أسطورة هيلين الطروادية.. حواء التي لا تموت

د. خضر محجز- غزة – فلسطين

هيلين الطروادية (Helen of Troy) جميلة الجميلات، التي أبدعها الخيال اليوناني الخلاق، لا تموت من ذاكرة الرجال. إنها الجمال مجسداً في امرأة، الجمال المُتَسَيِّد الذي يغتفر جمالُه كل شيء.

لم يخلقها هوميروس في الإلياذة، بل مجرد صورها فأبدع تصويرها في رائعته (الإلياذة). ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقف العالم عن التفكير بهيلين. امرأة تُولد ملعونة بجمالها، تقول النبوءة بأنها ستجلب الحرب والخراب على كل من يقع في عشقها. لكن العالم كله يقع في عشقها، ويخوض الحروب في سبيلها.

تولد هيلين على فراش ملك إسبرطة، بعد أن يضاجع زيوس (رب الأرباب) زوجة الملك، فتحبل بها منه، فلا يكون ثمة مناص من نسبتها إلى الزوج، فلا أحد ينسب الزنا إلى الآلهة، رغم أنهم زناة بالفعل ولا شرف لهم.

إذن فهيلن المخلوق نصف الإله، تكبر، ليتزوجها مينيلاوس أخا أجاممنون، ملك ملوك اليونان، فيرث بها تاج إسبرطة، بعد أن يأخذ العهد على ملوك اليونان بأن ينصروه، فيما لو وقعت لعنة الحرب على بلاده. وهكذا يبدأ التأسيس لحرب طروادة.

لقد عالجت السينما هذه القصة ربما مئات المرات، حيث تناولها كل مخرج من زاوية جديدة. ولا أنسى الفيلم الذي شاهدته قبل سنوات، بعنوان (Helen of Troy) وانحاز فيه المخرج الغربي إلى رواية الطرواديين الشرقية، إذ يجعل مينيلاوس هو المتسبب بكل هذه الملحمة من العشق والموت، حين يسيء معاملة هيلين، ويمتهن كرامتها، إذ يأمرها أن تطلع عارية على ملوك اليونان العشرة، فيما كان باريس ابن ملك طروادة في سفارة لبلاده باليونان، محاولا تجنب أطماع اليونان، بالتوصل معهم إلى معاهدة سلام.

ترى هيلين نظرات الاستنكار في عيني الأمير الضيف، لهذا الفعل اللاإنساني من الزوج. وترى من وراء الاستنكار جمالاً وعشقاً ووعداً بعالم مختلف. فتنقذه من مؤامرة القتل التي يدبرها ملوك اليونان له، هربا من المعاهدة التي جاء يعقدها، وتهرب معه في مركب البحر، فيما تصدح ــ ربما لأول مرة في سينما هوليوود ــ موسيقى بليغ حمدي لسيرة الحب، في المقطع الموسيقي الصاعد، الذي يسبق انطلاقة الصوت السماوي للست: (والعاشقين دابوا ما تابوا).

وتقلع المركب بهيلين وباريس، وتصل إلى طراودة، مؤذنة ببدء إعداد الجيوش اليونانية العشرة لغزو المدينة الذهبية.

أما باقي القصة فمعروف. حيث تعود هيلانة إلى عبودية الزوج، بعد تخريب طروادة، وقتل باريس وأهل مدينته. وإن كان ذلك بعد عشر سنوات من القتال والموت.

هكذا ينتهي الفيلم، ليعلن صرخة الحب في وجه القوة، دون أن ينسى المخرج أن يجعل من البطل نصف الإله (أخيل) شريراً يهوى القتل، في مواجهة الفارس النبيل هكتور، أخ باريس.

يبدو بالفعل أن المخرج كان يرغب في تقديم رؤية طروادية للحرب.

ولقدرة هيلين على سحر الرجال في كل العصور، كان لا بد للخيال اليوناني الخلاق، من أن يُعدّل من صورتها كغانية، ليجعلها في مرتبة تنافس أفروديت إلهة الجمال؛ إذ يعيد هوميروس غناء الحكاية في (الأوديسة) بطريقة مختلفة، حيث يجعل هيلين في بيت مينيلاوس ــ بعد خراب طروادة ــ امرأة سعيدة في بيتها، وقد ازدان جمالها بالاتزان والحكمة والهدوء، فصارت أكثر فتنة، وأشد وقاراً، بحيث تحولت من ثم إلى إلهة بين الآلهة، بعد أن كانت مجرد نصف إله.

لقد اعترف بها زيوس أخيراً، ومنحها الخلود، جائزة أبدية لجمال لا يموت.

ما هي كلمة السر في كل هذه الشخصية؟

إنه الجمال. لقد كان اليونانيون القدماء يعبدون الجمال. ولقد كان الجمال لديهم هو الفضيلة.

هكذا تم تأسيس الوعي الغربي الجمالي منذ عهد بعيد، فقد رأينا كل هذه الأساطير، تغزو الديانة الرومانية بعد أن غزتها من قبل آلهةُ اليونان، ومن ثم تغزو الوعي المسيحي وتفسيرات الكتاب المقدس؛ بحيث يمكن القول بأن كل هذه الآلهة اليونانية، قد تحولت على يد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فيما بعد، رويداً رويداً، إلى قديسين وقديسات، إلى أن جعلت الأسطورة اليونانية الشفاهية عمى هوميروس عقوبة إلهية له كونه ادعى أن هيلين زانية، فيما هي مجرد مظلومة مخطوفة على يد باريس، وليست عاشقة هاربة من زوجها.

هكذا يدفع الجمال لدى اليونانيين إلى تبرير ذاته. فهو قيمة عظمى كما أسلفنا. لا جرم فلا أحد يتفوق على اليونانيين في الخيال. ولعل هذا واحداً من أسباب عديدة، منحت حضارتهم السيطرة الأبدية على روح العالم. وفي هذا يقول سير هنري مين (Sir Henry Maine): “إذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء، لم نجد شيئاً يتحرك في هذا العالم، إلا وهو يوناني في أصله”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى