أدب

الهروب من الحب.. قراءة في قصيدة “بعد فجوة” لعبد الشافي أبرغوث

اسماعيل السخيري

مذ عرفته أول مرة بالحي الجامعي وهو مولع بالشعر قديمه وحديثه، لم يكن الشاعر الشاب عبد الشافي أبرغوث منفكا عن الشعر كنا نقضي يومنا بالشعر يقرأ علي ما جادت به قريحته وأقرأ له أنا ما يمليه علي شيطاني..حدثني عبد الشافي أبرغوث في تلك المرحلة أي في عام ٢٠١٨
عن هوسه بالشعر كنافذة لرؤية العالم كان ولايزال محبا للألفاظ العتيقة القديمة لذلك يأتي شعره جزلا فصيحا ينشده كعصفور يُسمع شدوه من الجبال العالية. بالمناسبة هو أيضا يحب جبله الأخضر شفشاون الزرقاء أو غرناطة أخرى أو الحديقة المعلقة في الجبل كما يسميها شاعر شفشاون بل المغرب عبد الكريم الطبال الذيجمعتنا محبته والقراءة له أنا وعبد الشافي أبرغوث وفيما أتذكر فإن أول لقاء لي بتطوان لحضور الأنشطة الثقافية كان هو حضور حفل توقيع ديوان في حضرة مولانا للشاعر عبد الكريم الطبال بمكتبة بيت الحكمة كنا نحن ثلاثتنا عبد ربه والشاعر عبد الشافي أبرغوث والقاص محمد الكريمي وعبد الخالق العلاوي؛ كان هذا اللقاء فاتحة خير بالنسبة إلي، فهي أول مرة أصافح فيها شاعرا بل أتجرأ على الحديث معه وهلم جرا..
منذ ذلك الوقت وشاعرنا عبد الشافي يتشبث بالشعر يأبى أن يفارقه ولا يفضل غيره من الأجناس فهو لم ينفتح لا على القصة ولا على الرواية ولا حتى الخاطرة..
لذلك فإنني اخترت أن أتفرس في قصيدته هاته التي تلخص هواه الشعري وميله وحبه الوثني لعوالم القصيد وعلى كل حال فقد تسعفنا الطرائق واللغة في دخول عالمه الشعري وقد لا تسعفنا لذلك فإنني أتحفض عن القول بأنها دراسة نقدية لأنها قد تستحيل إلى دراسة تقريضية كاحتمال ممكن وواقعي لأسباب عدة أولا لقربي من الشاعر ثانيا لطبيعة النص ولكننا لن نقف أمام سدود مانعة بل سنفتح نوافذ القصيدة ونشرع عنوة في دخولها، يقول الشاعر عبد الشافي أبرغوث:

بعد فجوة
وقد شهد عني الدهر
أني قد اتلفني الغمام.
وبعد فجوة وفنجان
حلق بقلبي الحمام
وسمائي بعد كآبة
يجول بها الهيام
فقد ترفعت عن لهو وتاء
ورفعني عنهن الفطام
فلست أريد غير التي أمسكت بيدي
وأذن وجداني السلام السلام
إنها الحبيبة والحب بعينه
و البشرى يأتي بها الإلهام
لقد هرب الرومانسيون من الناس صوب الغاب لجمالية الطبيعة وفتنتها وهدوئها لكن اتصالهم بعوالم المدينة كان دائما وكذلك بالناس فلم يزهدوا في الدنيا ولا أعرضوا عن الحب أو عن الدخول في الناس بشكل عام، فالدخول في الناس يعني الحضارة كما يقال أو هكذا تُعرف الحضارة. لكن شاعرنا عبد الشافي أبرغوث لا يريد الدخول في علاقات بعينها تشي بذلك هاته القصيدة فهو متشبث بعوالم الطبيعة، رومانسي بطبعه هائم في عوالم الكون بغمامه وحمامه الزاجل، إن معجم القصيدة ينقسم إلى قسمين حقل للطبيعة ينتصر أي يزكي طرح الهروب إليهافلا مناص إذن من الهروب وحقل الهروب من الحب، نعم الهروب من الحب هو ديدن الشاعر هنا في هاته القصيدة، لكن لماذا يهرب؟ هل له ماض حزين قاس مع محبوب ما؟ أم له تصور قاصر عن الحب؟ ثم ما الذي يجعل شاعرا يحب الفنجان ويهرب من الحبيب؟ لعل الحفر العميق في القصيدة الذي وصلنا الآن إلى منتصفه هو الذي سيجيبنا عن هاته الأسئلة سواء بشكل صريح أو ضمني مبطن..
نعم لقد أتلف الغمام الشاعر أي شده، وبعد الفجوة والفنجان يحلق بقلبه الحمام بمعنى أنه يرسم لنفسه عالم آخر أو يخيل له أنه في عالم فردوسي بمجرد فجوة بين فنجان وفنجان ربما هرب بمخياله المكان الذي يجلس فيه وهو طبعا المقهى لكن ليس أي مقهى. بل هو مقهى مخضر شاسع وسمائي أو ربما هو مقهى مجازي..لعله يقصدهما معا!!
لكن رغم هذه الجلسة التي يختلي فيها بمحبوبه (الفنجان) فإن الشاعر كئيب(كآبة)..نعم كئيب وحزين جدا، ربما بفعل السماء فهي أيضا كئيبة ومليئة بالغمام وهذا ما يدل على أن الشاعر متصل بالكون بالطبيعة فيحزن لحزنها ويفرح لفرحها.
إن هذا التماهي خلق حزنا داخل القصيدة . لكن ألا يمكن أن يكون هذا الحزن آت من شيء آخر؟
إن بعد الشاعر عن الحب أو عن التاء على حد تعبيره سبب له هاته الحالة النفسية الملغومة بألغام الأنا الذي يريد التشبث بالآخر أي بالحسنوات والغواني خاصة وبالمحبوب عامة. لكنه عنوة يريد أن يبتعد عن التاء المربوطة أو المبسوطة.. لأنه مترفع عن اللهو مقابل ذلك فهو جاد وواقعي وحالم آيضا يقول : فقد ترفعت عن لهو وتاء..
مترفع يُبعد نفسه بنفسه بل هو قد فطم على الابتعاد عنهم على حد مجازه الشعري الآخاذ، وهذا مبالغة في الرفض القطعي للجنس الآخر. ألا يكون هذا ضرب من الجنون الشعري أصاب الشاعر أبرغوث عبد الشافي أم أنه فلسفة في المعيش حكيمة؟
إن الأنموذج الذي يقدمه الشاعر ليشي بشيء من الاختلاف الجذري في الطبائع لأن المتعارف عليه هو أن كل رجل يرنو إلى محبوبة، حيث إن شعراء الجاهلية وكذا شعراء هذا العصر قدموا أنفسهم قربان للحب والمحبوب غير أن شاعرنا هذا يفضل العزلة الملكية الشاعرية برفقة فنجانه بدل الدخول في معركة لا يعرف فيها من الخاسر ومن الرابح..لذا فهو لا يريد سوى ما تمسك به يده الآن ليؤذن وجدانه السلام السلام فالشعار يصبو إلى القبض على السكينة وراحة البال والطمأنينة المحشوة بكثير من الكافيين في مكان هادئ مخضر يانع وراق وبعيد أيضا عن الحب عن الجلبةِ وعن الخسارة. يفكر شاعرنا بمنطق إقتصادي متوقد منطق رابح رابح، فالفنجان الذي سكبت فيه القهوة هو حبه ومحبوبته التي لم كتف برشفها فقط بل بها يتولد له الإلهام فيصير هائما في الشعر على يده وقدمه أو يمشي حبو ا إلى جنات من عناقيد المجاز لذلك هو مشتبث بالبعد عن الحب الحارق الذي يولد جراء لقاء محبوب بلا ضمانات لأجل هذا غرد الشاعر خارج السرب المعهود واكتفى بسمرائه في عليائه مترنما بقطوف السكينة والولاء للمحبوبة الدافئة كل مساء وكل صباح..
هي شعرية الهروب ليس إلى الطبيعة فقط بل إلى كل ما يبعد الشاعر عن المعاناة الجسدية والنفسية بالأخص، ففوبيا الحب شيء رائج زمن التقليب فبدل الحب الآن هناك كلمة “بح” في مقابل “حب” لذلك أراد الشاعر البوح كأقل خسارة ممكنة في عالم لا تخطئ معاوله رأس آدمي.
إيقاعيا لن نقدم أي تأويل لكون ذكر البحر أو النهر لن يسعفنا في شيء اللهم إذا رافق ذلك تحليل الأصوات والنغمات الإيقاعية الذي يؤصل للمعن ويزكي التأويل وهذا شيء يتطلب علما يجري مجرى الغدير..
ثمة إذن هروب من الحب صوب ما يعادله وما يحجبه ويواربه قد يكون الفنجان مثل ما رأينا وقد يكون شيء آخر لأجل هذا يكون الخروج عن النمطي وفتح أبواب حب آخر لأجل هروب آخر أو أخير..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى