الاستهبال والاستغلال الجنسي

جميل السلحوت | القدس الشرقية – فلسطين

        ويستمرّ الجهل في استغلال ضحاياه، ويأتي النّصّابون والمحتالون لقطف”ثمار الجهل” فيستغلّون ضحاياهم بطرق شتّى، ولا يكتفون بالاستغلال الماليّ بل يتعدّونه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، مثل نشر الفتنة بين الجهلاء، ليعودوا جميعهم إلى المشعوذين؛ ليخلّصوهم من العداوات التي استجدّت عليهم، وبما أنّ السّيادة للجهل، الذي يسيّر من يعشّش في رؤوسهم إلى المشعوذين في مشاكلهم المختلفة -مهما كانت صغيرة أو كبيرة- وهناك يظهر المشعوذ وكأنّه عليم بالغيب! فيعطي “علاجا” لكلّ حالة تأتيه، حسب الزّبون الذي يرتاده، وغالبا ما يقول لضحاياه أنّ المريض يعاني من عَمَلٍ عُمِلَ له، ويقصد هنا السّحر، وهذا العمل يجعل “جنّيّا” كافرا يتلبّس المريض، وهذا يحتاج إلى “مندل” وبخّور وقراءات ومزيد من جلسات “العلاج” ومن المال، كي يأتي المشعوذ بأتباعه من “الجنّ” المؤمنين، لطرد الجنّيّ الكافر من جسد المريض. ولا يتوقّف الأمر عند هذه الحدود، بل يتعدّاها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، منها “الفتنة” التي تتشابك مع أناس آخرين، فتثير اتّهامات وعداوات لا آخر لها، كأن يقول المشعوذ المحتال:” أنّ هذا المريض” معمول له عمل شيطانيّ مثلا من امرأة وجهها مستدير، متوسّطة القامة، تكرهكم وتحسدكم، وتتظاهر بأنّها محبّة وصديقة لكم” أو غيرها من الأوصاف التي تنطبق على كثيرين من البشر، ويبدأ أهل المريض بالتّخمين حول من تكون هذه المرأة، ثمّ لا يلبثون أن يستقرّوا على واحدة قد تكون من أقرب الأقربين لهم، فيعادونها ويسيئون لها دون ذنب اقترفته.

      لكن الأسوأ هو استغلال المشعوذين من يرتدن أماكنهم طلبا لحل المشاكل جنسيّا، فيوهمون “الزّبونة” بأنّ الجنّيّ الكافر الذي يتلبّسها لا يخرج إلا بالممارسة الجنسيّة من رجل مبارك كالمشعوذ نفسه! فترضخ له راضية مرضيّة! وقد يكون مرافقها أو مرافقتها ينتظر في غرفة الانتظار، كشاهد الزّور، دون أن يدري ما يجري بجواره، وهناك نساء يرتدن هؤلاء المحتالين طلبا للحمل، أو لتأخّر زواجهنّ، وهذا يتطلّب الانكشاف أمام رجل ليخرج “الجنّيّ الكافر” الذي “يتلبّس” هكذا نسوة! ومنهن نساء متديّنات ومحجّبات، وبعضهنّ من أتباع ديانات أخرى! فيقبلن ذلك طائعات! بعد استغفالهنّ لما ينعمن به من هبل وجهل.

       وثقافتنا الشّعبيّة تشجّع على الاستغفال “الغريق يتشبّث بحبال الهوا”، فالتي يتأخّر حملها لسبب ما، قد يكون منها أو من زوجها، وراجعت طبيبا ولم تحمل بالعلاج، أو لم تواصل العلاج حتّى النّهاية، قد تحمل بعد “مراجعة المشعوذ!” لتبدأ الدّعاية للمشعوذ وقدراته العجيبة دون أن يفكّر أو يتساءل أحد عن كيفيّة حملها!

الاستهبال وتعطيل العقل

        يسهل على المرء أن يرى بعض “المتأسلمين الجدد” وقد ارتدوا الثّياب “الدّشاديش” وانتعلوا الأحذية البيتيّة “الشّباشب”، في أجواء باردة جدّا، ويطلقون لحاهم كيفما تيسّر، وعندما تسألهم عن لباسهم هذا، وعدم ارتداء “البناطيل” وانتعال الأحذية طلبا للدّفء، يجيبونك بخشوع بأنّهم يقتدون بخاتم الأنبياء عليه الصّلاة والسّلام، ويقرأون أمامك عددا من الآيات القرآنيّة الكريمة منها:” لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.” وإذا ما قلت لهم أنّ التّأسّي والاقتداء بالرّسول يكون من خلال:” الاستقامة والسموَّ والإباء، والحقّ والقوة، والورع والعدالة، والعقل والحكمة، والخلق الحسن والتواضع، والزهد والإيثار، والشجاعة والبلاغة والبيان، والصبر والإحسان..إلخ من القيم والأفعال الحميدة” وليس بالملابس، وأنّ ملابس وأحذية هذا العصر لو كانت موجودة في عصر الرّسول والصّحابة لارتدوها؛ وأنّ البنطال نوع مطوّر عن السّراويل التي كان العرب يرتدونها للفروسيّة، وارتداء البنطال وانتعال الأحذية لا مخالفة شرعيّة فيها؛ بدلالة أنّ كبار “العلماء” يرتدونه وينتعلونها، فإنّ المهذّبين منهم يدعون الله لهدايتك، وكأنّك ضالّ عن الطريق المستقيم، أمّا البعض الآخر منهم فقد تسمع منهم كلاما جارحا وغير لائق! أليسَ في هكذا تصرّفات تعطيل للعقل، وإلحاق الأذى بالنّفس والجسد من خلال الفهم الخاطئ لمعنى القدوة والاقتداء؟ كما أنّ فيه عدم استيعاب لمواكبة تطوّر الحياة؟ وأنّ هكذا فهم خاطئ للقدوة ينفّر الأجيال المعاصرة من الدّين والتّديّن؟

       وهل تحتاج هكذا أمور إلى تفكير كبير وعميق حتّى يدركها البشر؟ ألا يوجد عاقل من “شيوخهم” يرشدهم لحماية أنفسهم من البرد الشّديد؟

       ومواكبة العصر تعني أيضا الارتقاء وتطوير الخطاب الدّيني بما يواكب العصر المعاش، أعرف رجلا مغتربا في أمريكا من قرية قرب رام الله في فلسطين، كان يعود بأبنائه صيفا إلى قريته؛ كي يحسّنوا لغتهم العربيّة ويتعلّموا مبادئ دينهم، وعادات شعبهم وأمّتهم، وذات يوم جمعة كنت في ضيافته، فطلب من أبنائه مرافقتنا لصلاة الجمعة، فرفض ابنه البكر، -وكان في الخامسة عشرة من عمره- طلب أبيه قائلا: ما سيقوله الشّيخ في خطبة الجمعة حفظته جيّدا، فهو يكرّره كلّ عام، فلماذا لا يحدّثنا عن حياتنا الرّاهنة ويبيّن لنا موقف الدّين منها كما يفعل الكاهن في أمريكا؟ وفي النّهاية رافقنا الفتى دون أن يقتنع بأيّ مبرّر لموقف إمام المسجد ومضمون خطبه الدّينيّة، فهل من يرفضون عَيْش حاضرهم وواقعهم يصلحون للدّعوة إلى الدّين، ويستطيعون غرسه في أذهان النّاشئة؟

الاستهبال الدّينيّ والحروب

          يبدو واضحا أنّ الطّغاة يتستّرون خلف الدّين فيبطشون ويقتلون ويدمّرون، ويخدعون الشّعوب التي تصدّقهم ظنّا منها أنّها ستفوز بالآخرة.

         فالرّئيس الأمريكيّ الأسبق جورج دبليو بوش احتلّ أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003ودمّرهما، وقتل وشرّد الملايين فيهما، وهو يصرّح دون أن يرفّ له جفن بأنّه يتلقّى تعليماته من الرّبّ يوميّا! وإذا ما استطاع خداع شعبه بهذا الإيمان الزّائف، فإنّ المحزن أنّ “كنوزه الاستراتيجيّة في منطقتنا” لم يكتفوا بالمشاركة معه، بل قاموا بتمويل هذه الحرب الكارثيّة التي لا تزال تستبيح دماء الشّعب العراقيّ، وتدمّر هذا البلد العظيم، كما تبرّع أصحاب العمائم واللحى بإصدار الفتاوي والتّحريض لمواصلة القتل والتّدمير حتّى يومنا هذا، برغم اعتراف الأمريكيّين بأنّ حربهم على العراق بنيت على أكاذيب، واعتبرها بعضهم خطأ كبيرا. أمّا أصحاب العمائم السّوداء فقد وجدوها ولا يزالون فرصتهم للثّأر من وطنهم وشعبهم لحرب نظام الرّئيس صدّام حسين مع إيران “أيلول-سبتمبر- 1980- أب –أغسطس- 1988″، فتركوا العراق نهبا لإيران، ويطلقون مليشياتهم تنهب وتدمّر وتقتل وهم يهتفون: “لبّيك يا حسين”! وكأنّ آل البيت لهم وحدهم دون غيرهم من المسلمين، وتوّلت أمور العراق بعد ذلك حكومات من الطّائفيّين والسّرّاق، فنهبوا ثروات البلاد، وزادوا عذابات شعبهم عذابات أخرى لا يبشّر المستقبل المنظور بنهاية قريبة لها.

         والوضع لا يختلف كثيرا في سوريا، ليبيا، اليمن، سيناء المصريّة. “فمشايخ السّلاطين” فتاويهم جاهزة لإباحة القتل والتّدمير، وتتوقّف بعيدا عن حدود الأعداء الحقيقيّين للأمّة، بينما “مشايخ المتأسلمين الجدد” يواصلون الفتاوي بتحليل “جهاد النّكاح” و”الجهاد” لتدمير بلدانهم، وقتل شعوبهم، واستنزاف جيوش وتحطيم اقتصاد  بلدانهم، ويبدو أنّها لن تتوقّف قبل تنفيذ مشروع “الشّرق الأوسط الجديد” الأمريكيّ، والذي يهدف إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة.

          ولاستمرار الجريمة فإنّ تغذية الطّائفيّة بين سنّيّ وشيعيّ، والتّحريض على أبناء شعوبهم من غير المسلمين تتصاعد يوميّا، ويغذّي هذه الجرائم فتاوي وتحريض من “مشايخ” لا يخافون الله في استهبال واضح لعقليّة الرّعاع، واستغلال محكم للجهل السّائد في أمور الدّين والدّنيا، وتتعالى الجرائم بالتّحريض على غير المسلمين في بلدانهم، ومنهم مسيحيّو الأقطار العربيّة، وهم مواطنون أصيلون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

        ومن جانب آخر فإنّ قادة الحركة الصّهيونيّة أوّل ما فكّروا “بجمع شتات وإقامة وطن قومي لليهود” رشّحوا أوغندة في افريقيا، والأرجنتين في أمريكا الجنوبيّة، فخافوا أن لا يستجيب اليهود لدعواتهم، فرفعوا شعارا توراتيّا دينيّا “العودة إلى أرض الميعاد” ونجحوا في دعوتهم بدعم من قوى الامبرياليّة العالميّة؛ لتقوم اسرائيل بقوّة السّلاح كقاعدة عسكريّة متقدّمة في منطقة الشّرق الأوسط؛ لحماية مصالح الدّول الدّاعمة، على حساب الشّعب الفلسطينيّ بشكل خاصّ، وشعوب المنطقة بشكل عامّ.

        وبعد حرب حزيران عام 1967، واصلت الحكومات الاسرائيليّة المتعاقبة الاستيطان في الأراضي المحتلّة، لتصل ذروتها في عهد حكومة بنيامين نتنياهو، التي تفضّل الاستيطان والتّوسّع على السّلام العادل، ومن منطلقات دينيّة تحت شعار “أرض اسرائيل الكاملة”  تطلق على المستوطنات أسماء توراتيّة، مستهبلة شعبها وشعوب المنطقة، ومستهبلة الرّأي العام العالميّ بدعاية مضلّلة، تساندها في ذلك المسيحيّة المتصهينة في أمريكا وأوروبا، وليس بعيدا ذلك اليوم الذي سيجري فيه تقسيم المسجد الأقصى، كما جرى للمسجد الابراهيمي في الخليل،  إن لم يهدم كاملا، ومن منطلقات دينيّة يهوديّة لبناء الهيكل اليهوديّ على أنقاضه، وسيجد العرب والمسلمون من يفتي لهم بأنّ ما جرى قضاء وقدر الله! وهذا قمّة استهبال الشّعوب.

       واستهبال الشّعوب دينيّا، واستغلال جهلهم بدينهم ودنياهم معروف تاريخيّا، وقد حذّر منه المفكّر الاسلامي ابن خلدون (1332 – 1406م) في “المقدّمة”، ولعلّ في إعادة قراءة حملة “الشّيخ” نابليون على مصر، وهولاكو على بغداد ما يفيد بهذا الخصوص لمن يتّعظون من التّاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى