مشاعر مبعثرة.. قراءة في قصيدة (تعال معي) للسورية سمر الغوطاني

د. جمال فودة | كلية الآداب جامعة الزقازيق

عضو الاتحاد الدولي للغة العربية وكاتب وناقد وأكاديمي مصري

   إن قصيدة النثر تعتمد تقنيات أسلوبية تعكس جمالياتها في صورة مبتكرة تجسد رؤية الشاعر لواقعه من زاوية جديدة، ومن ثم صياغتها في سياقات دلالية تنعكس على العلاقة اللفظية وبنية التراكيب ، والغالب أنه  لا توجد معايير ثابتة لقصيدة النثر، وإن كانت من وجهة نظر بعض المحدثين تعكس تحرر الشاعر من فكرة البحث عن كلمات محددة تكمل القافية ، و ربما تخل بالمعنى من أجل الالتزام بوزن القصيدة، خاصة مع ما تشهده اللغة من تطور مستمر أبعد كثيرًا من المصطلحات والعبارات والمفردات الكلاسيكية والقديمة؛ فصارت كتابة قصيدة حرة تحمل وزنها في معناها أجمل من الالتزام بالإيقاع العروضي .

   ويمكن القول إن قصيدة النثر تعتبر مرحلة جديدة، وشكلًا من أشكال تطور الشعر الحديث، والحقيقة ان هناك تداخل وتشابه بين عدة مصطلحات تدور في فلك هذا النمط الشعري؛ مثل النثر الشعري والشعر المنثور وقصيدة النثر. 

ولقد استطاعت قصيدة النثر ان تجمع بين صفات الشعر والنثر جمعاً مادياً دلالياً ونفسياً؛ إذ تقوم على اختيار واعٍ لعناصر ومقومات من النمطين وإعادة توزيعها على نحو إبداعي ينتج منطقة ثالثة لها مواصفاتها الخاصة وجمالياتها الجديدة.

   وها نحن بين يدي واحدة من روائع الشاعرة (سمر الغوطاني) إحدى مبدعات قصيدة النثر في العصر الحديث.

تقول:

تعال معي

نقص جدائل الغيم

نحبس الدنيا بين

السبابة والإبهام

نرقص العصافير

في يوم جديد 

تعال معي

نزنر بالرجاء

دمعنا 

نقبس السنا لرؤانا

لتذاكر الوردة أسرار

العبير 

تعال…. لليل أخيلةُ

ونجوم..

زركشات حلم

فوق الحرير

تعال نرقص

نحيط بخصر الفرح

فتغدو في الروح أنا

وعلى هدى النبض نسير

ننقل الخطا 

جناحان لي

جناحان لك

والكون برق رعشة…

   بنكهة رومانسية حالمة تصوغ الشاعرة كلماتها بأسلوب شيق ثري بالجمال، والرقة والعذوبة؛ لتعانق آفاق الروح؛ فترصد نبضات قلب بحجم الكون يبث مشاعره الإنسانية الدافئة التي تدعو إلى التفاؤل والمحبة، وتدفع إلى الأمل في بساطة شعرية خالية من التعقيد، وفي فلسفة واضحة لا يفسدها غموض.

   فالحياة تجربة لابد أن نعيشه بحلوها ومرها، وبهذه النظرة التأملية للحياة تدعونا الشاعرة من خلال هذه القصيدة إلى التفاؤل والأمل والابتعاد عن التشاؤم بأسلوب فلسفي تأملي.

   تبدو هذه المقطوعة الصغيرة حافلة برموز إيحائية ودلالات نفسية، واستبطان لخلجات الوجدان وومضات الفكر، ذلك أن الشاعرة مادامت قد أصبحت لها رؤية خاصة في إطار تجربتها، ومادامت تستعين باللغة الإيحائية وليس باللغة المعجمية وسيلة للكشف والتعبير، فإن اللفظة تتجاوز معناها المعجمي إلى دلالة خاصة تتسق ورؤية الشاعرة، تقول سمر الغوطاني:

تعال معي

نقص جدائل الغيم

نحبس الدنيا بين

السبابة والإبهام

نرقص العصافير

في يوم جديد 

تعال معي

نزنر بالرجاء

دمعنا 

نقبس السنا لرؤانا

لتذاكر الوردة أسرار

العبير 

   إن بنية الدلالة تتنامى لتخلق على مستوى التركيب تقابلاً يتخطى ظاهر اللفظ إلى باطنه، ينزع هذا الغلاف الخارجي فيصل إلى جوهر الدلالة، ليبرز لنا هذا التقابل (نقص جدائل الغيم) (نحبس الدنيا) (نزنر بالرجاء دمعنا) مع (نرقص العصافير)، (نقبس السنا) فالمقابلة في هذا السياق تثرى الحركة المطروحة على مستوى النص، حيث لا تتأتى للفرح بهجته إلا من خلال إطار الحزن الذي يغلفه ويحيط به، (نزنر بالرجاء دمعنا) ولا يكتسب الأمل دلالته المحددة إلا من خلال السياق الذي ورد فيه اليأس.

   ففي إطار الشعور بالأمل يتجه الخطاب إلى استدعاء بواعثه؛ كنوع من التفاؤل الذي يمنح النفس الثقة بالغد، وقيمة تلك الصور الجزئية تكمن في إحداث التماثل، وكأن هناك طاقات روحية إيحائية هي القادرة على جمع المفردات في ثنايا الصورة التي تعكس الحالة النفسية التي تعيشها الشاعرة.

   إن تذوق النص الأدبي عند (سمر الغوطاني) يتوقف إلى حدّ بعيد على فهم دلالات الكلمات ـ في مستواها المعجمي- بوصفها وحدة لسانية ذات إشارات أولية داخل الخطاب غير أن دراسة الكلمات في حدّ ذاتها لا تمثل شيئاً في فهم العمل الأدبي، بل إن هذا الفهم لا يتمثل إلا في العلاقات بين الكلمات، مثل هذه الرؤية الدلالية التي تعمل على تقريب أبعاد النص إلى ذهن المتلقي من خلال الوقوف على التواشجات النوعية التي يتم بها تشكيل النص، إذ إن الطريقة التي يتم بها تركيب بنية النص هي التي تمنح النص قيمته التعبيرية والإيحائية.

   وفي بنية أسلوبية تجسد لنا (سمر الغوطاني) حالة وجدانية ذات دلالات إيحائية تتخطى المستوى السطحي للتراكيب؛ إذ توزعت أبعادها على ثنائية الحضور والغياب، تقول:

تعال…. لليل أخيلةُ

ونجوم..

زركشات حلم

فوق الحرير

تعال نرقص

نحيط بخصر الفرح

فتغدو في الروح أنا

وعلى هدى النبض نسير

ننقل الخطا 

جناحان لي

جناحان لك

والكون برق رعشة…

   إنّ الحضور السياقي في هذه الأبنية يتوجه إلى (أنت) ويرتد إلى (أنا)، وقد سيطر هذا الأخير على نسق الحضور في النص، وربما يعود السبب في هيمنة هذا النمط إلى أنّ الشاعرة كانت في فورة الشوق والإحساس بالفقد توجه الخطاب إلى الآخر، وتتمنى حضوره، ومن اللافت في شعر (سمر الغوطاني) اعتمادها بصورة كبيرة على الفعل في بناء قصائدها، ولا شك أن بناء الجملة في كل قصيدة له سمات نحوية ودلالية تنتج عن تفاعل المفردات مع الوظائف النحوية، ومن خلال تجاوز قوانين الاختيار بين المفردات والوظائف النحوية يكون الإبداع في تشكيل القصيدة.

حيث نرصد في النص تردد فعل الأمر (تعال) ثلاث مرات، ومن ثمَّ جاء هذا المقطع حاملاً نوعاً من التوازي بين البنية اللغوية والحالة النفسية، إذ يتم إنتاج الدلالة في وسط ينتمي إلى المستقبل من خلال مجموعة المضارعات؛ حيث تردد الفعل المضارع عشر مرات (نقص، نحبس، نرقص، نزنر، نقبس، تذاكر، نرقص، نحيط، تغدو، نسير، ننقل) ، وكلها تمثل بعداً زمنياً خاصاً، حيث تشد الماضي إلى فلك الحاضر لاستعادة علاقة جديدة بعيدة عن هموم الواقع، علاقة تشكل عالماً جديداً من الصفاء والنقاء.

   في الحقيقة لقد بهرني شعر (سمر الغوطاني) بطابعه الفني والإنساني، وحسبي في ختام هذه القراءة أن أقول إنها مبدعة لا تُعرف وإنما يُتعرف عليها من خلال شعرها فهو لسان حالها وترجمان ذاتها، لقد وجدت فيها صوتاً من أصوات الحركة الشعرية الراهنة في ثقافتنا العربية، ولا تفي هذه القراءة العجلى بما يستحقه شعرها من نظرات أخرى للوقوف على أسراره وسبر أغواره، وهذا ما نرجوه في المستقبل القريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى