قراءة انطباعية مقتصدة في ( شهب من وادي رم) لـ” بشرى أبو شرار”

وليدة محمد عنتابي | شاعرة وكاتبة من سوريا

الأرض : حلم مفتوح على عودة الروح

( لن يرتاح جسدي في ثراه إلا حين يعبرن النهر إلى بلادهن في كنعان ) .

بهذه الكلمات التي نطق بها أب يغور جسده في أعماق الأرض بينما روحه ترفرف عاليا في سمائها ، تختتم الأديبة بشرى ابو شرار روايتها الموسومة : شهب من وادي رم .

تأخذ الجدة في الرواية رمز الجذر المتأصل في تربة المكان ، مشكلة مرجعا آمنا لشهب غادرت مداراتها إلى مسارات غائمة ، بكل ما يمكن ان يشكل هروبا من واقع تحكمه قوى غريبة متسلطة ترشح بالظلم والبهتان .

شهب أربعة تقتسم الرواية مشكلة أعمدة المكان في أبعاده الأساسية ؛  ذلك المكان الذي تجذر في وجدان الساردة بعدا آخر للوجود ، وكأني بها تتوسمه مسلكا لتلك الشهب التي غادرته يوما ، لعلها ترتد إليه ذات يوم  .

ليست الشهب إلا تلك الفتيات المنتسبات لأب يرمز للحاضر الغائب ،  عبر واقع مفروض بمرارة في غياب الأم المالك الشرعي لأحقية بنوة همشها طغيان زوجة الأب في تسلط وقمع واستغلال لطاقاتها  وتحريف لمسارات تفتحها وعرقلة لانطلاقاتها .

تلك الشخصية الدخيلة الرامزة إلى كل ما يمت بصلة للاستيلاء .

تبدأ الرواية بالشهاب الأول : فدرة

البنت الكبرى لسهيل الأب الذي بدأ مهمشا ومغلوبا على أمره ، تاركا لزوجته المرجعية والبت في شؤون الأسرة .

فدرة تلك الشخصية التي حاولت زوجة الأب أن تحولها إلى مطية تسلس لها بإيهامها أنها غبية لا تصلح للدراسة بإشاعة حقل من التهميش حولها ، لكنها تجتاز مايحاك لها بإرادها القوية وقدراتها العقلية ، والخروج عن كل ما يستلبها ويطمس شخصيتها . وبالتالي الانفكاك عن نطاق سيطرة زوجة أبيها بمغادرة المكان والانطلاق إلى إكمال تحصيلها الدراسي .

ترزح شقيلة التي تشكل الشهاب الثاني  في الرواية  تحت  وطأة أشغال شاقة تفرضها سيطرة هريدية  زوجة أبيها ، وتتوزع طاقاتها  الغضة المحدودة بين أعباء ومهمات البيت  وبين متطلبات الدراسة  ومحاولات هذه الزوجة لمنعها من مواصلة دراستها خشية منها أن تفقد يدا عاملة كما فقدت أختها فدرة من قبل .

غير أنها (تحاكي صمتها ووحدتها فتكبر بها أمانيها بأنها المرأة التي  تحب أن تكبر بحجم الوادي،  هي موجة تأخذ كل يوم حجما وبعدا،  تخاف أن تكون شجرة مزروعة في تراب فتموت متخشبة ، تود لو تكون كل العصور ) .

رغم محاولات زوجة الأب المستميتة بأن تزوجها من قريب لها، تفلت شقيلة من مكائدها وعدوانيتها وظلمها ، إلى مدار آخر كما فعلت فدرة من قبلها .

يمتد تسلط زوجة الأب إلى الشهاب الثالث : هجرو فتحكم قبضتها الظالمة عليها من باب ضعفها في تحصيلها الدراسي  ، فتنجح في خطتها لتزويجها من ذلك القريب الذي تقدم لأختها شقيلة من قبل  .

يتم تزويجها في مراسم تراثية تخص المنطقة بكل ما تنضح به  من طقوس  ومظاهر ، يتم الأمر رغم إرادتها  ، لتغادر  المكان إلى محل إقامة الزوج، فتنتقل من ظلم زوجة أبيها إلى ظلم سلطة الزوجية .

تشكل مرمرة الشهاب الرابع  الذي تختتم به الروائية مرويتها المزينة بكل ما تحمله من تضمينات تاريخية وتراثية تتعلق بأصالة المكان مسرح الرواية من أساطير  ومواثيق وجماليات ، محملة روايتهاعلى هودج لغة ترفل بحربر بدعتها ، ضمن سياق من السرد الممتع والأسلوب المتماسك السلس المزخرف بمجازات شعرية مرسلة وصور تركيبية لافتة ، أكسبت الرواية مزيدا من التألق والإشراق .

تتابع هربدية زوجة الأب فرض سيطرتها على مرمرة  ومحاولة تدجينها  ، إلا أنها  تفلت من تلك السيطرة  ؛ لتستلم وصية والدها  وقد شعر بدنو أجله : (مرمرة أوصيك بالأرض لك ولأخواتك من بعدي  لا تفرطن في ذرة من ترابها .. الأرض  .. الأرض..)  .

بسقوط الأسد الجريح تنتهي الرواية التي كرست أولوية الأرض كشخصية خلفية من شخوص الرواية  تنبع منها باقي  الشخصيات التي تغادرها ردحا  لتنتهي إليها .

(ويسقط الأسد الجريح وتمضي  العربة عنه وتبقى الغزلان حول عين الماء  ويزداد التحامهن حول عين الحياة  في جبعون ) .

غير أن شخصية الأخ المتواجد خارج نطاق الأسرة  في الرواية كرمز للمقاومة والفداء ، لم تأخذ حقها ،  رغم اقتصار الساردة على الإشارة العابرة لتلك الشخصية الغائمة والتي أرى لو أنها تناولتها بشيء من التفصيل لأعطت بعدا داعما لقضية الأرض أشد عمقا  وأوسع أفقا .

رواية تريق أشعتها على ظلام هذا العالم المكتظ ببطلانه والمترع بسمومه وزيفانه  في دائرة الظلم والظلام  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى