أساتذة أكاديمية الفنون ممنوعون من ممارسة مهنتهم … كارت أصفر
د. ثناء هاشم | القاهرة
كاتبة سيناريو وأستاذ السيناريو بالمعهد العالى للسينما
“برجاء التنبيه على جميع أعضاء هيئة التدريس بعدم مزاولة مهنتهم أو القاء الدروس أو الاشراف عليها أو القيام بعمل من أعمال الخبرة أو القيام بأي عمل فنى خارج الأكاديمية أو السفر خارج البلاد أو..أو.. إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق من أ.د. رئيس الأكاديمية”.. تلك الجمل المستدعاة من قانون رقم 158 لسنة 1981 الخاص بتنظيم الأكاديمية والذى صدر أواخر عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات والذى صدر في نهايات عصر مناخه السياسى الكئيب، إذ تم فيه الإجهاز على المشروع الناصري الثقافي والذى كانت من أهم ملامحه إنشاء أكاديمية الفنون بمعاهدها المختلفة على يد وزير الثقافة الأشهر ثروت عكاشة، عام 1969، لتغلق في عهد السادات المؤسسة العامة للسينما بدعوى أنها تخسر، تلك المؤسسة التي أنتجت أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، وذلك العهد أيضا الذى شدد فيه وزير الثقافة جمال العطيفى الذى عين عام 1976 ، شدد على قوانين الرقابة على السينما والمصنفات الفنية بشكل عام والتي أضافت بنودا مجحفة لقوانين الرقابة القديمة التي بدأ وضعها عام 1946 ثم تفصلت بنودها عام 1955، فأضاف العطيفي منع ظهور الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة، وصور الأنبياء عموما بم فيهم السيد المسيح في اعتداء سافر على حق ديانة أخرى كالمسيحية في إظهار صور السيد المسيح التي تملأ الكنائس والأديرة، وقد جاء هذا نتيجة لإتجاه السادات لتملق جماعات الإسلام السياسى وهيأ لها المناخ لتنمو وتظهر حتى تم اغتياله على يديها بعد ذلك في أكتوبر 1981 في بعد شهر واحد من صدور ذلك القانون المشبوه الذى أراد من خلاله أن يسيطر على القلعة الأهم لتخريج المبدعين الدارسين، وشكلت نواة صلبة للتنوير في مصر منذ انشائها وهى أكاديمية الفنون، وقد استدعته رئيسة أكاديمية الفنون الآن لأسباب معلومة ومعروفة لا مجال هنا لتفصيلها تتعلق باعتراض بعض الأساتذة على بعض سياسات الأكاديمية وقرارتها التي تمس وبشكل واضح مصالحنا وأوضاعنا العلمية والأدبية والمادية، وقد كان وقع هذا القرار مؤلما على نفوسنا ومذاقة مرا كالعلقم في الحلق، إذ كان مفتتحا بالنسبة لى بشكل شخصي لسفرا ذهنيا بعيدا لذلك اليوم الذى وطأت فيه قدمي عتبة معهد السينما، والذى حكيت في أكثر من موضع أننى التقيت فيه وروحى الهائمة لأول مرة والتألمت وتصالحت في قاعات درسه البسيطة مع نفسى والعالم كله، واستقرت بين جدرانه وتبلورت كل الأحلام الحلوة التي اختبأت لسنوات في قلبي وروحي وعقلى، حلم تعلم واحتراف الكتابة ولاسيما السينما، لم تكن مصر وقتها في نهاية التسعينيات في أفضل حال، ولكن معهد السينما وأكاديمية الفنون كانا أشبه بالمحمية الطبيعية، مبدعون كبار يروحون ويجيئون بخفة وخيلاء أمام أعيننا طوال الوقت، نجوم صناعة السينما يتركون مواقع التصوير ويضحون بآلاف الجنيهات ليحاضرون لبضعة طلاب حالمين بالفن، وينقلون خبرتهم الكاملة بعطاء نادر، ويتمنون لنا دوما حظا سعيدا وأملا نبيلا في أن نخلفهم يوما ما ونملأ مساحاتهم البهية في الإبداع، يأخذوننا من أيدينا لمواقع التصوير لنتعلم ونتدرب، يعودون من مهرجانات العالم من الطائرة إلى المعهد مباشرة بأحدث الأفلام من أجلنا، فقد كانوا دوما صلتنا المتينة بالعالم وملاذنا الوحيد لمشاهدة أفلام الدنيا قبل أن تيسر التكنولوجيا الوصول للأفلام والمعلومة والحدث، لقد كانوا مزيجا فريدا من الأساتذة الذين يحترفون الأستاذية والمبدعين المستقلين واسعي الأفق، لقد واجهتني تلك السطور التي ألقتها رئيسة الأكاديمية في وجوهنا بكل عوار حاضرنا، وجففت في روحى تلك النوستالجيا لماضى أكاديميتنا العريق، والتي تبقي على زهرة الحلم في أرواحنا حية، تلك الذكريات العذبة لأساتذتنا الكبار الذين رحلوا تاركين في شخصيتنا وتكويننا أعظم الأثر، وأى حديث عن كون استدعاء هذا القانون وإعادة تصديره لأساتذة الأكاديمية له غرض تنظيمي أو لضبط دولاب العمل، لهو عار من الحقيقة تماما، إذ أن الواقع يثبت أن الأساتذة المهمين في مجالاتهم بالأكاديمية هم أحرص الناس على حضور محاضراتهم والعناية بطلابهم ونقل خبراتهم الاحترافية إليهم، وبذل جهد مضاعف من أجل رعايتهم، وبالطبع من بمقدوره المنح بمقدوره المنع أيضا، فهل سيوضع أساتذة أكاديمية الفنون تحت الوصاية، وهم المصنفون بين أساتذة الجامعة بالكادر النادر، وهل يمكن تحت أي ظرف منع مبدع من ممارسة إبداعه ولأى سبب، وهل الأساتذة في كليات الطب أو الهندسة أو الحقوق أو الإعلام يمكن أن ترتهن مهنهم بترخيص من رؤساء الجامعة، وإذا لم يعط الترخيص لأى سبب، هل سيتحولون ساعتها لأساتذة كشكول، وإن كان هذا غير وارد في كليات العلوم التطبيقية فما بالنا بالفنون وآدابها، إن أعلى درجة في أي مهنة هي الاحتراف، فهل يصبح هذا القرار الخطير بمثابة تكئة للحيلولة بين أستاذ الأكاديمية ومهنته، جميعنا التحق بالأكاديمية لكى يصبح يوما ما مبدعا في مجاله، كاتب، مخرج، مدير تصوير، مهندس ديكور، ممثل، موسيقى، راقص باليه، قبل أن يفكر فى أن حلمه قد يتطور ويصبح أستاذا للمهنة، وهى منطقة من العمل تنطوى على مشقة كبيرة، أن تصبح أكاديميا تعمل على النظريات وتطورها بالبحث والتعلم الدائم وتنقلها للطلاب الجدد الذين سيكملون الطريق، ما بين الطليعيين منهم أوالممارسين العاديين للمهنة، وكليهما التعلم يطيل عمر موهبته ويطورها، فكيف سنفعل ذلك ونحن مقيدين بأخذ تراخيص للعمل كأننا نعمل في التجارة، هل معاهد السينما في العالم وكلياتها التي تسعى بكل وسائل الترغيب خلف نجوم والمحترفين وممارسي الإبداع، لكى يقوموا بالتدريس بها ونقل خبراتهم لمتعلمى السينما ستشترط عليهم أخذ تراخيص للإبداع إذا ما تعاقدوا معهم، أم أن النظم القديمة التي مازالت تحكم تعيين أساتذة الجامعة لدينا من أول وجوده كمعيد وحتى وصوله للأستاذية هي التي تسمح بمثل هذا التفكير، إن الجامعات الكبرى في العالم تسوق لأهميتها بأهمية من يدرسون بها، ومعايير جودة التعلم لديها ليست مجرد أوراق يتم وضعها في ملف والإطمئنان لوجودها فحسب، وإنما تستقى معاييرها في الأول والأخير من قيمة الأساتذة ومنتوجهم العلمى والفكرى والثقافى والإبداعى الحقيقى، والذى تتباهى به كيانات التعلم الكبرى والحديثة وتدعمه وتحميه، لا كيانات المعابد العتيقة، ولا تستدعى قوانين عقيمة من الماضى وتعيد تصديرها، وتختصر وظائف العمداء في الإبلاغ عن مخالفات من تسول له نفسه أن يمارس مهنته الأساسية بلا ترخيص، كيف يمكن أن يعمل أستاذ للفنون في ظل مناخ كهذا؟ مناخ يرهن إبداعه ومهنته بترخيص من رئيسه، إن الشروط والأحكام الطبيعية لأى فرد يعمل في الدولة والخاصة بطبيعة عمله ومحدداتها القانونية معلومة ومفهومة كامتلاك الشركات والتعيين في أكثر من جهة فيما يخالف قوانين العمل والنظم التأمينية إلخ..، أما ما دون ذلك فهو أمر آخر، خاضع لأسباب أخرى ذات صلة بالنظم الشمولية التي تستهدف الإبداع والمبدعين الذين هم منوط بهم تنوير الأمم، والمعلم أو الأستاذ الجامعى أحد الأدوات الهامة لنقل المعرفة التي هي جوهر أي حضارة، فهل نعود للوراء أم نتقدم للأمام، وهل نقل المعرفة قابل أن يحدث في ظل حصار الأستاذ الذى هو أعلى درجة علمية في أي مكان، وإمكانية منعه من السفر والتنقل وعقد صلات عميقة مع العالم، ولا سيما أساتذة الفنون، هل عدنا لزمن الكارت الأصفر، والذى كان يعد اعتداءا سافرا على حق من حقوق الإنسان بالسفر والتنقل، والذى اتخذ مجلس الوزراء قرارا منذ مايقرب من ثلاثين عاما بإلغائه، وعندما قدم المجلس الأعلى للجامعات وقتها عرضا باستبداله بالكارت الأبيض الذى يصرح بمقتضاه بالسفر لأعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعات ومعاهد التعليم العالى بمصر، قوبل هذا الاقتراح بعاصفة من السخرية والرفض كأن المشكلة في اللون، وليس ما يعبر عنه الكارت أو (الترخيص) من تقييد للحريات
إننا نتشبث بأى فرح يولد من أي تغيير حقيقى نحو كل ماهو أفضل وفى صالح الثقافة والإبداع والفكر الذين هم عنوان حضارة أي وطن، ونشعر بالفخر والاطمئنان عندما يتقلد أساتذة الأكاديمية وأبنائها مواقع قيادية في مضمار الثقافة، ونظن أنهم حراس أمناء على مشروع وطننا الغالى الثقافي والحضارى، من وزراء ومسؤلين مهمين وخبراء ومستشارين إلخ، إننى أكاد أزعم أن رجع الصدى لهذا القرار علي لا يقل عن ذلك اليوم الحزين عام 2008 والذى خرجت فيه من معهد السينما بعد انتهاء محاضراتنا، الدكتور محمد كامل القليبوبى النبيل العظيم وأنا، لنتفاجأ بمجموعة من العمال ينقضون على اللوحة النحتية الكبيرة التي كانت من أشهر معالم أكاديمية الفنون والتي كانت تزين واجهة قاعة سيد درويش، للنحات والمصور وأستاذ ومؤسس مدرسة النحت المصرى الحديث أحمد عثمان، ولازلت أذكر الحالة التي انتابته وهو يروح ويجىء ذاهلا أمام أكوام الهدد بأسى وحزن شديدين، ويردد بحسرة ويأس (البرابرة .. البرابرة)
وكتب وقتها مقالا تاريخيا نشر بالأهرام، يوثق فيه تلك النكسة الثقافية التي خلفتها تدمير هذا العمل العظيم والمتحفى واستبداله فيما بعد بواجهة رخامية سوداء قبيحة
ربما استعدت كلية وأنا أقرأ سطور ذلك القرار، هذا اليوم الحزين بكل مشاعره الأليمة والمحبطة، واستشعرت خطرا يلوح في الأفق شاركنى فيه أغلب الزملاء المحترمين، وقفز سؤالا مخيفا وكابوسيا في عقولنا، ربما لا علاقة له بواقعية تنفيذ القرار من عدمه، فليس هذا هو جل ما يشغلنا، وإنما ما يعنينا بصدق، ونتوجه به للأستاذة الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة ابنة الأكاديمية والأستاذة بها في الأساس، هو ما الذى بحق ينتظر أكاديمية الفنون ذات التاريخ الكبير بعد ذلك؟