بقلم: طارق حنفي
بقايا الصناديق تملأ الحي، تصطدم بها الأعين في كل مكان، في الحارات والأزقة، في الميادين والطرقات، تتعثر بها الأقدام أنَّا ذهبت؛ فيهيج قاطنوها ويُسمع صوت النعيق..
حطام الصناديق في العموم صنفان، أحدها احتوى – فيما مضى – أفكارًا والآخر احتوى الأحلام، يسكن أحدهما بوم والآخر احتله الغربان.
لقد تعثر أحدهم وسقط، وإن بدا تعثره وسقوطه عجيبًا؛ لقد سقط جسده على الأرض بينما انحشرت رأسه داخل بقايا صندوق ما..
منذ اللحظة التي حُشرت فيها رأسه بدا له هذا الصندوق مختلفًا؛ فهو مقسم من الداخل إلى قسمين، ويحوي الصنفين..
فجأة، برقت ذاكرته وأضاءت جانب مظلم من أعماق ذكرياته، برز جزء منها على السطح، منذ زمن بعيد، حين دوَّى صوت مجذوب الحي كالرعد..
لقد صاح صيحتين، بعد الأولى قال: ”اصنع صندوقًا لأحلامك“، وبعد الثانية: ”وآخر لسبل تحقيقها“..
اعتبرها إشارة؛ شرع يصنع صندوقه الخاص، وكلما مر عليه أحدهم يقف أمامه في ثبات، لحظات، ثم يلتفت إلى الصندوق بآلية وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، يسير بعدها في طريقه بخطوات رتيبة.
لم يك صندوقه كأي صندوق؛ لقد قسمه من الداخل إلى قسمين، وجعله يحوي الصنفين، الأحلام وسبل تحقيقها..
غمر قلبه السرور وهو يتطلع إلى الأنوار التي تتراقص كلما ضوت الأحلام، وتشيع زاهية كلما ومضت الأفكار، ثم أغلق الصندوق بإحكام..
لكنه سُرق منه!
تمنى أن يجده، فتش عنه هنا وهناك، بحث في كل مكان دون جدوى، عاهد نفسه على صنع واحد آخر، لاحقًا..
بمرور الوقت تكاسل..
ودون أن يدري بدأ يسير على نهج جديد، الحياة دون صندوق..
مر الوقت، وأذعن للأمر.
ما عادت تبرق، انحسر الضوء، أظلمت، غاصت ذكرياته
عميقًا، انزوت في ركنها مرة أخرى..
أخرج رأسه من الصندوق، وقف في ثبات، لحظات، ثم التفت إليه بآلية ووجه يحمل ابتسامة ساخرة، ثم سار في طريقه بخطوات رتيبة.
كنت أراقبه كعادتي، ثم صحت صيحتين وسرت في الاتجاه المعاكس.