الناقد السعودي عبد الله الغذامي والشاعران عبد الرزاق الربيعي و وسام العاني [وجها لوجه] (1)

خاص | مسقط – الرياض

قال الناقد السعودي الكبير الدكتور (عبد الله الغذامي) “أخطر ما في المعرفة أنّ طبيعتها زئبقية. وكلما أحسستَ أنك أمسكت بها انفلتت. فإذا أدركنا المعرفة فهذا يعني النهاية. ما دمنا نسير باستمرار وراء المعرفة ولا نتقدم عليها، بل حتى لا نرافقها، فهذا يعني أننا نتقدم”.
جاء ذلك عندما حلّ ضيفاً على برنامج “كتاب مفتوح” الذي يعده ويقدمه الشاعران عبد الرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك مساء الخميس 4/2/2021 في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي قدم خلالها طروحاته وأفكاره في النقد الثقافي والحداثة وراهن الثقافة العربية وإشكالاتها الفكرية.
وأضاف الدكتور عبد الله الغذامي الذي رفد المكتبة العربية النقدية بالعديد من الكتب المهمة في مجال النظريات النقدية وتطبيقها وهو صاحب مشروع النقد الثقافي وآخر عن المرأة واللغة:
“المعرفة أكبر من أن يحيط بها بشري واحد. ولو استعرضنا الفلسفة من سقراط حتى الآن سنجد أن أسماء الفلاسفة ما تزال حية في الجامعات رغم مرور قرون من الزمن على ظهورهم.

وهي حية لأنها لم تكتمل فالمعرفة المكتملة تنتهي باكتمالها مثل اكتمال العمر أو مثل اكتمال البناء. أما البناء الذهني والمعرفي فهو متمرد على الاكتمال ولهذا السبب الذهن البشري يشاغب ذاته باستمرار”.

الناقد منقود

وأضاف الغذامي: “قلت مقولة أساسية أصدقها على نفسي وأصادقها بنفسي وهي أن الناقد لا يبلغ هذه الدرجة من المسمى إلا إذا كان منقوداً وإلا يتحول إلى سلطة معنوية تعتقد أن باستطاعتها تدمير من تريد من الشعراء.

لكن إذا كان مستمراً في مشاغبة تجاربه فحينئذ لابد من أن يُشاغَبَ المشاغب. مثلاً لاعب كرة القدم المشاكس في الملعب نرى أنه دائماً يجد من يشاكسه ولكي يتحرك في الملعب لابد من المشاكسة والفكر البشري هكذا. ما دمنا نتحرك باتجاه أن الناقد منقود فسيظل هذا الناقد في حيوية لأن ناقديه يشاغبون هذا الفكر عنده فيتحمس لبناء فكري جديد محصن بالمعرفة وليس بالقوة التي هي سلطة الناقد المعنوية”.
وتقدّم الدكتور عبد الله الغذامي بالشكر لمضيفيه ثم داعبهم بقوله إنه يرجو السلامة وهو في ضيافة شاعرين باعتبار أن الناقد مستهدف من الشعراء متأسياً بقول المتنبي (وعداوة الشعراء بئس المقتنى).

نقطة الضوء الأولى
بعدها تحدث عن رحلته المعرفية، ابتداء من (عنيزة) القرية التي ولد وترعرع فيها الغذامي، قائلاً:
“أنا مدين لعنيزة وباعتبارها كانت مدينة صغيرة وبيئة محدودة فالقراءة فيها كانت متاحة بالنسبة لي. ولما انتقلت إلى الرياض في أولى سنوات الجامعة انبهرت بالمدينة وبإغراءاتها مع حيوية تلك الفترة في خضم تيارات العروبة بين عامي 1965 و1966، تغير وضعي في الرياض، لذلك عندما أعود إلى عنيزة بذاكرة ما قبل الجامعة أجد أن عالم القراءة هو ما كان يشغلني آنذاك بصحبة صديقي الأثير (محمد السليم) يرحمه الله والمباريات والمنافسة الشديدة بيننا على القراءة حيث كنا نبتلع الكتب ابتلاعاً. و(عنيزة)، بعد أن غادرتها نهاية عام 1964، لم أعد إليها إلا زائراً فقط لذا ظلت بمثابة نقطة الضوء الأولى في حياتي وأدركت لاحقاً بتقدم العمر والتجربة أنها البوتقة التي صنعت مساري كله فيما بعد. خاصة المعهد العلمي في (عنيزة) بمدرسيه الكبار مثل الشيخ (محمد بن عثيمين) والشيخ (علي الزامل) وهؤلاء الأساتذة لم يكونوا عاديين ولم أدرك قوتهم المعنوية والعلمية إلا بعد الذهاب إلى الكلية فاحتقرت الكلية لأن أساتذتها لم يكونوا بحجم أساتذة المعهد العلمي، بالإضافة إلى أنني في المعهد استطعت قراءة العديد من الكتب المهمة مثل العقد الفريد والمعلقات وشروحاتها والكامل للمبرد ومروج الذهب والأغاني والكثير من هذه الكتب القيمة حتى كتب طه حسين. لكن في الكلية لم يكن الأساتذة بنفس المستوى ولا التحدي في القراءة.

مثلاً نحن درسنا شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك في الثالث المتوسط على يد الشيخ محمد بن عثيمين ولا يزال الكتاب عندي بشروحاته وتعليقاته. أما في الكلية فقد كان المقرر شرح ابن هشام على ألفية ابن مالك بمعنى أنني قرأت سلفاً في المعهد ما هو مقرر في منهاج كتاب الأدب في الكلية.

ومن ميزات الشيخ ابن عثيمين في ذلك الوقت أنه لا يدرس وإنما يحاور حيث يطرح السؤال عند دخوله إلى الفصل ويطلب منا جواباً وبعد أن يعطي كل واحد منا جوابه يعطي هو رأيه.

وهكذا دربنا على تفتيق الأسئلة والتحفز للسؤال. كما دربنا على فكرة أن جوابي على السؤال ليس بالضرورة أن يكون جواباً صحيحاً المهم التحفز للتفكير بالجواب وليس تحري الجواب الصائب”.

قلق معرفي

وعن بواعث القلق المعرفي والتغيرات في تجربته الممتدّة على عقود من الزمن تحدّث الدكتور عبد الله الغذامي قائلاً:
“عندما يقول السياب:
(أصيح بالخليج: يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى
فيرجعُ الصّدى
كأنه النشيجْ: يا خليج يا واهب المحار والردى)
فإنه هنا يصف تجربة كل غواص غاص في البحر وهي تشبه التجربة العلمية إذا كانت على مستوى الغوص حيث من الممكن أن تغوص بحثاً عن المعرفة لكنك قد تعود بالمحار والردى.

في هذه التجربة التي يصفها السياب هو يصف تجربة الباحث القلق الذي يدخل وهو يسائل نفسه والتوق الذي كان عنده. ولما تدخل وتجرب في مجال النقد الأدبي الموجود في الصورة معرفياً منذ قرون ونما بنظريات وتجارب عديدة لكنه ظل يطرح سؤال الجمال والإبداع منذ أرسطو أول من نظّر للنظرية النقدية في كتابه فن الشعر الذي نقله أسلافنا واستمر في العصر الحديث واستمرت النظرية.

الإشكالية كانت في الاستمرار وهذا ما وجدته عند نفسي وهو ما حدث بالضبط عام 1987 حيث دعا اتحاد الأدباء العرب إلى ندوة في أبو ظبي تحت عنوان (الشعر في الخليج العربي) وكنت قلقاً من المشاركة ولم يكن من الصحيح الاعتذار وكان قد مر سنتان على صدور كتابي (الخطيئة والتكفير).

ورغبة في تقديم مادة حية فكرت أن أحتال على الموضوع وأنظر في تجربة شاعر كبير، واخترت (حسين سرحان) من الجيل الأول المبكر في المملكة، وغازي القصيبي في الوسط ومحمد جبر الحربي وأخذت لكل واحد منهم قصيدة واحدة في الغزل وصرت أقارن بين الخطابات الثلاثة التي تمثل أجيالاً وتنوعات، فحسين سرحان عاش عمره كله في مكة لم يغادرها قط بينما غازي القصيبي طاف العالم ومحمد الحربي ينتمي للحداثة بمعني تتوفر ثلاثة عصور أدبية وثقافية بأذواق مختلفة نوعياً واستخرجت نماذج المرأة في القصائد الثلاث فوجدت ثلاث نماذج للمرأة متغيرة ومتحولة وهذا ما أدخلني أول ما أدخلني على النقد الثقافي وأن للنقد الأدبي وجهاً آخر غير ما هو جمالي. لاحقاً استعضت عن النماذج بالأنساق كما انفتح عليّ موضوع المرأة واللغة ليخرج خمسة كتب عنها لاحقاً ثم نضجت الفكرة باتجاه النقد الثقافي فصرت أعمل على الأنساق وليس على النصوص.

وبما أنها نصوص، فإنه ينضوي تحتها أنساق وأشياء خفية. لذلك محمود درويش باعتباره واحداً من الاستثناءات في الشعرية قال ذات مرة (إن كان لا بد من التقليد، فقلّد غيرك لا تقلّد نفسك) وليس مهماً أن ننشغل بسلبية فكرة تقليد الغير فالمعنى هنا لا تكرر نفسك.

لذا محمود درويش لا يكرر نفسه في كل قصيدة بل يتعب باستمرار للبحث عن نص مختلف. حتى أواخر عمره يرحمه الله كان يعمل على قصيدة طويلة جداً لا تكون شعراً بل نثراً فيه كل ما في الشعر وفيه أرقى درجات النثر. حتى أنني قبيل وفاته كتبت عنه دراسة أعجبته الدراسة وشكرني عليها، قلت فيها أن درويش ناثر وليس شاعرا ثم شرحتها لاحقاً، فما عنده أكثر من مجرد قصيدة حتى تقول عنه شاعراً وهو الخطاب الذي فوق كل شيء.

وهنا أشير إلى جملة ذكية جداً لطه حسين، الرجل الأعجوبة، عندما طرح رأيه في بلاغة القرآن وقال إن القرآن ليس شعراً وليس نثراً بل أن القرآن قرآن بمعنى خطاب قائم بذاته. وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون الشيء شبيهاً لواحد من شيئين آخرين محددين، فمن الطبيعي أن يكون نموذجاً قائماً بذاته ولا يشبه غيره.

الرئيس الأمريكي (ترمب) مثلاً سيصبح أسطورة في الأجيال القادمة لأنه شيء مختلف عن كل شيء آخر، ولم يدخل للبيت الأبيض رئيس مثله من قبل، ولا أظن أن رئيساً مثله سيأتي من بعد.

لذلك نحن نستمر في البحث عن اللؤلؤة، وأحياناً لا نجد إلا محاراً، نموذجاً للا نموذج. هذه المسائل تجعل النقد الثقافي ضرورياً في حين أن النقد الأدبي لا يكتشف هذه الأمور. وهذا ما وجدته بنفسي عام 1987 عندما قررت أن أكتب بطريقة مختلفة عن الشعر في الخليج، مختلفة عما أكتبه أنا أو يكتبه غيري، وأجرب هذه الطريقة ثم ظل عندي هذا الحس باستمرار”.

غوص في النص
وفي مداخلة للناقد والأكاديمي العراقي الدكتور سعد التميمي، أشار إلى أن مشروع الغذامي في النقد الثقافي يعد ريادة في المنطقة العربية ومن بعد ذلك جاءت الكثير من الدراسات. وأضاف:
“قد يكون الإشكال الوحيد على هذا المشروع هو الغاؤه التام للآخر وأعني هنا النقد الأدبي رغم الجانب الجمالي للنص الأدبي. لكن مشروع الغذامي ظل يهدف إلى الغوص في النص للتحول من الخطاب الأدبي إلى الخطاب العام لذلك جاءت التحولات الكثيرة في كتبه لاحقاً.

وهنا أسأل الدكتور الغذامي هل كانت هذه التحولات تجريباً دائماً أم أن من طبيعة الدكتور أنه لا يستقر على منهج معين كجزء من حركية الفكر النقدي عنده؟”

أجاب الدكتور الغذامي قائلاً: “مسألة الاستقرار متعبة في تكوين الذاتي. تجربة عام 1987 كانت مهمة من حيث أظل مستقراً كما يتوقع الآخرون خصوصاً أن كتابي (الخطيئة والتكفير) كان ما زال حاضراً في الساحة وفكرة البنيوية مازالت طازجة حينها. وكانوا يتوقعون أن أظل في البنيوية وهذا ما لم أشأه لنفسي. بالإضافة إلى رغبتي في ألا أظل ثابتاً فيما يتوقعه الغير مني.

مثلاً الجمهور في الأمسية الشعرية عندما يصفق لمفردة توصّل إليها قبل أن ينهي الشاعر البيت، فهو يصفق لنفسه ظناً منه أنه وجدها قبل الشاعر. بينما الشاعر الإنكليزي الذي سُئل عن الشعر أجاب أنه كالصقر لا يعرف صيده إلا حين يراه، بمعنى أنه لا يستطيع تعريف الشعر الذي إن عرّفته لن يعود شعراً، ويبقى هو الدهشة التي لا تُعرّف.

الفرزدق مثلاً عندما سمع بيتاً للبيد سجد وقال إن للشعر سجدة كما للقرآن سجدات، وهذا بسبب الدهشة التي جاء بها بيت لبيد. المعرفة هكذا أيضاً بمعنى أنها إشراقية كلما بحثنا عن اشراقاتها سنصطاد بعضها ويظل التوق للمزيد. وتعقيباً على سؤال الدكتور سعد أنا فعلاً أقول إن النقد الأدبي مات بمعنى أنه أدى الوظيفة وبمعنى التشبع مثلما أن البلاغة العربية القديمة أدت الوظيفة، لكن لا أقول إن على الناس ألا ينقدوا نقداً أدبياً فهذا لا يصح أصلاً وعملياً غير ممكن.

كما أنني لست ضد من يجمع بين النقد الأدبي والثقافي ويبحث عن الجماليات كما يبحث عن النسقيات، لكن منهجيتي أنا غير ذلك فإذا اهتممت بالجماليات في النص فحتماً سأنشغل عن النسقيات التي كثيراً ما تُهمل. لم يكن يطرأ على بال أحد، ولا حتى أنا، أن نزار قباني نسقي وأن أدونيس نسقي.

ولم أكن أجرؤ أن أقول مثل هذا الكلام حتى دخلت في النقد الثقافي لأن النقد الأدبي لا يكشف نسقية كل منهما رغم أني ما زلت معجباً بشعرهما وأحفظ لنزار الكثير من شعره وأتذوقه وأطرب له.

الجمالية في النص الأدبي بالنسبة لي هي الغطاء الذي يغطي النسق ويمرره فلا بد أن أكشف الغطاء لكي أرى النسق. وهكذا بعد كل كتاب أنهيه، يتبادر سؤال خطير في ذهني (هل انتهيت؟ هل سأصدر كتاباً بعد ذلك؟) ثم يبدأ الانشغال ومثل الشاعر الإنكليزي إذا رأيت صيدي عرفته. بعدها أعطي الفكرة حقها من الخدمة والتأسيس النظري والفلسفي والمعرفي وبالإجراء التطبيقي مع إبقاء المجال مفتوحاً لمزيد من الاجتهادات والانفتاحات.

حينئذ نقدم دراسة وليس مشروعاً. خذ تجربة (شوقي ضيف) يرحمه الله مثلاً فبرغم احترامي له ولكتبه لكن لا مقارنة بينه وبين طه حسين الأستاذ وبين شوقي ضيف التلميذ. طه حسين قلق، حتى تحوله من كتاب الشعر الجاهلي إلى كتاب الأدب الجاهلي هو تحول نوعي ضخم، والذين يقولون إنه تحول بسبب ضغط الأزهر لا يعرفون حياة طه حسين وأنه قلق بطبيعته ويتغير ولا يتردد في أخذ خطوة التغير عندما يرى ذلك صواباً.

بينما شوقي ضيف بقي نمطياً في أبحاثه الأدبية وهو يخدم قراءه بلا شك لكنه لا يخدم قراء طه حسين. الجاحظ كذلك علامة بارزة في التحولات في تراثنا العربي. هذا يعني أنك أمام ملحمة لذا قد تتنوع وتتشكل حتى ينبني هرمك المعرفي”.

العروبة نسق ثقافي
وفي سؤال عن الجذور العروبية للغذامي وتحوله من شاعر يتقد عروبة وحماسة إلى ناقد، وبعد اتضاح مشروعه الثقافي، هل أصبح من الممكن محاكمة العروبة باعتبارها نسقاً ثقافياً مضمراً، أجاب الغذامي:
“العروبة نسق ثقافي ولكن غير مضمر. ذلك أن تسارع الأحداث في الساحة العربية من عام 1956 إلى عام 1973 والأجواء المفعمة بمشاعر الوحدة العربية لم تسمح لنسق العروبة أن يكون مضمراً بل كان واضحاً على امتداد المسافة الزمنية في كثير من النصوص الأدبية مثل نصوص (سليمان العيسى).

بعد ذلك أصبحت العروبة أيدولوجيا سياسية وتبعاً لذلك أصبحت قامعة كما حدث في الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم العروبة. ثم ظهرت فيما بعد مشكلة الأقليات في العالم العربي والتي كانت وطنية ولكنها قمعت باسم القومية العربية وبالتالي شوهت القومية العربية.

ثم أصبح المعنى الذي تربينا عليه صغاراً يتفتت ويتهشم أمامنا حتى ظهر مفهوم الدولة الوطنية كبديل لمفهوم الدولة القطرية في الأدبيات القومية، وأنه كلما اعتنت الدولة الوطنية بتكوينها فإنها ستنتهي إلى القوة التي ستنتهي أخيراً إلى قوة عربية.

خروج بريطانيا مثلاً من الاتحاد الأوروبي الآن يهدد هذا الاتحاد الذي كانت قوته بوجود ألمانيا مع فرنسا مع بريطانيا والبقية تبع. العروبة بمعناها السياسي والأيديولوجي لم تعد قائمة لكنها ما زالت حاضرة في نفوس العرب وفي ثقافتهم مثلها مثل المروءة التي تنتفض عند كل محفز”.

المثقفون في كارثة

وفي سؤال عما هو مطلوب من المثقف العربي خصوصاً في ظل مقولة الغذامي السابقة بأن المثقفين في كارثة ومطالبته بإنهاء دور المثقف الجبان، أجاب الدكتور الغذامي قائلاً:
“المطلوب من المثقف ألا يكون مثقفاً. بمعنى ألا يضع هذا الوصف شرطاً لتواصله مع العالم ولتواصله مع نفسه، أو شرطاً لتواصل العالم معه وهنا الخطورة.

الشاعر قد يُقبل منه خطاب الـ(أنا) والغرور لأن هذه هي طبيعة الشعر، لكن كيف يزعم المثقف أنه مصلح ومفكر ويخدم الآخرين وهو يتبنى خطاب الـ(أنا)؟ حتماً سيخدم نفسه وسيتحول فكره إلى قصائد ويدافع عنها كما يدافع الشاعر عن قصائده وبالتالي لن يستطيع الانفصال عن فكره كما في حالة الشاعر الذي لا يمكن أن ينفصل عن شعره.

لذلك على المثقف أن ينهي فكرة كونه مثقفاً وينشغل بالفعل الجاد. مفردة المثقف ابتذلت بشكل غير مسبوق ومثلها مفردة مفكر التي أصبحت تطلق على كل من لا يمكن تصنيفه ضمن الشعراء أو الروائيين أو الكتّاب.

وأنا أسمي المفكر حمار الثقافة كما أن الرجز في البحور الشعرية يسمى حمار الشعر. المثقف لكي يكون مثقفاً، بالمعنى الذي طرحه (غرامشي) عن المثقف العضوي وغيره من الكلام الجميل، عليه أن يكون مفكراً بالمعنى الفلسفي وبمعنى الموقف وبمعنى الإنتاج المعرفي. الصفات خطيرة فعندما يوصف حاتم بالكرم سيكون من الكارثي عليه أن يبخل ولو لمرة واحدة لأنها قد تهدم كل شي”.
وفي سؤال عن الخشية من تحول النقد الثقافي إلى محاكمة أخلاقية للنص الأدبي واستغلال السلطة لهذا المسمى لمحاكمة المبدعين أيدولوجياً، أجاب الغذامي قائلاً:
“كلامي عن المثقف كفرد لا ينسحب على الثقافة كمفهوم. وإذا تحول النقد الثقافي إلى محاكمة أخلاقية فهذا جرم معرفي وثقافي لأن المحاكمة الأخلاقية في أي مجال سياسي أو ديني أو ثقافي هي ليست من شأن المعرفة بل من شأن القضاء والقانون والأحكام القانونية. وأي مثقف يحاكم المبدعين أخلاقياً من خلال نصوصهم الإبداعية يعني أنه استقال من المعرفة ولبس لبوس غير المعرفة وبالتالي نقده واجب.

الناقد منقوداً هي الحصانة الوحيدة التي تحمي الناقد من نفسه ومن أن يرى نفسه سلطة أو يراه غيره سلطة. أما بالنسبة للتخويل فلا أحد يخول أحداً بالمعرفة باعتبار أن التخويل كلمة تنتمي لعالم الإدارة والنظم والتطبيق.

لكن المفكر أو الباحث هو من يندب نفسه لذلك كما يحدث مع الشعراء حين تختاره القصيدة باعتبارها هي التي تختار الشاعر وليس الشاعر من يختارها، وعندما تأتيه تمسك بتلابيبه كما كان يحدث مع الجواهري مثلاً عندما تأتيه القصيدة. الناقد كذلك لا يستطيع أن يقرر الكتابة عن نص ما. على هذا النص أن يمسك بتلابيبه أولاً حينئذ فقط يتمكن من الكتابة عن النص. لذلك القاعدة المعرفية التي نتوخاها، ليس بالمحاكمة الأخلاقية، ولكن بأخلاقيات المعرفة، فأخلاقيات المهنة غير المهنة.

أنا مثلاً لا أحب النقد الأدبي إذن أتركه لغيري ممن يحب هذا المجال ويجيده. حدث لي مرة مع أحد الأشخاص عام 1968 عندما كتبت له قصيدة اعتذار. قرأها وقبل الاعتذار لكنه قال لي بما معناه أن قصيدتك متوسطة وفي زمننا هذا إما أن تكون في المقدمة أو لا. ولم أكتشف أنني لست شاعراً إلا في عام 1983 وأنا منهمك بتأليف كتابي (الخطيئة والتكفير) ومنهمك بالنظريات فوجدت نفسي في النظريات ومن وقتها انسحبت عن الشعر ومضيت مع النظرية النقدية فهناك لحظة لابد أن يجد فيها الواحد منا نفسه ثم يمضي حينما يجد نفسه. لكن علامات البحث عن النفس أن تكون غير مرتاح للذي بين يديك. وبالتالي إما أنك تجد نفسك غير متقن لحقوق وأخلاقيات هذه المهنة أو أنها ليست مهنتك وقد تكون لك مهنة ثانية لم تكتشفها بعد فقط اسمح لها تأتي”.

مشروع تحديث
بعدها قدّم الناقد العراقي الدكتور ضياء خضير شهادة عن الدكتور عبد الله الغذامي قال فيها:
“مشروع الغذامي مشروع تحديث. وهو مشروع حضاري يريد النقلة وتغيير ما هو موجود. فوجود الغذامي في السعودية والجزيرة العربية لا يشبه وجود طه حسين في مصر مثلاً حيث من الطبيعي خروج مفكر مثل طه حسين من البيئة المصرية. وأعتقد أن التحديث الذي يجري الآن في المملكة ليس بعيداً عن الإسهام الذي قدمه الغذامي وكثير من زملائه الذين عرفوا الحداثة وقدروها حق قدرها. أستطيع أن أشبه العلاقة بين الغذامي وبين النقد الثقافي والأدبي بالعلاقة بين الشعر والتاريخ فالتاريخ هو الوعاء الذي يحتوي كل المضمرات من الأنساق التي يستطيع الدكتور الغذامي أن يستخرج منها ما يستخرج من أمور هذا النسق أو ذاك.

وكما يقول أرسطو فإن الشعر أهم وأسمى من التاريخ. فبينما يعني التاريخ بالمسائل الجزئية يعني الشعر بالمسائل الكلية. الغذامي بنقلته من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي يمثل أفقاً أوسع ذا طبيعة فكرية وفلسفية. والقلق الذي يتبناه الغذامي هو عصب الثقافة الحديثة عربياً وغربياً.

ومشكلتنا في الثقافة العربية تاريخيا هو الثبات والركود على ما هو موجود. منذ كتابه (الخطيئة والتفكير) رغم اختلافي معه في بعض الأمور إلا أني وجدت أن صوته مختلف ومتفرد ويستحق الاحترام والمتابعة وأحيي هذا الرجل وأشد على يديه لآن محاولته التحديثية لم تقتصر على بلده العظيم المملكة العربية السعودية بل امتدت إلى خارج هذا البلد”.
عقب الغذامي بعدها قائلاً:
” شكراً للدكتور ضياء خضير لأنه أضاء على جملة مهمة وهي أن الشعر أهم من التاريخ وهي جملة ليست سهلة ولها شأن كبير وهي تستدعي الوعي المبكر عند العرب عندما قالوا الشعر هو ديوان العرب ولم يكونوا حينها أمة تكتب وتدون. الشعر ديوان العرب بمعنى هو بيت الأنساق والحاوي لها. إذا أردت أن تعرف المطبخ الثقافي الذي أفرز الشخصية العربية عليك أن تبحث في المعنى الشعري العربي.

والسؤال كيف نقرأ الشعر لنجعله أهم من التاريخ وهنا يأتي سؤال النقد الثقافي الكتاب الذي عندما أخرجته كرسته عن النماذج الشعرية لتعزيز فكرة الأنساق واستنباطها من النصوص والتعرف عليها وكشف مساراتها. ويظل الشعر من أخطر الخطابات التي تنتجها أي أمة لأنه الحقيقة لذا أطلقت مصطلح الشعرنة على الحالة التي تصيب السياسي ورب المنزل فيتحول في لحظة ما هي ليست لحظة شعرية إلى شاعر بمعنى يتصرف كشاعر. والشعرنة هي حينما نأخذ القيم الشعرية ونحولها إلى قيم سلوكية.

وأؤكد ما قاله الدكتور ضياء أن مشكلتنا في العالم العربي تكمن في التكرار فمن يكرر يقتل نفسه والمتمرد على التكرار هو الذي ينتج. الشاعر إليوت كان معروفاً عنه أنه يشطب كل بيت تتكرر فيه القافية لأنه يشعر مع التكرار أنه دخل في الصنعة بمعنى دخل في الإيقاع ونسي بنية المعنى وهذه خطيرة”.

وعي تنموي
وعن تجربته مع الإعلام العماني ذكر الغذامي الحادثة التالية:
“عام 1979 ربما في أبو ظبي جاء شاب عماني ومعه مسجل كبير وطلب مني حديثاً للإذاعة العمانية وكان يعمل كل شيء من إعداد وتسجيل ومحاورة. وعندما رآني مستغرباً بعض الشيء قال لي أنهم في عمان حينما قاموا بتأسيس الإذاعة كانوا أمام خيار أن يأتوا بمذيعين عرب من ذوي الخبرة أو يقوم العمانيون بذلك ويدخلوا المهنة ويجربوا ويتعلموا من أخطائهم. هنا حقيقة أكبرت هذا الوعي التنموي لدي هذا المذيع العماني. في الوقت ذاته كنت ألقي محاضرات في قسم الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز في جدة وكنت رئيس القسم في ذلك الوقت وكنت أروي لطلابي هذه الحادثة عن التجربة العمانية وأقول لهم أنكم لن تفلحوا ما لم تخطئوا”.

وفي نهاية الأمسية تم الاتفاق مع الدكتور عبد الله الغذامي على تكملة الحوار في جزء ثان سيعلن عن موعده لاحقاً.

بالإمكان مشاهدة الأمسية كاملة عبر الرابط https://youtu.be/gJKUXWMERNc.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى