفرات حضورها، أويمنح القارئ تفسيرات أو شروحات لمسار بنائها؛بل تحقق اللغة البسيطة فيها الضمانة الجمالية التي ترشده إلي التراكيب البسيطة مع انسجام الإيقاع من دون تحجيم دفقة الأفعال أو وضع متاريس ذهنية ضد مساراتها أو تواتر حركية أفعالها،كي تتصاعد دراميتها في ضفيرة الذات المحلقة في فضاءات التجربة،لتبتكر إنتاج الصور الكلية في تواشجية المعني مع تناص التراث الموظف والمعارف والعلوم المكملة لإنتاج الجماليات التي تخرج في اكتمال الذات البطل داخل القصيدة، ليمنحنا قصيدة تنتصر علي الثابت وضيق محتواه الإنساني والعلمي وضيق الانسجام مع كل جمال يرسمه الشاعر ويسعي منه لأن يكون سمو الإنسان في قصيدة.
المراجع:
1 _ راجع قصيدة انصهار، نشرت في مجموعة الأعمال الكاملة،الجزء الثاني”- خارطة للسماء في 2011 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2 _ راجع قصيدة مدينة شهر زاد، من ديوان نقوش علي جدار الصمت، صدر في 1990 بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
3 _ راجع قصيدة الماء، من ديوان الأنا الثاني، عام 2018 دار طيوف للنشر.