النصّاب الأعمى
بقلم: سهيل كيوان
-مسكين، قلت عندما رأيت كهلاً يتحسّس طريقه بعصاه الخاصة لعبور الشارع.
-لا تقل مسكين. ردّ قريبي الذي جلس إلى جانبي في السّيارة.
-ليش؟
-إنت بتعرفه؟
-لأ، أول مرّة أشوفه.
-لكان لا تقل مسكين.
-أفّ، يا ساتر.
-أي والله، هذا نصّاب كبير، لولا خايف من الناس، كان نزلت وكسرت له عصاه.
-يا لطيف، شو السيرة!
قريبي هذا يأخذ كهرباء إلى بيته مرّة من هذا ومرة من ذاك، مثل آلاف بيوتهم بدون ترخيص بناء، شركة الكهرباء بقرار حكومي، لا توصل البيوت غير المرخّصة بالكهرباء لأسباب سياسية، ولهذا يمد الناس كوابل ممّن يملكون، حتى صار يشترك على الوصلة الواحدة عددٌ كبير من البيوت وورشات العمل، يستغلها البعض ويرفع الثمن، إضافة إلى المشاكل التقنية الكثيرة والمخاطر.
هذه التُربة ممتازة لنشوء طفيليين يدّعون أن لهم واسطة قوية مع مسؤول ما في شركة الكهرباء، وطبعاً مقابل «المعلوم»، وبلاش حدا يعرف.
ياما الجمَل كسّر بطيخ، وكل عمرنا ونحن ندفع، عُفنا حالنا، وياما توتّرت علاقات جيرة وقرابة بسبب الكهرباء.
البعض عملها تجارة، كنّا ندفع له سبعمئة قبل سنتين، صرنا ندفع ألفاً وأربعة وأكثر، الطمع ذَبح العالم.
لكل طفيلي طرقه الخاصة، هذا له علاقة مع مساعد الوزير، وذلك يعرف المهندس الكبير ويسهر معه كل ليلة، أحدهم يحضر نماذج من شركة الكهرباء لـ «يساعد» في ملئها، ويسلّمها ويأخذ «المعلوم» منك، وإذا زبطت، فهذا بفضله، وإذا لم تزبط، فهناك مَن خَرّب عليه.
لا أعرف من أين حصل هذا على رقم هاتفي، اتصل وعرفني على نفسه وقال بلاش حكي على التلفون، إذا بدّك كهرباء تعال عندي.
بعد يومين اتصلت به، فأرشدني حتى وصلت إلى بيته وناديته باسمه، فخرج وأمامه عصاه الخاصة بالمكفوفين، فوجئت أنّه كفيف، حضرتك فلان؟
-نعم أهلا أهلا، تفضّل يا مرحباً.
أنا لما شفت وضعه، اطمأننت أكثر، عرّفته على نفسي، وقبل أن أنهي كلامي قال: باختصار، بدّك كهرباء؟
-قلت له إيدي بزنّارك، أنا زهقت من الدفع، ومن المشاكل، المهم بلا طول سيرة، قال لي أنا باخذ ستة، ولكن لأنك جئت من بلد إلى بلد، ومن كلامك شعرت بأنك آدمي، يكفي منك خمسة آلاف شيكل، أنا صريح معك، لي ألف والباقي لواحد من جوّا، وخلال شهر إن طارت يتصلون بك، تدفع ثمن الخط، ويركّبونه، ويا دار ما دخلك شرّ. كنت متحمّساً جداً، الله فاتح عليّ بالشغل، رجعت ثاني يوم وناولته المبلغ، عدّ الورقات وهو يتحسّسها ويعرفها، أنا قلت الزّلمة قلبه مفتّح، وما فكرت بالمرّة أنّه نصّاب.
دسّ المبلغ في جيبه وقال، حضّر حلاوة الوصلة!
ضحكنا-شو بتحبّ حلاوة؟
-كنافة، أنا قتولتي الكنافة.
-كنافة وعش البلبل.
-يعني بدّك تستنى شهر زمان، وإن طارت شهر ونصّ.
-يا سيدي ثلاثة أشهر، المهم الكهرباء، أنا مللت من الدفع ومن جميلة الناس، تزاعلت مع كثيرين من تحت راس الكهرباء، أنا مادد كابل طولُه نُص كيلومتر، مرّة ولّع، راح ما يعمل كارثة.
مضى شهران، اتصلت ليطمئن قلبي.
-ابن حلال، وين هالغيبة، كنت ناوي أحكي معك، الأسبوع الجاي، الأربعاء أو الخميس، إنت حضّر الكنافة.
-يا عمّي عندنا عشرين محل كنافة! اتصلت بعد أسبوعين – شو القصة، ما حدا اتصل؟
-يلعن أبوهم، بشوف، وبرجع لك.
ومرة أخرى بعد أيام.
-إنت حضّرت الكنافة؟
-يا عمّي والله لأعمل عقيقة بسّ تيجي الكهرباء.
-طيّب لبعد عيدهم..
وهيك، بين حضّر الكنافة الأربعاء أو الخميس، وبين بعد يوم الغفران وبعد عيد العُرش وبعد عيد الأنوار، وبعد حداد سبعة أيام على أم صاحبه من شركة الكهرباء سكّر الخط، ولم يعد يرد على الهاتف.
أنا لعب الفار بعبّي، سألت عنه واحدْ بعرفه من بلده، فقال لي: إن شاء الله دفعت له مصاري؟
– قلت لا ما دفعت، خير شو السيرة؟ -أنا ما حبّيت إنه يعرف أنني دفعت.
-مليح أنك ما دفعت، هذا نصّاب عالمي، أوعك تدفع له إشي.
أنا صفنت، هذه أول مرة أسمع عن نصّاب أعمى!
-ليش يعني حظّهم ناقص ذوي الهمم؟ مثلهم مثل غيرهم، فيهم الآدمي وفيهم الهامل، بعضهم خفيف الظّل، ومنهم ثقيل ظل، ومنهم قراصنة إنترنت كمان، وين أنت عايش!
-المهم، ركبت سيارتي ولوين! على بيته، خلص بدّيش كهربا، وصلت، بتنزل على دَرَج طويل، وناديت يا أبو فلان.. طِلع وقدامه عصاه من الألومينيوم يضرب بها يميناً وشمالاً: أهلا وسهلا، تفضل، أهلا وسهلا، مين الأخ؟
-أنا فلان.
-فلان!؟ فلان فلان! مين فلان، ممكن تذكّرني!
-ولو؟ حكينا مئة مرة، نسيتني، ليش بطّلت تردّ على التلفون؟
– أنا عندي كل يوم مئة اتصال!
قال أخيراً فطن-آه آه، طيّب خير، اختصر شو بدّك؟
أنا طلع الدم لراسي، شو بتهبّل هذا! قلت له أنت وعدت وما أوفيت، بدّي ترجّع لي مصرياتي.
-شو بدّك بالزبط؟
-مصرياتي؟ أنت أخذت مصاري ووعدت بْوَصْلة كهرباء، صح؟
– ليش مين أنا! شايفني وزير الطّاقة يعني، ولّا أخو دِرْعي!
-بدي مصرياتي..
-شو؟؟! بدّك تعطيني رشوة! يا عيب الشّوم عليك، إسا بفرجيك، إذا ما انقلعت من هالأرض جايب لك البوليس، أقسم بالله رايح أحبسك، أنا كل المصاري تحت صرمايتي، إسّا بفرجيك، غير أفوّتك ثلاث سنين حبس، أنا كرامتي أكبر من ألف واحد مثلك، بدّك أدفع رشوات عشان حضرتك؟
– إنت عارف عن شو بحكي!
-كمان بترفع إيدك! بدّك تضربني! إسا بفرجيك، إنت ما بتستحي ترفع إيدك على واحد أعمى! إذا زلمة خلّيك هون، بتضربني يا سافل، هذا مسك التلفون وصار يصرّخ.. الحقيني، هذا واحد مجرم هاجمني في البيت، جيبي أخوتك وتعالي.
أنا صرت أنطّ على الدرج كل ثلاث درجات نطّة، وهريبة على السّيارة، لو ظليت عنده تبهدلت، يمكن معه زعران مثله، شو بعرّفني.
المهم كل من يسمع بقصتي معه من أولاد بلده، يقول لي، يا زلمة شو وصّلك لعنده، هذا معروف بالبلد، دوّار مشاكل ونصّاب، ومثل الدِّست؛ كيف ما أمسكته بتتشحّر، كل يوم طوشة، وصار متزوج ومطلّق ثلاث أو أربع مرات، وكل شهر بطلع بفن جديد، مرّة وسيط مع شركة الكهرباء، ومرة بخلّصك من ضريبة
الدّخل، ومرّة برجّع لك مصاري من التأمين الوطني، ومرّة يمحو لك مخالفات السّير، هذا ما بنام ليلة واحدة بلا مشاكل، والمهم دائما بلاقي هبلان مثلك يضحك عليهم.