فكر

الثقافة العربية وحدودها المستقبلية

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين

لا يمكننا الحديث عن الثقافة العربية وإشكالياتها بمعزلٍ عن ربط الماضي الثقافي العربي بالحاضر البائس الذي يعاني من الوهن والتشتت والضعف، وتمزّق الهويات الثقافية العربية وخصوصياتها، وتهدّده العديد من الهويات الصغرى القاتلة. كل ذلك من أجل الولوج إلى المستقبل، وحضور الثقافة العربية الذي يدلِّل على حيويتها واستمراريتها. فبقدر حضور المستقبل في التكوين الثقافي العربي، بقدر قابلية ثقافتنا العربية للتقدّم والتطوّر. وهو تعبيرٌ صريحٌ وواضحٌ عن الرغبة في الإبداع الذاتي.
هذا الوعي النوعي المستقبلي يمكن قياسه على الحاضر المُعاش في حركته الدائبة المتطلعة نحو المستقبل. ولا ينشغل بالماضي القريب أو البعيد إلا بوصفه عنصراً رئيسياً هاماً من عناصر الحاضر الذي يقبل التقدّم والتطوّر، ومن ثم التحوّل والمساءلة. إنَّ حالة الوعي التي تساهم في التساؤل حول المستقبل، تأخذنا إلى عناصره التكوينية في وتدل على هذا الوعي دون أية تورية أو مواربة. سواء في مضمونه وكينونته، وحرصه على الارتقاء والتقدّم بالإنسان من مستوى الضرورة الملحّة إلى مستوى الحرية المنشودة، أو الانتقال بالمجتمع من التخلّف إلى التقدّم.
جميع تلك المدلولات الواضحة تحوجنا إلى القيام بصياغة جديدة لخصوصية ثقافتنا العربية، بمعنى أننا نحتاج إلى القيام بعملية إحياء ثقافي من جديد. كون ثقافتنا العربية الراهنة تمرُّ في مرحلة تراجع وانحطاط واضحين، فهناك تراجعٌ واضحٌ عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي والأسطوري وحالات الوهم المنتشرة، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب المغلَّف بالماضي السحيق الذي يجهد في محاولة إرجاع وطننا العربي ومعالمه وتكوينه إلى العصور المظلمة، ويحفّزه بكل ما يملك من قدرةٍ على التشبث بمرجعيات الماضي وركائزه التي شابها الخلط والتشابك، وكأن الماضي بما يملك من حِكَم وأوهام وعِبَر لا تتناسب طرداً مع الواقع المُعاش الذي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل القريب والبعيد على حدٍ سواء. فالأزمات الكبيرة في حقل ثقافتنا العربية تنذر بالمزيد من الوهن والضعف والتراجع، وتؤكد على انهيار مشروعنا الثقافي العربي، حيث تتزايد رقعة انتشار العقلية الظلامية في بلداننا العربية، والتي ساهمت بالانحسار إلى حدود الهزيمة أفكار العقلانية والتنوير والتغيير. على الرغم من أننا نتحدث عن واقع ثقافتنا العربية، وعيوننا ترنو إلى المستقبل الأفضل المنشود، الذي يخلو من كل ألوان وأشكال الثقافة الاستهلاكية والثقافة الهجينة.
إزاء كل ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولى المرتجاة في محاولة التعاطي مع جميع أسئلة المستقبل تكمن في إدراك وفهم لغة الخطاب العالمي الحديث والمعاصر، التي يتمُّ التعامل بها بين جميع أو معظم أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوى الغربية المؤثرة المتنوعة والمختلفة، وبالتحديد فهم مسارات وتوجهات هذا العالم نحونا نحن العرب على وجه الخصوص. إذ إنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين بلداننا العربية الــ (نحن) والخارج الــ (الآخر) هو بحثٌ في المستقبل، وأيَّةُ دراسةٍ للمستقبل لا بُدَّ أن تنطلق من صورة العالم ومساره، ونماذج تقدّم النظام العالمي وتطوره في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية.
ومن جهة المنظور، لا يخفى على الباحثين والمشتغلين في حقول الثقافة أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم تطوراً وازدهاراً واضحاً يستقطب اهتمام المفكرين والباحثين المتخصصين والمنظّرين الاستراتيجيين. نحن في هذا السياق لا ننفي الماضي عندما نؤكد على الاهتمام بالمستقبل على الإطلاق، فالذي يحسن فهم حاضره بشكلٍ عقلاني ومنطقي يهيئ لمستقبله بقدر ما يحسن توظيف ماضيه الغني الثر. مستبعداً منه ما علق به من شوائب الخرافة والوهم والتخلف، وتلك هي المعادلة التي تتيح لنا صوغ العلاقة الحقيقية بين الأزمنة بصورة خصبة ومتوازنة، حيّة وراهنة، بقدر ما تتيح لنا التحرر من الأفكار والمفاهيم المتكلسة والإيديولوجيات الجامدة البعيدة عن الديناميكية الحياتية التي تجعلنا أسرى ماضٍ سحيق ـ له ما له، وعليه ما عليه ـ يستحيل أن يعود كما كان عليه، أو التخلص من وهن وثقل اللاهوت والطوباويات الدخيلة على ثقافتنا الفكرية والدينية السليمة ،والتي تساهم بقوة في إغراقنا في أوهام مستقبل لا ينفكُّ يبتعد عن ذلك الماضي المتشابك.
لذا فإنَّ الفكر المستقبلي لا يمكن إلّا أن يكونَ تعدّدياً ومتنوعاً، بمعنى أنَّه يستقي من جميع فروع المعرفة وأغصانها بقدر ما ينفتح على جميع وجوه الحياة بكل تلاوينها، كما تتجلى الأفكار المستقبلية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، أو في ميدان التاريخ والحضارة بكل ألقها وزهوها، أو في مجال الفلسفة والأخلاق، أو في ميادين الأدب والفن والإبداع، أو في الدراسات والأبحاث السياسية والاستراتيجية، أو في العلوم الطبيعية والبيئية وعلوم المناخ، أو في علوم الاقتصاد والتجارة والمال، أو علوم الاتصال والوسائط التي باتت منتشرة كالنار في الهشيم بعد ثورة المعلومات وطفرة الذكاء الاصطناعي.
في هذا الإطار نجد أنفسنا نسير وفق نسق التفكير العقلاني والمنطقي من منظور مستقبلي، وهذا بدوره يتوقف على العمل الجمعي بعقلٍ تواصلي، وهو عملٌ عالميٌّ وليس محلي أو إقليمي مغلق، من هنا تتبلور اليوم شبكة جديدة من الآراء والمفاهيم والأفكار تتلاءم وتتوافق مع التحوّل المتسارع الذي تشهده البشرية جمعاء. بحيث تتركز الجهود العملية والفكرية على تشكيل المجتمع العالمي التداولي، لمجابهة المشاكل الكبيرة التي تفتك بالبشرية، كما تتجسد في أنشطة العنف والإرهاب ونفي (الآخر) وتهميشه والأعمال الوحشية التي يقوم بها الكيان الصهي وني ضد أبناء شعبنا العربي الفلسطيني، والجرائم ضد الإنسانية الإبادة الجماعية التي يمارسها في قطاع غزة والضفة الغربية. وهذا أحوج ما نحتاج إليه نحن العرب المساهمة العملية الفاعلة في تنمية المجال التداولي الإنساني وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ (المجتمع المدني العالمـي) ومنظماته غير الحكومية، بعد خذلان الدول والحكومات للشعب العربي الفلسطيني في معاناته الإنسانية المتفاقمة لأنه الفاعل الجديد المناسب في العلاقات الدولية.
وانطلاقاً من الوثائق والدلائل والمعطيات الموصوفة، ثمَّة أهمية كبيرة للقيام بصياغة استراتيجية عربية موحدة للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى التي تساهم في دعم المفاهيم الإنسانية، وهذا يتطلب القيام بدور نقدي مزدوج لطبيعة الأزمات والمشاكل العالقة من خلال الاستيعاب النقدي وقبول رأي الـ (الآخر)
أي المتابعة الدقيقة للحوار الفكري والثقافي والمعرفي العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى في العالم، لتوضيح وجهات نظرنا وتطلعاتنا وأحقيتنا في الوجود وتقرير المصير دون أي ارتباط أو تبعية بماضٍ استعماري مهما كانت قدرته عالية على التجاوب. مع إيماننا المطلق بأنَّ النقد الذاتي لــ (الأنا) العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة ملحّة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في عشرات السنين التي مرّت منذ استقلالنا الوطني واستقلال دولنا الرافضة للتبعية على الأقل.
هنا تبرز مهمة المفكرين والمنظرين وكبار المثقفين النوعيين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وغاية، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي المفاهيم المنطقية والعقلية، والتخلّي عن الشعارات الطنانة الغير قابلة للتحقق والتخلي عن الأوهام والأفكار البالية المتكلِّسة، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية الحديثة والمعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الرئيسي والحقيقي لأي تحديث آخر، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف والتنوع انطلاقاً من نسبية القناعات والمعتقدات، والدفاع بقوة عن المواطنة التي قوامها العدل والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتوزيع الثروة بشكلٍ عادل.

أخيراً : إنّ عهد الحداثة والمعاصرة ما زال مفتوحاً ولم ينغلق في إطار نهائي، بل هو في تقدّم مستمر ، بهدف الإجابة على مجمل العقبات والتحديات التي تواجهها معظم المجتمعات في العالم ، من خلال عقلانية نقدية، فهو العصر الذي تمكنت البشرية فيه من تحقيق أعظم مكتسباتها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية وخدمت الإنسان في مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحياتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى