البدر الذي طلع علينا
آميرة عبدالعزيز | القاهرة
تُرَى ما تلك السماء الصامتة التي تريدُ أن تفصح عن سر تراه من أعلى،، ربما تشعر به وبعظمته..!؟ يا لكِ من سماءٍ إنها مرتفعة بغيرِ عَمَدٍ..! تراها شامخة أبية ولكنها مطويات بيده لا تستطيع البوح بما تعرفه من أسرار إلى أن يأذن لها مالكها ومليكها.
ويا لتلك الصحراء الخرساء التي تُخفي في أعماقها سراً دفيناً لا يبدو ظاهراً للعيان، ولكن يشعر به من يمتلك شفافية بإمكانها أن تنفذ داخل تلك الأعماق وتغوص فيها وتكتشف أسرارها.
إنه عصر ساءت فيه الأوضاع، إنه القرن السادس الميلادي ذلك العصر الذي كَثُرَت فيه الحروب حتى إصطبغ وجه العالم بلون الدم، ولم يُراعي البشر حُرمة دين أو جوار الأمر الذي أدى إلى سقوط البشرية كلها بين رحى فكي الإفراط والتفريط في كل شئ حتى الأديان لم تَنْجُ من مظاهر الوثنية والشرك فأصبحت عبادة الأصنام فريضة واجبة، وتفشت السُخرة وشاعت العبودية فضاقت واستحكمت حلقة الظلم وعمَّ الفساد وبدا بَيّن واضحاً وضوح الشمس في وقت الظهيرة.
لقد نمت في الصحراء الجرداء نبتة جميلة الشكل ذات رائحة عَطِرة ذكية، والسماء الصامتة بَدت وكأنها متلألئة مزدانة بالنجوم مستبشرة بذلك المُخَلِص الذي إنسَحبَ من مجتمعه الجاهلي بكل مساوئه وتقاليده وعاداته المظلمة والجائرة ليتفكر في كل ما حوله ويتأمل داخل حفرة في بطن الجبل تبدو رطبة مظلمة في ظاهرها ولكن باطنها نور، إنه النور الذي ينفذ من عمق الظلام، حيث كانت له الراحة والسكينة والمواساة ورغم رطوبة حوائطها إلا أنها كانت تضمه وتروي ظمأه وهو يتأمل في تلك الظلمات التي يَغرِقُ فيها المجتمع الذي يعيش فيه، الجاف في علاقاته وعاداته وأساليبه وطريقة تفكيره.
إنه ذلك الغار المُسمى “غار حراء” كان يدخل فيه رجلاً يٌعرَف بالصدق والأمانة والإخلاص مُتَعبِداً داخل هذا الغار وكان ينأى بنفسه فيه بعيداً عن الجميع فأضحى مداره الخاص وبدا للعيان واحداً من الزهاد المنسحبين بأنفسهم من الحياة وملذاتها.
حتى تلك اللحظة لم يعلم الشيطان بالسر الذي سوف يغير كل حساباته ويقلبها رأساً على عَقِب، فكان مسروراً مطمئناً بكل ما يحدث.
إنه أقسم بعزة الله بأنه سيغوي جميع العباد إلا عباده المخلَصين منهم، قال إبليس: ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين ).
كم كان إبليس سعيداً وهو يرى ذلك المجتمع المنتشر فيه الوثنية والشرك وعبادة الأصنام وكل الموبقات، إنه المجتمع الذي يوجد فيه بيت الله الحرام والذي بناه سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.
لكن هيهات أن تضيق الحلقة وتستحكم ولا تفرَجُ، لقد صمتت السماوات والأرض عن سر دام دهور طويلة ما يَقرُبُ من ستة قرون منذُ بداية ظهور الديانة المسيحية التي جاء بها السيد المسيح عيسى عليه السلام، هو السلام للبشرية بعد طغيان اليهود.
ثم جاء خاتم الأنبياء والرسل الذي نزل عليه الوحي حاملاً الرسالة الإلهية مخاطباً بها الرجل الصادق الأمين الذي كان وبحق أهلُ لحمل الأمانة وتوصيل الرسالة.
إنه خطاب من الله عز وجل لرسوله ونبيه ومصطفاه، مخاطباً به العقل فكانت كلمة ( إقرأ ) إنه الأمر في ظاهره والحياة كلها والنجاة في باطنها، إنه خطاب العقل والمنطق ليصل من خلاله إلى الروح والقلب وكل جارحة من جوارح الإنسان، إنه الأمر الذي يعتمد على العقل والتفكر والتدبر في الكون، في خلق الله عز وجل.
تبدو لك كلمة لكنها لا تشبه أي كلمة، لم تنزل من قبل على أي نبي من الأنبياء السابقين، إنه خطاب العقل وإعجاز في حد ذاته لأمة كانت تشتهر بفصاحة اللسان فجاءت كلمات الله عز وجل معجزة بكل ما تعنيه الكلمة، إنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، ومن الذي علمه..؟ علمه شديد القوى.
إن جميع الرسالات السماوية السابقة إعتمدَ فيها الخطاب على إعجاز حسي مادي كالطير الذي يعود إلى الحياه مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، وسفينة نوح، والعصا التي تسعى واليدُ التي تخرج بيضاء مع موسى، وشفاء الأكمه والأبرص بإذن الله مع عيسى عليهم جميعاً السلام، كل الرسالات تُخاطب في الإنسان الحواس، ولكن هذه المرة كانت لغة الخطاب جديدة تعتمد على العقل والمنطق.
تلك هي كلمة السر والشفرة الإلهية بعيدة عن كل الأساطير والخرافات، شفرة إن عُرِفت سَتُفتَح على كَنزٌ من العلم والعمل والإنفتاح على العالم بأسره، الكنز الذي لا ينفذ أبداً، هي كلمة السر للخروج من غار الظُلمة والجهل والعبودية والإنغِلاق إلى عوالم آخرى فسيحة.
نعم إنها كلمة السر التي عندما عَرِفها العرب وأدركوا قيمتها أحدثوا نهضة كبرى في شتى المجالات وتحولوا من قبائل همجية هشة على هامش التاريخ إلى صُنَّاع حضارة وواحدة من أعظم الحضارات في التاريخ.
كلمة إقرأ كانت نقطة التحول والنور الذي غَمَرَ العالم كله، إنها الشرارة الأولى التي أخرجت هذه الأمة من ظُلمة حالكة من العبودية والوثنية والشرك ليس فقط في مكة، بل للخروج من كل ظلام وكل غار لإنها جاءت للعالمين.. لكل البشر.
يا لها من كلمة..! إنبعثت منها كل الأوامر والفروض، إنه الأمر الأول في الرسالة الإلهية النبع الذي تفرعت منه أنهار الفروض الأخرى ” الصلاة، الصوم، الزكاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وغيرها من الفروض التي جاءت لصلاح البشرية … “.
إقرأ.. البوابة والمدخل والإشارة التي تَحمِلُكَ على التأمل والإنتباه لتصنع منك إنساناً له القدرة على الإختيار والتمييز، لن تعثر عليها في حفريات أو في باطن الأرض بكل ما تحتويه.
إن أردت العثور عليها سوف تجدها في وعي وعقل الإنسان، إنها إختياره بإرادته ليكون إما واعياً متخطياً كل الحواجز والعقبات التي تعوقه عن إكمال مسيرته ودربه في الحياة ليدرك المعاني العميقة الكامنة في كل ذرة من ذرات الكون، في كل ساكن ومتحرك فيكون بحق كما أراد له الله أن يكون خليفته في الأرض.
كانت تلك هي الكلمة والهمسة في أُذن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي أصبحَ صداها بعد ذلك مدوياً يَعُم أرجاء الكون بِأسره، فأضحت النواة لكل تطور حقيقي والسُلَم الذي كلما صعدتٌ منه درجة كلما غٌصتُ وتعمقت أكثرُ في بحور المعرفة وإزددتُ رٌقياً وحضارة.
إنها البداية والنهاية وما بينهما حياة كاملة، إنها الشئ الذي يزن كل معادلة والسبيل إلى التطور الإنساني والأخلاقي، إنها الحكاية التي لم تنتهي بعد.
صلوات الله عليك وسلامه يا رسول الله ياحبيب الله فقد كنت البدر الذي طَلَعَ علينا من ثنيات الوداع المبعوثُ فينا ولنا الذي جاءَ بالأمرِ المطاع فكنت يا رسول الله خير داعٍ لأشرف رسالة لأنها رسالة ربانية إلهية وحي من السماء، والتي وجَبَ الشكر عليها في كل وقتٍ وحين.