سياسة

أنا في المخيّم

سميح محسن‏ | فلسطين

أنا في المخيّم… أنا ذاهبٌ للمخيّم… أنا راجع من المخيّم…
المخيّم أصلُ الحكاية، أولُ الرّصاص، وبوابةُ العودةِ إلى حيثُ هُجّر الأجداد والجدّات، ففي تمّوز تنضجُ ثمار الفواكه في فلسطين، والصبّارُ الذي يحرسُ المكان ينتظر أهله بصبر تفوّق على “صبر أيوب”…
أصبح مخيّم جنين عنوان الثورة والصمود ورفض “حكمة”! حكماء الرضوخ للأمر الواقع بانتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولا… عندما يرنُّ جرس هاتفك المحمول ويسألك المتّصل: أين أنت؟! تختصر الإجابة: “أنا في المخيّم… أنا ذاهبٌ للمخيّم… أنا راجع من المخيّم…”؛ ولا يحتاج المتّصل إلى سؤال آخر: “أيّ مخيم؟” لأنّه حصل على الإجابة على سؤاله الأول، فكلمة المخيّم تكفي للدلالة على أنّ المخيّم هو مخيّم جنين، والمُتَّصِلُ والمتَّصَلُ به قد يكونان من محافظة نابلس، أو رام الله أو الخليل، وليسا من محافظة جنين التي لا يوجد فيها إلا مخيّم واحد يحمل اسمها.
في ساعات الظهيرة، وبعد ساعات قليلة من انسحاب قوات الاحتلال من جنين ومخيمها كنّا هناك (وفد من جمعية الإغاثة الزراعية) الإغاثة الزراعية الفلسطينية PARC ليس للتضامن مع أهلنا في المخيّم، فمفهوم التضامن لا ينطبق على الذات الواحدة، وإنما للاطلاع على آثار الدمار الذي أحدثته آلات التدمير الهمجية، واستشراف ما يمكن تقديمه لأهلنا في المخيّم، والعمل على المشاركة في تضميد الجرح الواحد.
في تلك السّاعات تحوّل المخيّم إلى مَحَجٍّ للكل الفلسطيني. وسط الدّمار كانت الجرّافات تزيل تلك الآثار، وكانت الأيادي السمراء تعمل على إصلاح أعطال شبكتي الكهرباء والماء، وتغسل آثار “القدم الهمجية” عن شوارع وأرصفة المدينة وأزقة المخيّم، وكانت الحياة تعجُّ في المخيّم الذي تحوّل بقوة الإرادة إلى أسطورة في الصمود والإصرار على حقّنا الطبيعي بأن نحيا بكرامة فوق أرضنا التي لن نقبل بديلاً لها، ومن مائها إلى مائها.
لم تتوقف الملحمة البطولية عند حدود المدينة ومخيّمها، بل امتدت إلى فلسطين بأكملها. استنهض المخيّم الذي تعوّد على دفع فاتورة بقائنا من دم أبنائه، ودم مَنْ تمكّن من الوصول إلى هناك من خارج حدوده، استنهض فلسطين بأكملها من خلال حملات الإغاثة التي بادر إليها شباب وشابات فلسطين، وشارك فيها أهل النخوة من أبناء شعبنا، ليس من باب التضامن بل من باب التأكيد على وحدانية الجسد والروح والهمّ والهدف.
ونحن نجول في أزقة المخيّم كان المخيّم يعجُّ بمئات الشبّان، قلت لصحبي: “قد يكون هؤلاء، أو بعضهم، ممن سطّروا هذه الملحمة، يقفون بكامل بهائهم وهدوئهم وعفويتهم وعنفوانهم الذي يعرفون أين وكيف يستخدمونه. كانت أبواب بعض المحّال التجارية مُحَطَّمَةً ومحتوياتها مكشوفةً، إلا أنّ يدا واحدة لم تمتدُّ إليها. في تلك اللحظة مرّت أمامي صورُ النّهب التي كنت أشاهدها في دول الغرب المُتَحَضِّر التي كانت تتعرض لكوارث بفعل الطبيعة أو بفعل البشر. لله درّك ما أعظمك أيّها الشعب العظيم.
لقد تُركَت فلسطين وأهلها تقلع شوكها بأيدي أبنائها، لو تُرِكَ لنا الأمر أن نقلع شوكَنا بأيدينا قبل خمسة وسبعين عاماً لما كان المخيّم هنا.
الرحمة والسكينة لأرواح شهداء فلسطين من أبنائها وأبناء عروبتنا والإنسانية
الشفاء العاجل للجرحى
المجدُ بأبهى صوره ومعانيه ودلالاته للشهداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى