العقلانية الفلسفية والعلمية بين الجدل والجدال

عماد خالد رحمة | برلين 

الجدل من أهم القضايا الفلسفية والمفاهيمية والفكرية التي تواجه الإنسان ،وهو من أسس أي تفكيرٍ إنساني يعمل على تفجيرالأسئلة وإبداء النقاش، وآية ذلك أنه لم يكن التطوّر العلمي بكل مراحله ومنعطفاته ومنعرجاته إلا نتيجةَ صراعٍ متواصل مع أسئلة كبرى تركت أثرها في العقل والشعور والوجدان الإنساني، وهي أيضاً مقارعة وجودٍ، ومساءلة أزمةٍ، بل أزمات. اختلافات متفاوتة بين اليونان والرومان والجرمان، وسواهم. اختلفت اهتمامات المجموعات البشرية وتنوّعت بين القانون والسياسة والفلسفة والهندسة إلى إدمان القتال والحروب، ونظم الشعر وإنتاج الإبداع الأدبي والفكري. كل ذلك الحراك يترك وراءه أخاديد من التطوّر والتقدّم، فالعلم بمجمله تاريخ اختلافات وتناقضات أو أثر (أخطاء) كما هي عبارة الابستمولوجي الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، ولكن مع تحوّلات المعرفة بعد النهضات والصراعات والثورات، وحين نضجت مجمل المجالات، وأصبح لكل مجال تأسيسه ونظامه وفلسفته، بات النقاش والسجال أساس تفجّر التيارات و المذاهب.
لقد استفادت معظم العلوم الإنسانية من مراكز صناعة الصراعات السياسية والحزبية، وأثْرت الثورات والحروب وتشظّياتها بإنتاج مذاهب وتيارات متفرّعة متجاوزة، وإذا خصصنا الحديث عن الفلسفة وعمقها، فإن الواقع بكل ثقله له أثره في تثوير التيارات المتناحرة والمتضاربة، وشهد تاريخها نزاعات وصراعاتٍ حادة ومريرة وصلت إلى حد العته والجنون، بالهجوم الشخصي المتبادل بين كبار الفلاسفة، مثل خلاف الفيلسوف الألماني ارتور شوبنهاور، والفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيغل، وهيغل هو المسؤول عن لجنة الامتحان خلفاً للفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيخته، فقداختلفا بشكلٍ عنيف حتى وصف الفيلسوف الألماني ارتور شبنهور، جورج هيغل بـ (المشعوذ) وبأوصاف أخرى تُنظر بمقدمة كتاب (نقد الفلسفة الكانطية) للفيلسوف أرتور شبنهاور.
وهكذا فقد أسهمت ساحات النقاش بكل أشكالها وتنوعها حتى من دون ترتيب في إنتاجٍ مختلف، وحين تخاصم طويلاً الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس اللذان لم يلتقيا إلا بعد مدة طويلة، وأثمر اللقاء الهام عن انتاج كتابٍ مشترك حول (الفلسفة والإرهاب) بمبادرة من الباحثة الأمريكية من أصل إيطالي جيوفانا بورادوري مؤلفة كتاب (الفلسفة في زمن الإرهاب) .
لقد بنى الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلارفلسفته المنفتحة على الكثير من الأفكار والمفاهيم الأساسية التالية: ومفهوم الجدل، ومفهوم العائق الأبستمولوجي، ومفهوم القطيعة الأبستمولوجية .
إنَّ فلسفة العلوم المعاصرة تجاوبت بعض تياراتها الفلسفية مع إشكالية نتائج العلوم المعاصرة كتيار مدرسة كمبردج التي كان يتزعمها برتراند رسل وهي مدرسة فلسفية تحليلية متخصصة بالتحليل اللغوي أو المنطقي وتدعى في وقتنا الراهن بفلسفة اكسفورد أو فلسفة اللغة العادية، ومعظم الفلاسفة والمفكرين الغربيين يؤيدونها، وعلى رأسهم جورج ادوارد مور، كما اتجه لودفيغ فتجنشتاين وجهةً جديدةً وانحرف به الفيلسوف البريطاني (ألفرد جول آير) عن طريقه، وأعاده ( جون واسدوم (وطوّره إلى التحليل العلاجي أو وصل إلى المأزق على يد (جون لانجشو اوستين) و(جالين ستراوسون). من هنا يمكننا أن نقول أنَّ هناك فلاسفة تحليليون لا فلسفة تحليلية ،مع أنّ خبير البيئة (هنريك سكوليموفسكي) عرض خصائصها في ابراز دور اللغة الفعّال في الفلسفة .
هناك في جدلية العقل والعلم منظور ابستمولوجي عام أسّس لتيار الوضعية الجديدة (حلقة فيينا) والتيارين اللذين يعارضان ذلك التياران مثل تيار (كارل بوبر)، و(توماس كون) وخصصا فصلاً طويلاً للابستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار صاحب مدرسة الرفض لأهمية ما يطرحه من موقف فلسفي منفتح ،وهو صاحب فكرة مطابقة العلم والعقل الأكثر تطويراً تطوراً. فالعلاقة بين العلم، والعقل، أو قل جدليتهما، من أهم مظاهر الجدل في العلم .
الجدير بالذكر أنّ هناك فرق واضح بين الجدل والجدال ،فالجدل هو القياس المؤلف من المسلَّمات والمشهورات، والهدف منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن فهم وإدراك مقدمات البرهان. وقيل أيضاً دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بشبهة أو بحجةٍ أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة بعينها .
والجَدَل: اللدد في القدرة والخصومة عليها، وجادله أي،خاصمه. مجادلة وجدالاً. والجدل: مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، والجدالُ: الخصومة، سمي بذلك لشدته. قال عبد القاهر الجرجاني: الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله: بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه وقال أيضاً: الجدال: هو عبارة عن مراء يتعلَّق بإظهار المذاهب وتقريرها.
أما الجِدال، فهو المفاوضة على سبيل المغالبة والمنازعة، وأصله من جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله ومنه: الجدال، فكأن المْتَجَادِلَين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه وما يعتقد. وقيل: الأصل في الجدال: الصراع والنزاع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة.
وقال محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي المتخصص في علم التفسير وعلم الحديث، الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجَدْلِ وهو الفتل، ومنه زمام مجدول. وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض.والمِراء في اللغة: الجدال، والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشكِّ والريبة .
سؤال طرحه الابستمولوجي غاستون باشلار في كتابه (فلسفة الرفض). وفي رده يقول: (يجب على العقل أن يستفيد من كل فرص التعقل وهذا أمر هام، يتوجب عليه البحث عن تباينات التعقّل أو بكلام أفضل تنوع المعاقلات. والحال أن تباينات التعقل هي كثيرة في علوم الفيزياء والهندسة، وكلها متكافلة مع جدل الأسس العقلية). فالجدلي هو العقلاني المنخرط في إشكالية هذه الجدليات المتنوعة التي تتطلب إدخال منطق جديد، بدل المنطق الأرسطي الثنائي القيم.وبهذا التفتح المنطقي على فرص التعقل في الفكر العلمي الجديد من تركيبات وجدليات، وتوليفات، في العلم، بنى غاستون باشلار فلسفته التي يسميها تارة الفلسفة الجدلية وتارة الفلسفة المنفتحة، وتارة فلسفة الرفض أي (فلسفة لا).
لم تتوقف بعض الحركات الأمريكية المستندة على المنطق الرمزي بهدف تربية اللاأرسطوطاليسية للأطفال، فالطفل يعتبر بمثابة ميدان خاص، ولِدَ بدماغٍ غير متكامل، وليس كما تقول مصادر العلوم التربوية القديمة بدماغ أبيض. والجميع يؤكدون على اكتمال دماغ العقل بواسطة اللغة، والتعليم، و(الترويض) أي الدربة. ويمكن إكماله بطرق عديدة مدروسة علمياً. وفي هذا الأمر بالذات تكمن التربية اللاأرسطوطاليسية التي يقترحها المهندس والرياضياتي والفيلسوف واللغوي من الولايات المتحدة الأمريكية ذو الأصول البولاندية.كورزبيسكي من خلال تعليمهم تقنية التفريغ والتبعيض.

من جهةٍ آخرى حدثت تعاونات مشتركة بكتابة نصٍّ واحد أحادي، كالذي قام به الفيلسوف والناقد الأدبي والسينمائي الفرنسي جيل دلوز اشتراكاً مع الطبيب النفسي وعالم النفس والمحلل النفساني والفيلسوف الفرنسي (بيير فليكس غيتاري) بـ) ما هي الفلسفة)، تقاسما المهمة فيما بينهما. الأول لرسم مفهومٍ آخر عن الفلسفة وتعريفٍ جديد لــ (إنها إبداع المفاهيم)، و بيير فليكس غيتاري كطبيب نفسي، أنتجا أحد أهم الكتب الفلسفية. لكن بين الخلافات الطويلة والتعاون المشترك بينهما، ثمة لون من السجال والحوار والجدال يندر تكراره، حين يتحوّل الخلاف، وبعد اشتعال الشيب في الرؤوس، إلى لقاءٍ مع نصوصٍ أخرى لطالما كانت مرفوضة ومنبوذة.
لم يكن الفيلسوف الفرنسي آلان باديو على وفاقٍ مع الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز، والسبب الأساسي يمكن تلخيصه من روايته. لقد شهدت فترة الستينات انتشار ما بات يعرف بــ (المراهقة السارترية) والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان والمنطق الرياضي. الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز لم يكن متصلاً بمرجعيات تلك الموجة، انشغل بأفلاطون، والفيلسوف والمؤرخ ديفيد هيوم، والفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، والفيلسوف الفرنسي هنري برغسون. بينما الفيلسوف الفرنسي آلان باديو لديه مراجعه أفلاطون، وهيغل، وايدموند هوسرل. إلى فضاءات عالم الرياضيات الألماني جورج فريدريك برنارد ريمان، كان ينهل منها الاستعارات. المتعدد القيم، وبالهندسة اللأقليدية، وميكانيكا الكوانتا لهزينبرغ ،وميكانيكا أينشتين ، وميكانيكا ديراك. وهي جميعها علوم تعبّر بوضوح عن الفكر العلمي الجديد. فعلى العقل أن يخضع ويتجاوب مع العلم المتقدم والمتطور في جدلياته، ويتأثر بها، ويتفاعل معها تفاعلاً كاملاً.
تلك هي سمات جدلية العقل والعلم. فالعقيدة السلفية الماضية القائلة بعقل مطلق وثابت ما هي إلا فلسفة بائدة وبالية ولا جدوى منها. وفي حقيقة الأمر أنَّ العلم جذوته النقاش والجدل، ولا يمكن تعاهده إلا باستمرار الحوار والنقد وتعزيز صيغ المساجلة والنقض مع الآخرين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى