بلوة ابتلينا !

بقلم: علي جبار عطية
شجعني شقيقي في الدم، والقلم، ورحلة الألم الشاعر والأديب عبد الرزاق الربيعي على نشر هذا الكتاب على حلقات على مواقع التواصل الاجتماعي قبل طبعه ورقياً بعد أن طال الوقت لظهوره بوجوده الفيزياوي، أمّا زهداً بالنشر، وأما لقلة الحيلة على الأرجح لأنَّ الكاتب في العراق مهما بلغ مستواه وبراعته لا يمكن له أن يأخذ حظّه من الانتشار من غير أن يكون منتمياً بشكلٍ، أوبآخر إلى جهةٍ ما، أو تكون له علاقات من نوع خاص مع شخصيات معينة في دور نشر تكفيه مؤونة النشر، والتوزيع، وبخلاف ذلك يكون حاله كحال من يحرث في البحر إذا كان يعيش قرب بحر لا قرب ساقية !!
الربيعي قال لي وهو يهاتفني من مسقط مساء يوم الجمعة الموافق ٢٠٢٠/٥/٢٩م : لقد أسعدني الشاعر المتميز وسام عبد الحق العاني المقيم في مسقط بظهوره ببث مباشر ليلة العيد السبت الموافق ٢٠٢٠/٥/٢٣م في أمسية اتحاد الأدباء والكتاب في العراق خصوصاً أنَّ أقصى عدد يمكن أن يحضر الأمسية إذا أقيمت في قاعة لا يتجاوز الخمسين شخصاً بينما يمكن أن تكون الأمسية الإلكترونية متاحةً لجميع متصفحي مواقع التواصل فضلاً عن تسجيل الأمسية فيديوياً، ومشاهدتها في أية وقت، وبإمكان أي شخص فاتته الأمسية أن يشاهدها في الوقت الذي يناسبه، وجزى الله مارك مخترع الفيس بوك كل خير !
بالمناسبة؛ يحلو لي ـ كقارىء ـ وصف الشاعر وسام العاني بأنَّه أعاد للشعر العمودي هيبته ! واقرأوا بعض شعره وستقولون عني : رحم الله والديك!!
عبد الرزاق الربيعي قال :لو سلمنا أنَّ بإمكانك في هذه الظروف (الكورونية) ـ نسبةً إلى جائحة كورونا ـ طبع كتابك فكم نسخة تطبع، وإلى من تستطيع إيصالها؟ في حين تصل كتاباتك في مواقع التواصل الإجتماعي إلى متابعيك ومتابعي متابعيك!!
أقنعني الربيعي بأنَّ جمهور التواصل الاجتماعي أوسع من جمهور الكتاب الورقي فضلاً عن تلقي الكاتب ردود فعل إيجابية وسلبية تتعذرعليه معرفتها لو طرح كتابه ورقياً فيعرف رأسه من رجليه !
قال الربيعي في تعليقٍ جميلٍ على مداخلةٍ للكاتب كاظم الحلاق : إنَّ النص ليس كتاباً منزلاً، ففي هذه الأيام ينشر الكاتب الجزائري واسيني الأعرج فصول رواية جديدة في صفحته، وقد قال في لقاء مباشر : (إنَّه بعد كل فصل يقرأ التعليقات ويأخذ بالملاحظات) .
قبل ثلاث سنوات كانت لي تجربة جميلة على الفيس بوك وعلى اليوتيوب فأعددت وقدّمت برنامجاً قصيراً عنوانه (تعالوا نحيا) باثنتي عشرة حلقة أدعو فيها إلى إشاعة ثقافة الحياة مقابل تمجيد ثقافة الموت، وقد لمستُ مقدار التفاعل بيني وبين المتلقين بما يعود بالفائدة على الجميع.
هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي ألجأ فيها إلى عبد الرزاق الربيعي في المنعطفات الحرجة بما عرف عنه من حكمةٍ، وامتلاك للحلول العملية وهو كالنحلة لا يحط إلا على طيب، ولا يدل الا على طيب؛ بل طالما كان مفتاح الخير لي في لقاءاتي مع مَنْ لا يعرفني فكان اسمه كالشفرة التي تفتح لي بها الأبواب المغلقة ذلك؛ لأنَّ اسمي الثلاثي ـ الذي عرفت به منذ الولادة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ـ كان عائقاً في وصولي إلى القراء برغم نشري آلاف المقالات والأعمدة والحوارات وغيرها على مدى ثلاثة عقود من عملي الصحفي النظامي فإذا تعذر عليَّ التعريف بشخصي قدمت نفسي، وبفخر بأنَّني شقيق الشاعر عبد الرزاق الربيعي!!
وعبد الرزاق لمن لا يعرفه في الجانب الإنساني ـ الذي لا ينفك عن الجانب الأدبي والمعرفي -أقدمه للقارىء بإختصار بأنَّه يعتقد بأنَّ مَنْ كان لديه ألف صديقٍ وعدو واحد، فإنَّه شخصٌ غير ناجح؛ لأنَّه فشل في كسب صديق !!
قد تأخذ القارىء الدهشة لذكر بعض التفاصيل في هذه الذكريات، ويستبعد حصول بعضها، لكنَّ هذا ما حصل بالفعل، فأنا منذ أكثر من أربعين سنة شغفت بتدوين يومياتي آملاً أن تظهر في يومٍ ما للناس، وحصلت بعض الحوادث الساخنة في الوضع العام والوضع الخاص كالحروب والحصارات، والجو الأمني المرعب، ولقائي ببعض الشخصيات الثقافية والمعرفية والاجتماعية التي أثرت في تكوين شخصيتي تأثيراً بالغاً، لكن ماذا نفعل والأمر كما قال الشاعر :
يفارقني مَنْ لا أطيق فراقه
ويصحبني في الناس مَنْ لا أريده !
هذا وغيره عزّز من توجهي نحو الكتابة اليومية وشبه اليومية، وفي أحلك الظروف حتى صارت سلوتي وملاذي في جميع الأوقات والأماكن، وشكَّل الحفاظ على هذه اليوميات سالمةً من المخاطر الأمنية والجوية مشكلة كبيرة في سنوات الليل الطويل.
هناك مثلٌ شائعٌ على ألسنة الناس يقول : (بين العجم والروم بلوة ابتلينا)!والمقصود هو الصراع التقليدي بين أكبر دولتين جارتين في السيطرة على العراق طوال سنوات الصراع التركي الإيراني في القرون الماضية الذي وجد العراقيون أنفسهم فيه ضحايا،وهكذا وجدتُ نفسي في كثيرٍ من المواقف، والأحداث مضطراً لمسايرتها ثمَّ تدوينها، ولولا التدوين لما وصل إلينا شيء من وقائع التاريخ !
لماذا أكتب، ولمن أوجّه هذه الذكريات؟
سؤالٌ وجيهٌ، والجواب هو أنَّ وظيفة الكاتب هي أن يكتب كما هي وظيفة الخباز أن يخبز، ووظيفة البلبل أن يغرد! أما الجواب الذي يحب أن يقرأه أهل القيم والمثل الرفيعة فهو أنَّ لكلّ كاتب رسالة يجب أن يؤديها، وإذا كانت هناك من رسالة في هذه الذكريات فهي تأمل المواقف والشخصيات والتجارب التي مر بها كاتب هذه السطور، وتجنب الأخطاء وأخذ العبر، وعدم الاستعجال في قطف الثمار إنْ كانت هناك ثمار طبعاً !
أما لمن أوجّه هذه الذكريات؟ فالجواب هو للقارىء المحب لمعرفة هذا العالم العجيب؛ عالم الصحافة، وكذلك للقارىء المتخصص في الإعلام لعله يطلع على بعض واقع الصحافة الورقية قبل استسلامها للصحافة الرقمية! فضلاً عن توجه الكتاب إلى من عاش هذه الحقبة المظلمة التي لا تخلو من بعض الضوء في بعض الأحيان ومنهم من عايش كاتب السطور ويحب أن يرى مكانه من الإعراب!!
وقد تحيّرت بالطريقة التي تصل بها هذه الذكريات إلى الآخرين، وأذكر أنَّ القاص الشهيد حسن مطلك اطَّلع في بيتنا بمنطقة الحرية ببغداد على بعض هذه اليوميات قبل أشهر من إعدامه في تموز سنة ١٩٩٠م بتهمة التآمر لقلب نظام صدام في ما تسمى بـ(مؤامرة الجبور) فقال: (إنَّ هذا مشروع روائي مهم) ولكنَّ المشكلة أنَّ التعامل مع روايةٍ ليس كمثل التعامل مع كتاب ذكريات من جهة المصداقية !
ولي مع كتابة القصة القصيرة أو الأقصوصة حكاية ربما أذكرها في الوقت المناسب.
ولكي أتجاوز هذه المشكلة فضلتُ اختيار سرد الذكريات من غير التقيد بجنس أدبي معين، وتركت الأمر للقارىء ليصنف الكتاب كيف يشاء !
كنتُ قد خططت لسرد هذه السيرة بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء هي (بالحبر الأبيض ـ سيرةٌ صحفيةٌ)، و(بالحبر الأحمر ـ قضايا صحفية)، و(بالحبر السري ـ حكايات صحفية) لكن ما أن نشرت الحلقات الأولى في مواقع التواصل، وبعض الصحف الإلكترونية حتى لمستُ تفاعل القراء مع السرد فغيرتُ الخطة، وصرتُ موظفاً لدى القلم ـ كما يقال ـ فصار الكتاب بهذه الهيأة، واضطررت إلى التلميح أو التلويح بدل التصريح لبعض الأسماء والحوادث مراعاةً لظروف موضوعية لا تخفى على القارىء الفطن، وكنتُ عازماً على إنجاز القصة من الألف إلى الياء، لولا ضغوط العمل، وكثرة الالتزامات فأجلّتُ إكمال المشروع إنْ شاء الله إلى كتاب آخر سميته (بالحرف العريض ـ مواقف صحفية) لعلَّ حظه يكون كحظ شقيقه (بالحبر الأبيض ـ سيرةٌ صحفيةٌ) من الانتشار والقبول والمتابعة !
أما فصول الكتاب فكنتُ أعرضها فصلاً فصلاً على شقيقي الشاعر والكاتب عبد الرزاق الربيعي، مستفيداً من ذاكرته المتوهجة، وحسه الأدبي العالي، وخبرته الطويلة في الحياة وعالم الأدب والصحافة لتدارك ما فاتني، ولتصويب ما وجده من أخطائي، فله الفضل في المراجعة والتقويم والتسديد، وأنا مدين لكل مَنْ تابع هذه السلسلة في المواقع الإلكترونية، وأبدى ملاحظات أخذتُ بمعظمها بعد أن تركتُ قريحتي تفيض بما موجود، أليس الجود بالماجود؟!
ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
مقدمة كتاب (بالحبر الأبيض ـ سيرة صحفية) الصادر عن مؤسسة ثائر العصامي للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد /٢٠٢٢م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى