سياسة

“صفقة رحافيا” نبكي خاسرين أملاكا لم نصنها مؤمنين

بقلم: المحامي جواد بولس
كشف الإعلام العبري في الايام الماضية تفاصيل مستفيضة حول صفقتين عقاريتين لافتتين تشملان مساحات شاسعة من أراضي مدينة القدس ومحيطها، كانت تملكها البطريركية الأرثوذكسية المقدسية. الصفقة الاولى تعرف باسم “صفقة رحافيا” والثانية يسمونها صفقة “تلبيوت هحدشاه” ونحن نسميها أراضي “مار الياس”، وعن هذه الاخيرة سأكتب لاحقا في فرصة أخرى.
من المؤسف حقاً أن نضطر للكتابة مجددًا حول ممارسات المسؤولين عن هذه الصفقات، من اكليروس يوناني متنفذ قابض على رقبة هذه الكنيسة المشرقية العريقة، ومستشاريهم ومساعديهم من عرب متعاونين ومستفيدين ومتواطئين. ومن الموجع فعلاً أن نذكّر بأننا كنا قد حذرنا خلال السنوات الماضية من مغبة السكوت عمّا يجري في أروقة هذه البطريركية، وعن امعان رؤسائها، البطريرك ورجالاته وأعوانهم، في نهج التفريط و”التخلص” من أملاكها الشاسعة بأساليب مفجعة وبذرائع واهية لا يمكن قبولها.
لن تكفي هذه المقالة لسرد قائمة الصفقات التي نفّذها، خلال السنين الأخيرة، المسؤولون في البطريركية، وشملت عقارات في مواقع هامة في مدن طبريا ويافا وقيساريا والقدس وفي مناطق التماس مع “الخط الاخضر” وغيرها من المواقع ؛ علمًا بأن معظم تفاصيل صفقات البيع أو الاحكار ، التأجير طويل الأمد، التي نفّذت، نشرت بعد اتمام عمليات تسجيلها في الدوائر الاسرائيلية المختصة.
تعرف الصفقة التي تصدرت عناوين الاخبار العقارية في الصحافة الاسرائيلية باسم “صفقة رحافيا” وهو اسم منطقة تعدّ من أرقى المناطق السكنية في القدس الغربية، وتقدر مساحتها بحوالي (530) دونما، أقيم عليها ما يقارب الألف مبنى سكني وفنادق ومرافق عامة كثيرة أخرى. قامت البطريركية ألأرثوذكسية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، بتأجير هذه الأراضي لصندوق أراضي إسرائيل “الكيرن كييمت” لمدة تسعة وتسعين عاماً. من المفترض أن تنتهي مدة هذا الاحكار/التأجير في العام 2050 ؛ وعلى الرغم من ذلك قام البطريرك ثيوفيلوس وأعوانه في عام 2011 بنقل حقوق الكنيسة بتأجير الأراضي مستقبلًا لشركة اسرائيلية اسمها “نيوت كومميوت” ، ثم قام بعد خمسة أعوام، ببيع جميع تلك الأراضي لشركة “نايوت كومميوت” مقابل مبلغ اجمالي ذكرت الصحف انه ناهز المائة وخمسين مليون شاقل فقط لا غير، لا نعرف كيف صرف وعلى ماذا؟
قام العديد من الغيورين على مصير عقارات البطريركية وأوقافها المتوزعة على مساحات شاسعة في البلاد وفي مواقع استراتيجية هامة وثمينة في القدس، بالكشف عن نوايا البطريركية بانجاز عدة صفقات بيع جديدة، ونوهوا، من خلال كتابة المقالات أو التواصل مع ذوي الشأن والمصلحة، من خطورة تنفيذ هذه الصفقات وكونها حلقة في مسلسل التفريط المستمر، ورغم ذلك تم للبطركية ما أرادت!

لقد كان واضحًا لنا ولجميع الجهات أن ثمن أراضي رحافيا أعلى أضعافاً مضاعفة مما قبل به مفوضو البطريركية، (تحدثت بعض التخمينات ان قيمة الأراضي وما بني عليها خلال السنوات الماضية قد تقترب من الملياري شيكل)، ونوهنا على أنه لا يوجد أي مبرر مقنع وسليم لاتمام الصفقة بهذه الطريقة المستفزة وبدون حد ادنى من الشفافية، أو لانجازها ليس وفق شروط السوق والمنطق ومصلحة الكنيسة ورعاياها العرب؛ هذا طبعًا مع التأكيد على ضرورة المحافظة على العقارات كجزء من سياسة عدم التفريط بها وبأوقافنا، خاصة في مدينة القدس.

مضت ستة أعوام فقط حتى قامت شركة “نيوت كومميوت” بعقد صفقة بيع “أراضي رحافيا” لرجل اعمال يهودي امريكي يدعى جاري برانط مقابل مبلغ 750 مليون شاقل؛ وذلك اضافة لاجزاء من الارض كانت الشركة قد باعتها بشكل منفرد مقابل مبلغ 95 مليون شاقل، ليصبح مجموع ما قبضته “شركة نايوت” أكبر بخمسة أضعاف على الاقل مما دفعته هي، مقابل صفقة البيع، للبطريركية. ويبقى السؤال لماذا باعت البطريركية اصلا ؟ وما هي الدوافع لاتمام الصفقة كما تمت ومن هو المستفيد؟

لم نكن بحاجة الى قراءة هذه الارقام كي نتأكد من صحة ما قلناه قبل اكثر من عشرة أعوام، فممارسة المسؤولين في البطريركية وأعوانهم مكشوفة للكثيرين الذين يعرفون الحقائق، لكنهم يؤثرون اغفال نتائجها الكارثية، بينما لا يريد البعض ان يروا الحقائق إما عن جهل راسخ أو عن يأس مبرر أو من مصلحة شخصية معروفة للناس؛ وهناك، للأسف، بيننا عرب مسيحيون وغيرهم، معنيون بطمس الحقائق وتشويهها وبعضهم يفعل ذلك مقابل خمسة من فضة!

في البداية عندما نشرت الصحف عن الصفقة بين البطريركية وشركة “نايوت كومميوت”، لم يصدّق البعض أن البطريركية شرعت بعقد صفقات بيع ولم تعد تكتف بتوقيع عقود احكار وايجارات، فنصحنا هؤلاء أن يتوجهوا الى دوائر الطابو الاسرائيلية ويستخرجوا مثلنا قيود التسجيل فعساهم عندها يضعون أياديهم داخل الجرح ويؤمنوا كما “آمن توما “.

يحزنني ان استعيد بعض ما كتبت لهؤلاء حينها وقلت: ” من سينقذ القدس وأملاك الكنيسة؟ كل من يرغب في استجماع المعلومات الدقيقة عن هذه الصفقات وعمّا سبقها من صفقات أبرمها هؤلاء في السنوات الأخيرة، لن يجد صعوبةً في الحصول عليها وعلى براهين دامغة بشأنها، فكثير منها كشفته الصحف الإسرائيلية بالمعطيات الوافية ومعظمه نقل إلى عناية من يجب أن يعرفوا عنه ؛ أمّا نصيحتنا لأحفاد “توما” أولئك الذين يرفضون تصديق أخبار الصفقات، رغم ما يقرأونه ويسمعونه، فسنوجزها بأن يحكّموا عقولهم والمنطق فليس صعبا التحقق من فداحة الخسائر ورائحة الهزيمة تنبعث من تراب القدس المغتصب، أو من بين المستندات والوثائق الموجودة عند أقلام المحاكم الإسرائيلية أو في مكاتب تسجيل الأراضي، لأن معظم ملفات تلك الصفقات أودعها المستفيدون هناك لضمان حقوقهم حسب الأصول والقانون.

فكيف نجح وينجح المتورطون بإبرام مزيد من الصفقات ويراكمون الأطيان من جرائها في خزائنهم ؟ ستبقى الاجابات حبيسة الحسرة والوجع وآتية من بطن التاريخ أصداء تردد تساؤلها باستهجان : “من فرعنك يا فرعون”.

سوف ينتظر البعض “توضيحات” رجالات البطريركية بخصوص ما نشر وقرأناه، وسوف يسهب رجالات بلاط البطريركية في شرح ادعاءات أسيادهم وسيلجأون إلى سحر البيان و “المحاسن والاضداد” ؛ أما نحن فسنبقى نهذي ونقول: ما ضر لو أمّنوا الصالحين العرب من رعايا هذه الكنيسة على هذه الأمانات، أكان ساعتها كهاننا العرب بحاجة لفتات موائدهم الشحيحة او مدارسنا الاهلية “لبركاتهم” ؟ تصوروا لو نجحنا ككمشة عرب مسيحيين بالتحكم أو بالمشاركة بما ملكته هذه الكنيسة من مقدرات .. تصوروا أكان أحدكم يشعر بالاغتراب كما هو الحال اليوم أو أكان البعض يهاجر أو يفكر بالهجرة من الوطن؟

لا تصدقوهم مهما برروا ولا تصغوا لابواقهم “ولا تقعوا في الفخ مرة اخرى. “توماكم” آمن بعد أن وضع يده في الخاصرة، فضعوها انتم ايضا؛ ومسيحكم المطعون في خاصرته وصاكم وهو على الصليب : “طوبى لمن آمنوا ولم يروا”، فكيف لا تؤمنوا وأنتم ترون بأعينكم، يومًا بعد يوم، ضياع كنائسكم ونفاد أوقافكم وتيه سفنكم !

نبكي على “أم الكنائس” ونسأل من ينقذها من هذه العتمة؟ ومن يحاسب الجناة على افعالهم؟ وننسى كيف كانت النسوة يلطمن وينُحن على يسوع الحامل صليبه في شوارع القدس، فالتفت إليهن وقال: ” لا تبكين عليّ يا بنات أورشليم، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن”.

فمتى يا ” أهل أورشليم” ويا عرب ستصحون ومتى ستكونون شركاء في مسيرة درب الآلام؟ تأكدوا ان العرب المسيحيين الأرثوذوكس لن ينجحوا وحدهم في مواجهة “روما” فهل نحمي معا ما تبقى من حلم شرقي ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى