لا مثالية في السياسة ولا مثالية في نقد السياسة

أمير مخول | حيفا – فلسطين

إذا لم نعترف بشرعية ارتكاب الخطأ فلن نسير إلى الأمام: لا مثالية في السياسة ولا مثالية في نقد السياسة

سأصوت للمشتركة لأن التيار الوطني مهدد ومستهدف سواء من يشارك في الانتخابات ام يقاطعها، وكل تعزيز لقوة اي اطار وطني هي انجاز لكل الصف الوطني؛ لأن تصويتي سياسي ومن منطلق الغيرة على شعبي، ولأن المشتركة تتبنى برنامجا سياسيا وطنيا واجتماعيا، وتشكل نموذجا وحدويا في ظرف يشهد تجزئة الشعب الفلسطيني وتشتت مشروعه الوطني التحرري ومجمل قضيته مهددة؛ وبمجرد وجودها عززت الوزن النوعي والمعنوي للجماهير العربية الفلسطينية، والذي جعل الحلبة السياسية الإسرائيلية الصهيونية العنصرية، وبالذات الحاكمة، غير قادرة على تجاوزه​

هل التوصية على غانتس هي الخطيئة؟

لم تكن التوصية على غانتس مبايعة ولا شراكة، ولم يخرج تصريح واحد فيه تعويل على غانتس رئيس اركان جيش الاحتلال وعدوان الرصاص المصبوب على غزة. بل التعويل الوحيد كان على قوة القائمة المشتركة سياسيا وعدديا. هناك حقيقة وهي ان اية توصية على اي مرشح لرئاسة حكومة اسرائيل هي توصية على مجرم حرب او متورط بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية تجاه شعبنا وعنصرية بنيوية ودونما اي استثناء، من بين غوريون مرورا برابين وحتى نتنياهو ومن شمعون بيرس وحتى شارون وبراك وغانتس.

إن مسعى التوصية لم يكن المشاركة ولا الشراكة، وانما فرض شروط يجري تقييمها في حال نجح في تشكيل ائتلافه هو. وهل من الافضل للفلسطينيين في الداخل والشعب الفلسطيني كله ان يلقي رئيس دولة اسرائيل مهمة تشكيل الحكومة على هذا الفريق او ذاك، وكلاهما مرّ. وهذا يقع في هامش المتاح من مساحات اللعبة البرلمانية في إطار منظومة استعمارية، ولا أوهام بشأنها. إن أحد الدروس التاريخية من الكتلة المانعة عام 1992 التي اتاحت لرابين التغلب على شمير في امكانيات تشكيل ائتلاف حكومي، كانت كتلة مانعة باتجاهين، أحدهما في صد الليكود بزعامة شمير، والاتجاه الثاني كان ان التمثيل البرلماني للجماهير العربية لن يكون في ائتلاف حكومي اسرائيلي أيا كان، وهذا هو الموقف الجوهري للتيار الوطني الواسع داخل فلسطينيي ال48. في مواجهة موقف الاجماع الصهيوني، وكلاهما يرفض الشراكة. ولو لم يتمكن رابين من تشكيل الائتلاف في حينه وبقي شمير، لكان تقييمها سلبيا بامتياز. او ربما كانت التساؤلات لماذا لم تسهموا في إسقاط شمير، او لو تمكن نتنياهو من تشكيل ائتلاف ضيق مع نفتالي بينيت، نتيجة للعزوف المشتركة عن اية توصية، لكانت تتحمل مسؤولية سياسية في ذلك. وليس معنى هذا ان ائتلاف الليكود والصهيونية الدينية بالضرورة أكثر أو أقل عدوانية من احزاب اليمين المركز الاسرائيلي. ما يميز الوضع قبل عام عما سبقه هو كبر الانجاز في الانتخابات السابقة وتحول القائمة المشتركة الى قوة ثالثة قادرة ليس على فرض جدول اعمالها، وانما على تعطيل اي خيار حر لأي من المعسكرين الحاكمين.

الحيرة حقيقية، وليس من الصحيح الاستهتار بها. ويكاد لا يكون موقف يتعلق بالدولة او بالحكم فيها دون حيرة وارباك من هذا القبيل. ولذلك لا اعتقد انه من الصحيح الاستنتاج ان هذه التوصية على غانتس قد حطمت جدران السد الوطني ليخلو من كل ما فيه. هل كان التصويت الواسع لإيهود براك في الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة عام 1999 أكثر شرعيةً من التوصية على غانتس، ورغم ذلك هل حطم جدران السد الوطني؟ (للتنويه، فقد قاطعت شخصيا الانتخابات المذكورة)، فهي ذات الجماهير التي انتفضت في العام 2000 لتشمل الهبّة الشعبية كل مساحات الوطن.  وهل افرغت الكتلة المانعة التي استندت حكومة رابين الى وجودها هذا السد الوطني الفلسطيني في الداخل مما فيه؟ وعليه من الأجدى التعامل مع هذه المسائل بوصفها قابلة للنقاش لا للإلغاء او التكفير الوطني، فالموقف الوطني لا زال الاكثر حضورا وأثرا بين جماهير شعبنا رغم محاولات استهدافه بشقّيه، سواء شقه الاوسع الذي يشارك في العمل البرلماني ام المقاطع مبدئيا.

قوة المشتركة وضعت عليها مهام لم تكن لتحصل لولا أنها على الجانب الآخر من المنطق عوقت السياسة الإسرائيلية وحالت دون حكم نتنياهو الثابت. لكنها لم تكن كافية لاكثر من ذلك. اما التوصية على غانتس فلم تناقش بقدر ما اختلط الامر بين النقد وبين الاساءة، مما حيّد حدوى النقاش السياسي. أفضل امتحان هو أن يضع كل منا نفسه في موقع اتخاذ القرار بالتوصية تتراوح المواقف بين التأييد والرفض. وبامكان الاعلان عن خطأ مع انني لست مع ذلك وانما المهم شرح الموقف ومصارحة الناس حتى على المعضلة من هذا النوع. لكن البائس في المشهد هو تقاعس نواب المشتركة عن الدفاع عن موقفهم او تبريره، وهذا السلوك أساء لثقة الناس التي منحتها لهم في شبه إجماع غير مسبوق.

وإذ أكرر أن الحيرة كانت حقيقية وليس من الصحيح الاستهتار بها، فمن الخطأ الفادح عدم مصارحة نواب القائمة المشتركة للجمهور الواسع بحيرتهم واعتباراتهم وتبريراتهم، ليس اليوم وإنما حين اتخذوا قرارهم او عشية ذلك.

وبنظرة للمستقبل لن يضر أعضاء الكنيست ولا أحزابهم ايجاد صيغة لمناقشة مواضيع ذات حساسية عالية كما أعلاه، في لجنة المتابعة بكل مركباتها ودون استثناء. فالمسؤولية الوطنية مشتركة ومتبادلة بين التيارين المختلفين على الموقف من الانتخابات. وفي مرحلة تتآكل فيها هيبة الحضور الوطني يصبح من الضروري ان تعيد الاحزاب النظر في مجمل عملها مقارنة بمستوى التحديات.

تصويتي للمشتركة موقف سياسي وليس بالضرورة علامة رضا.

هناك الكثير من الانتقادات المحقة تجاه القائمة المشتركة، ومن المهم والضروري انتقاد القائمة المشتركة لكن في كل ما يخضع لقراراتها او مواقفها وسلوكها او حدود مسؤوليتها. من الغبن ان ننتقدها على ما لا تستطيع القيام به، لا هي ولا الاحزاب ولا مجمل التنظيم المجتمعي والسياسي الفلسطيني في الداخل. على سبيل المثال لا يصح ان نلقي على المشتركة مسؤولية تفشي الجريمة المنظمة وأعمال القتل، او ان يردد البعض “شو عملولنا القائمة المشتركة” او “اين القائمة المشتركة؟” أو بالمقابل “خليهم يهتموا بالوضع هون مش بفلسطين” ..الخ. وفي الغالبية الساحقة من الحالات فلا يهم إذا كان رد مقنع ومفحم على هذه التساؤلات فإن الموقف المتذمر يبقى على حاله ولا يتزحزح.

قامت القائمة المشتركة كرد فعل مباشر على رفع نسبة الحسم لتمثل الاحزاب المعنية في الكنيست. وهذا سلوك اضطراري في بدايته التقى مع مطالبة اوساط واسعة من الجمهور في وحدة العمل البرلماني ومضاعفة التمثيل. جاء رفع نسبة الحسم في حينه من منطلق عنصري. وكان الرد وطنيا وحدويا.

القائمة المشتركة ليست تحالفا مثاليا ومتكاملا في كل شيء، لكن ليست مطالبة بأن تكون كذلك بل ممكن القول إن فيها الكثير من الهشاشة التنظيمية والأدائية..  شخصيا لست من المعجبين بكل ما تقوم به المشتركة وممثلوها في  الكنيست، وبرأيي هناك خطاب الافراط في التأثير  الذي لازم المشتركة منذ تشكّلها، وكل ما نتج عنه من مواقف وفائض توقعات، وهناك خلل في العلاقة السياسية التفاعلية مع الجماهير الواسعة وبالذات في تبرير المواقف وتوضيح تعقيدات المواقف بدلا من التنافس على الاحقية، وهناك النجومية على حساب السلوك الجماعي الحقيقي، وهناك عدم توضيح الانجازات للناس بشكل منهجي متواصل، كما هناك انتقادات بشأن هفوات في التضامن الداخلي بين اعضائها وبين مركباتها، والاشكالية التي راودت بالذات المرحلة الاولى من قيامها في العلاقة الملتبسة مع لجنة المتابعة العليا وغيرها وغيرها. ويبقى الانتقاد الأكبر في عدم بلورة قواعد سلوكية ولا مرجعيات تحوّلها الى رافعة للجنة المتابعة العليا وعملها بدلا من الدخول في خانتها الكيانية.

مع ذلك لا يوجد نواب في الكنيست الاسرائيلي تقع عليهم مهام كالتي تقع على نواب المشتركة، ولا يوجد أداء أفضل من ادائهم او يوازي اداءهم. القضايا التي تشغل المشتركة لا تشغل اي حزب اسرائيلي: هدم البيوت (عشرات الاف البيوت)، التطهير العرقي في النقب، الجريمة المنظمة وجريمة اجهزة الدولة المتورطة، الاسرى والاسيرات، القدس، الاقصى وسائر المقدسات، الاحتلال الاستيطان مخططات التنظيم والبناء والميزانيات للسلطات المحلية العربية، تعزيز حقوق المراة العربية، المشاكل التي يواجهها طلاب الطب العرب، ناهيك عن مطالبتهم بالمشاركة في كل نشاط شعبي. وباتت المشتركة اليوم الإطار الوحيد الذي يتحدث عن الاحتلال في مواجهة نتنياهو المهيمن الذي انهى الاحتلال ليس على ارض فلسطين بل على جدول اعمال الرأي العام الاسرائيلي.

لا مثالية في السياسة، بل ان السياسة هي لعبة اللا-مثالية. كما انها ليست مجرد “فن الممكن” بل فن الممكن ضمن قيم يلتزم بها ويتبناها الحزب السياسي او الحركة السياسية، وهي قيم يلتزم بها امام الناس التي تتبناها وتسانده.

كما أنه لا مثالية في النقد، بل كثيرا ما يأخذ النقد منحى غير سياسي بل كيدي وينال فقط من مصداقية القوى الوطنية التي تخوض انتخابات الكنيست، ولا حصانة اخلاقية يضفيها النقد لمن يقوم به. النقد هو فعل سياسي شرعي وضروري لكنه ليس بالضرورة بوصلة وطنية ولا تصحيحية.

بوزنها الكبير شكّلت المشتركة العامل الذي عوّق السياسة الاسرائيلية وادخل احزابها في ازمة، وللتوضيح أزمة حكم وليست ازمة دولة، وخلقت وضعا فيه لا يمكن لأي اصطفاف بين الاحزاب الصهيونية ألاّ يصطدم بوزن المشتركة كمعطى وكحقيقة. كما تتقلص امكانيات تشكيل حكومة دون ايلاء وزن كبير لمطالب واحتياجات الجمهور العربي الفلسطيني. وانتقلت السياسة الاسرائيلية اضطرارا، ومعها وسائل اعلامها، من خطاب العداء المطلق والتهميش والاقصاء ورفض شرعية وجود هذا الجمهور، الى استجداء القيادات الصهيونية العنصرية لهم وكذا وسائل الإعلام والراي العام، يدخل ضمن مسرحة السياسة، علينا ان نحذر فلم يعتذر أحد منهم عن عنصريته هو ناهيك عن عنصرية الدولة، وما هذا الحب المفرط الا من باب “من الحب ما قتل”.

لا تزال المشتركة تجربة حديثة العهد وفيها من الهشاشة البنيوية والتنظيمية وفيها اشكاليات وفيها اخطاء وكل هذا يدخل ضمن الشرعي، ومهما كان فالأمر الجوهري انها ملتزمة بثوابت شعبنا وبالطريق الكفاحي.

بوزنها الكبير شكّلت المشتركة العامل الذي عوّق السياسة الاسرائيلية وادخل احزابها في ازمة، وللتوضيح ازمة حكم وليست ازمة دولة، وخلقت وضعا فيه لا يمكن لأي اصطفاف بين الاحزاب الصهيونية ألاّ يصطدم بوزن المشتركة كمعطى وكحقيقة. كما تتقلص امكانيات تشكيل حكومة دون ايلاء وزن كبير لمطالب واحتياجات الجمهور العربي الفلسطيني.

سأصوت للمشتركة على الرغم من كل ما ذكرت لأن:

لأن التيار الوطني مهدد ومستهدف سواء من يشارك في الانتخابات أم يقاطعها، وكل تعزيز لقوة اي إطار وطني هي انجاز لكل الصف الوطني.

لأن تصويتي سياسي ومن منطلق الغيرة على شعبي، ولأن المشتركة تتبنى برنامجا سياسيا وطنيا واجتماعيا، وتشكل نموذجا وحدويا في ظرف يشهد تجزئة الشعب الفلسطيني وتشتت مشروعه الوطني التحرري ومجمل قضيته مهددة.

تجتمع فيها الاحزاب والقوى الوطنية المعنية بالانتخابات البرلمانية وبالدور الشعبي الوحدوي معا، وحفاظا على وحدة المجتمع الفلسطيني في الداخل.

بمجرد وجودها عززت الوزن النوعي والمعنوي للجماهير العربية الفلسطينية، والذي جعل الحلبة السياسية الاسرائيلية الصهيونية العنصرية، وبالذات الحاكمة، غير قادرة على تجاوزه.

لأنها الإطار الانتخابي الوحيد الذي يتحدث عن فلسطين وعن الاحتلال وعن القدس والاقصى والمقدسات وعن حصار غزة وعن التهويد وهدم البيوت والعنصرية وعن حق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني

لأنها تشكّل تعبيرا عن رفض جماهير شعبنا للأحزاب الصهيونية الحاكمة وغير الحاكمة لأنها الإطار الذي أنصف قضية الأسرى وقام بدوره برلمانيا وميدانيا رغم التحريض الدموي، وتمسك بحقوق شعبنا.

لأنها الإطار الذي يشكل امتدادا لطريق الجماهير الفلسطينية الكفاحي والذي يدمج ما بين الحق والنضال من اجل الحق ويدرك أن لاحق سيتحقق الا بقدر ما نناضل من اجله شعبيا وبرلمانيا، ومحليا ودوليا.

لأن جماهير شعبنا من خلال المشتركة زادت هيبتها امام المحافل الدولية المؤثرة وأسمعت صوتها بقوة، وزادت الوعي العالمي عن فلسطينيي ال48 ولقضاياهم.

لأنها تؤكد على انشغالها بقضايا شعبنا الفلسطيني قولا وفعلا، وترفض فك الارتباط بها والتراجع عن الطريق الكفاحي الشعبي والمحلي والدولي.

احترم كل صوت لا يشارك مبدئيا في انتخابات اسرائيل كموقف من الدولة، وشتان بينه وبين العزوف عن المشاركة من باب “شو عملولنا النواب العرب”، أو “هم وقلتهم واحد”  وشتان ما بين الموقفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى