المذكّر المؤنث معاً…

مأمون الشبلي |كاتب سوري مقيم في ألمانيا

   لبنان روض الهوى والفن لبنان ..   الأرض مسك وهمس الدوح الحان
هل الحِسان على العهد الذي زعمت .. وهل رفاق شبابي مثلما كانوا
الأبيات لعلي الجارم من قصيدة نونية بديعة تنضح جمالًا وعذوبة ، يقارب في بعضها رثائية الأندلس لأبي البقاء الرندي ، ويسير على إثر بعضها البردوني ، يقول الجارم :
كم مد غصنٌ بها عيناً مشرّدة ..   إلى قدود العذارى وهو حيران
لقد رأى البان لا تسعى به قدم..   فيالدهشته لّما مشى البان
غيد لها من شذى لبنان نفحته .. ومن مجانيه تفاح ورمّان
يقول الجارم في ختام القصيدة :
بني العروبة مُدّوا للعلوم يدًا ..      فلن تُقام بغير العلم أركان
لا تبتغوا غير إتقان وتجربة ..       فقيمة الناس تجريب وإتقان
وحبِّبوا لغة العُرْب الفصاح لهم .. فإنّ خذلانها للشرق خذلان
قولوا لهم إنّها عنوان وحدتهم ..     وإنّهم حولها جند وأعوان
وكمِّلوهم بأخلاق ومَرْحمة ..      فإنّما المرءُ أخلاق ووجدان
والقصيدة عن لبنان وبعض العروبة ، لبنان الذي كانت بيروته عروس الشرق بلا منازع ، لبنان الذي أخرج لنا جبران خليل فأحاله سياسيوه جبران باسيل ، وأنجب مي زيادة التي كانت تتقن تسع لغات فجعل منها طائفيوه مي خليفة التي تتقن لغة واحدة يفهمها كل البشر، ولست أعتذر عن المقارنة والتشبيه ، فقد بلغ السيل ما بلغ ، ويكفيكم أن تسمعوا هتافات الثورة اللبنانية .
ما علينا ، لقد فتح علينا هذا الافتراضي أبواباً لم ندرِ بعد كيف تُفتح ومتى وأين ولماذا وألف تساؤل وسؤال ، فجعل للإمعات منبراً ، وللأدعياء ساحاً ، خذ مثلا صديقي عبدود ، وعبدود هو اسم افتراضي ليس له أي دلالة ، هو ك ( عوض ) عند الرائع د.إياس غالب الرشيد ، عبدود هذا كدجلة من الأنهار ، فهو المذكّر المؤنث معاً ، أما كيف اكتشفتُ هذا الاكتشاف ( الخطير ) ، فلك أن تقبل برأيي دون حجة ، ولك إن كنت لحوحًا فأقول : نهر دجلة ، ولا أظن أحدًا يُنكر تذكير النهر ، فهو اسم مذكّر على العموم ، يقول تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
” فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ” سورة البقرة الآية 249
منه ، والهاء تعود إلى النهر ، فلو كان مؤنثاً في القرآن لقال منها ، أما قرأت قوله تعالى عن بقرة بني اسرائيل ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
” قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ” سورة البقرة 71
فيها ، فذبحوهااا ، ها هااااا ها ، و ها هذه للتأنيث .
وأما دجلة فاسم مؤنث ، ما أنّثته تاءٌ في آخره كما أنّثه بيت الجواهري ، وكان الجواهري يكنى ( أبا فرات ) ، يقول الجواهري في قصيدته يا دجلة الخير :
حييّت سفحك عن بعد فحييّني .. يا دجلة الخير يا أم البساتين
فدجلة عند الجواهري هي أم البساتين ، والأم أنثى ، إلا اللهم إذا اعترض معترض وقال : لقد قرأنا منذ شهور عدة خبر إنجاب الذَكَرين ( المثليين ) طفلهما الرابع من بعضهما كما تناقلت وسائل الإعلام ، حينها قولوا لذلك المعترض : إن الطيور على أشباهها تقع ، فسل أين يُباح لك أن تكون أُماً ذكرا تُنجب ، ثم الحق بهم .
أو ربّما احتجَّ آخر بقول للمفكر النحرير والمفسر العظيم محمد الشحرور في تفسيره الآية 34 من سورة النساء ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
” الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم “
ليس كل رجل ذكراً وليس كل النساء إناث، فالعرب وصفوا المرأة صاحبة الرأي المميز بأنها رجلة وتجمع على رجال و يُردف ( راجعوا لسان العرب وغيره لتجدوا ذلك واضحاً ) .
وهذا يعني أن تفسير الآية يصبح حسب رأي المفسر العظيم :
الرجال ( الذين قد يكونوا نساء ) قوّامون على النساء ( اللواتي قد يكنَّ رجالا ) .. أسألكم بالله أيستقيم هذا مع بلاغة القرآن أو بلاغة العرب ؟
ثم ماذ نقول في الآية 27 من سورة الحج ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا “
لكن سبحان الله ، يتصدى لتفسير كلام الله من لا يفهم اللغة العربية البتة ، وإن أكثر من يحتج بهؤلاء أشباههم من الذين لا يفهمون ويظنون أنهم يفهمون ، إي نعم ..
ما علينا ، نعود لدجلة ، لا بل للجواهري الذي يتابع في رائعته قائلا :
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا .. حتى لأدنى طماح غير مضمون
أتضمنين مقيلاً لي سواسية .. بين الحشائش أو بين الرياحين
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج .. مشى التبغدد حتى في الدهاقين
يا أم بغداد ، ولهفي ألف لهف على بغداد ، وعلى العراق كله ، العراق الذي قال أحد أجمل شعرائه ، جاسم محمد جاسم العجة :
أيأتون ؟ ها عامان والثالث انقضى .. فحتّام تستجدي الشروق المغارب
لك الويل من عيد وحيداً تعيشه .. وليلك شعر بالأهلة شائب
لك الويل من شوق تغذيه جمرة .. وشمع على كف انتظارك ذائب
كأن ذراع الباب والثقب تحتها .. إذا انتظرا الأحباب عين وحاجب
وهذه صورة – حسبما أظن – لم يُسبق إليها البتة .
وأما أحمد شوقي ، وإني لأعجب لفطنته والله في موضع كان سيقع به كثير من الشعراء ، يقول أمير الشعراء :
يا شراعاً وراء دجلة يجري .. في دموعي تجنَّبتكَ العَوادي
وانظروا كيف قال : وراء دجلة ، وعادة السفن أن تجري ( في ) الماء يقول تعالى :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
” وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ” سورة هود 42
” وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ” سورة النحل 14
إلا أن شوقي فطن أن لا يجري ( الشراع ) في ( دجلة ) بل ( وراءها ) ، وهذا لا يأتي به شاعر عن اضطرار لوزن أو معنى ، إنما يفعله عامدا ، فلو قال معترض آخر إن شوقي كنّى بالشراع عن محمد عبدالوهاب الذي تغنى برائعته هذه لقلت له : هذا جائز أيضا وهو أكثر إبداعا ، أما لماذا ، فلأنه أبعد عن الظن في ( مستجم النؤاسي ) .
ولعلّنا نقرأ لنزار وكيف جعل السياق يتفق مع كون دجلة مذكّرا فأخذ في قصيدته ” مواويل دمشقية لقمر بغدادي ” مطلع قصيدة شوقي وجاء بضد قوله ، قال نزار:
يا شراعاً وراء دجلة يجري .. اقترب إنني أموت هُياما
دون أن يضع صدر بيت شوقي بين شارتي تنصيص أو تضمين ، وكأنه يقول إن أمة اقرأ لا تقرأ ، إلى أن يقول :
دجلة عاشق يزور دمشقاً .. وكريم أتى يزور كراما
كيف أنسى في الأعظمية ظبياً .. أشْعلَ النار في دمائي وناما
والأعظمية من أحياء بغداد حيث وُلدت وعاشت بلقيس الرواي .
نعود إلى شوقي في قصيدته يا شراعاً ، يقول أمير الشعراء:
أمة تُنشئ الحياة وتبني .. كبناء الأبوة الأمجاد
ولا أظن البيت يخفى على أحد ، هو عين بيت المتوكل بن عبد الله الليثي :
لسنا وإن أحسابنا كرمت .. يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا .. تبني ونفعل مثلما فعلوا
وقرأتُ الأبيات منسوبة إلى غيره كعبدالله بن معاوية ومعن بن أوس ، إلّا أن الثابت أن للمتوكل هذا بيت يقول فيه :
إننا معشر خُلقنا صدورًا .. مَنْ يُسوِّي الصدور بالأذناب
ولعلكم تعرفونه في قول الحطيئة :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم .. ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وذنب الناقة يعود بي إلى عبدود ، فربما يظن بعضهم العبابيد ، والعبابيد جمع عبدود ، كما عضاريط وعضروط ، ورعاديد ورعديد ، أني ما أتيتُ بشاهد لأحمد شوقي ومن قبله للجواهري ثم نزار إلا تعريضاً بالأستاذ في هذا الباب أ.عبدالمنعم الجاسم الذي نُقل عنه القول :
أحمد شوقي ليس إلا ناظماً أكثر منه شاعر ، ويقول بتفضيل نزار عليه ، لمن يظن هذا أقول : أيا صويحبات يوسف !
ماعلينا ، نعود إلى عبدود ، وعبدود هذا يا سادتي واحد أخو جبران باسيل ، ولك أن تقول ابن أمه ، كما يناديها المتظاهرون اللبنانيون ، هؤلاء الشباب الذين ربّتهم حكوماتهم المتعاقبة على برنامج ( لول ) فلما أن كبروا ( لولووا ) عليهم .
وعبدود يظن نفسه فطن نبيه لمّاح ، فتارة تراه يرقص رقص السعادين ، وحينا يلوذ بين الماء والطين فيدع العذب الزلال من الماء ليدسَّ أنفه في الطين ، ولك أن تسألني من عبدود هذا ؟ فأجيبك ، اقرأ لو شئت بيت الجواهري :
كفرتُ بالعلم صِفرَ القلب تحمله .. للبيع في السوق أشباهُ البراذين
ربما ظننته البرذون !! لا ، هو شبه البرذون .
المهم ، كنت قد ذكرت لكم أبيات جاسم محمد جاسم العجة وقلت إن البيت الأخير لم يُسبق إلى صورته ، وأسوق إليكم بيتاً آخر لا يقل روعة وجمالاً للشاعر طالب سليمان الشنتوت ففي قصيدة له مطلعها :
أمرُّ على بغداد أسقي المحاجرا .. وأملأ من بحر الجمال المحابرا
يقول :
وأذرف دمع العين فوق مياهها .. فتغدو على خدِّ الفرات أساورا
وهذه صورة بديعة رائعة ربما لم يُسبق إليها ، فإني لمّا أتيقن بعد ، ثم يُكمل :
أمرُّ على بغداد أسبقُني كما .. تُعيد يد الأشواق طيراً مهاجرا
ويذكّرني هذا البيت على جماله بأبيات لا تقل جمالاً للعراقي الرائع عمر عناز ، وأدعوكم أن تمعنوا النظر في آخر الأبيات :
جد لي ولو في العرا غُصناً ألوذ به .. فكلُّ غابات عمري أصبحت بددا
أنا المسافر مذ كان النهار فتى .. مذ كان دجلة في بال السحاب ندى
مُفتّشاً في فجاج الأرض عن وطن .. أضاع تابوته في زحمة الشهدا
وللرائع أيضا مصطفى الزايد بيت جميل جدا في داليته الرائعة هنا دمشق :
أسمعتمُ من قبل عن أرض بها .. حتى الحياة عزيزةً تُستَشهَدُ
ولكم أن تروا كيف أتى الزايد بكلمة ( تدمشق ) في هذه القصيدة بصورة بديعة جداً حتى لتقول : كأنها سكبت هنا سكبا لا يُستعاض عنها بسواها .
أختم بأبيات للرائع عبد الرحمن الشيخ ديب رأيت بيتها الأول ردًا على الأبيات :
أخي إن شَقَّت الدنيا طريق الغربة القاسي
فلا تنسَ الذي ولَّى فليس أخوك بالنَّاسي
أتحسبُ أنني أنسى ويحصي الله أنفاسي
يقول عبد الرحمن :
ما كنتُ يومًا في الهوى بالنَّاسِي .. لكنْ غدوتُ مُعذَّبًا بالنَّاسِ
ما بينَ لوَّامٍ لفرطِ محبَّةٍ .. ومعنِّفٍ مِنْ عُميِ قلبٍ قاسِ
أصمَمْتُ أُذني عنهُما متستِّرًا .. بطويلِ صمتي مُخفيًا للباسِ
لما علمتُ بأنَّ ما من منصفٍ .. بينَ الأنامِ لمُرهفِ الإحساسِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى